إسرائيل والعرب وتغير الحسابات الدولية

Egyptian President Abdel Fattah al-Sisi (R) speaks with Israeli Prime Minister Benjamin Netanyahu (L) during their meeting as part of an effort to revive the Middle East peace process ahead of the United Nations General Assembly in New York, U.S., September 19, 2017 in this handout picture courtesy of the Egyptian Presidency. The Egyptian Presidency/Handout via REUTERS ATTENTION EDITORS - THIS IMAGE WAS PROVIDED BY A THIRD PARTY

منذ قرن بدا وكأن وضع الشرق الأوسط وكامل العالم العربي قد استقر على الحال الذي أنتجه المستعمران البريطاني الفرنسي والحربان العالميتان اللتان خاضاها، وما أعدّاه لتثبيت نفوذهما ونفوذ منقذتهما في الحرب الثانية: أميركا.

وقد تضمنت شراكة أميركا تنحياً للدولتين الكولونياليتين والدول الأوروبية -التي شكلت معسكر "الحلفاء"- عن مناطق نفوذ كبيرة، لصالح شراكة أوسع فيما أصبح المعسكر الغربي الرأسمالي مقابل المعسكر الشرقي الشيوعي/الاشتراكي، الذي وُلد أيضا قبل قرن مع اندلاع الثورة البلشفية في روسيا.

واكتملت صورة المنطقة بعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، وكشفت النوايا المبيتة والوعود المصروفة للصهيونية ولحكام يخلفون الاستعمار الكولونيالي، ويشكلون البديل لثورات التحرر التي جرى استغلال تأجيلها أو تسكينها بوعود التحرير، مقابل مشاركة أبناء المستعمرات في الحرب إلى جانب الحلفاء.

نُقل عن قادة إسرائيل -ومنهم موشيه ديان ذاته الذي لم يتوقع نصرا كهذا- أن إسرائيل باتت محصنة من الإزالة التي كانت تخشاها بسبب نصرها في حرب 1967. ولكن لا تورَد حقيقة أن ذلك النصر وتلك الحصانة أتتا من مزيجِ عدمِ الثقة البينية بين الأنظمة العربية وعدم دقة التنسيق

ومع تحقيق الحكم الجديد في روسيا نصرا حاسما على الجيش النازي؛ تكرست وضعية روسيا قائدة للمعسكر الجديد لا يراد التصادم العسكري معها، مما أدى -خلال عقدين تليا- إلى وجود مناطق نفوذ للاتحاد السوفياتي في دول، بعضها قام ضمن تقسيمات سايكسبيكو مثل سوريا، ومصر بعد ثورة الضباط الأحرار. وجرى قبول غربي بذلك النفوذ لكون رفضه أو أي صدام بشأنه كان سيهدد الكيان الصهيوني الهش الذي زرعه المعسكر الغربي في المنطقة.

وتكرس الاعتقاد بديمومة هذه الخريطة -المتشكلة بعد الحرب العالمية الثانية- في ستينيات القرن الماضي بانتصار إسرائيل واحتلالها أراضي ثلاث دول عربية في حرب عام 1967.

ونُقل عن قادة إسرائيل -ومنهم موشيه ديان ذاته الذي لم يتوقع نصرا كهذا- أن إسرائيل باتت محصنة من الإزالة التي كانت تخشاها آنذاك. ولكن لا تورَد حقيقة أن ذلك النصر وتلك الحصانة أتتا من مزيجِ عدمِ الثقة البينية بين الأنظمة العربية وعدم دقة التنسيق، وما يتجاوز ذلك وبدأ يتكشف مؤخرا مما يوجب الشك في إمكانية تكراره في ضوء متغيرات أهمها ثورة الاتصالات.

وأيضا ساعد على الاعتقاد بتثبيت حال العالم؛ أنه -في ذات ستينيات القرن الماضي- تم تثبيت حدود نفوذ قيادتيْ المعسكرين الشرقي والغربي، بعد مواجهة "خليج الخنازير" بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي؛ بما يشبه حالة "لا غالب ولا مغلوب". وفي آسيا في حروب أبرزها الحرب الفيتنامية التي غلبت على أميركا فيها صفة المغلوب.

فيما التغيرات لجهة تراجع الأيديولوجيا الشيوعية صبت في صالح روسيا، التي عبرت البيروسترويكا إلى فدرالية رأسمالية تجعل من موسكو ندا لواشنطن، ومعززة بجوار اتحاد أوروبي أسقط الخيارات العسكرية لصالح عناصر قوة إقليمية ودولية أكثر ديمومة.

والوضع الأخير كان صعبا أن تقبله بريطانيا التي لم تستفق من الحلم الكولونيالي، وترى نفسها أقرب لأميركا التي أصابتها حمى الكولونيالية عند مشاركتها الميسّرة في الحرب العالمية الثانية.

ولهذا بقيت إسرائيل الذراع الكولونيالية الأميركية/البريطانية التي لم تكبّل ببساطة، لأن الهرولة العربية إليها ألغت حتى نصر معركة العبور (حرب أكتوبر 1973)، إذ ألقى السادات بمصر في حضنها بما يقارب تسليم القدس التي زارها يستجدي السلام من محتلها.

وتلته منظمة التحرير بتورط زعيمها التاريخي في أوسلو، مما أتاح خروج اتفاقية وادي عربة إلى الضوء، ليتوالى -إلى يومنا هذا- تكشف علاقات عربية/إسرائيلية أكثر ودًّا من العلاقات العربية البينية، وكله يتم بذريعة التصدي لإيران المستجد الوحيد في المنطقة.

ولأنه لا تجوز -بأي معيار سياسي معاصر- العودة إلى خلافات طائفية بين المسلمين أوجدتها مصالح سياسية قامت قبل قرون، وخاصة لكون ما يهدد العالم العربي المسلم في غالبيته الساحقة هو الصهيونية (وهي تنظيم سياسي بدلالة كون العديد من زعمائه وأتباعه علمانيين) التي تنبش أساطير يهودية وعداءات لهم مع العرب والمسلمين كافة، لتبرر احتلال أرضهم وإبادتهم ما أمكن والاستيلاء على ثرواتهم؛ لكل ذلك فإن أقل ما يجب هنا هو الالتزام بالتحليل الموضوعي لمسار الأحداث وتوقعاتها.

إن خطر إيران -الذي استشعرته بريطانيا وأميركا- بدأ بالثورة الخمينية التي أسقطت حكم الشاه التابع لهما، ولم تقدرا على قمعها وإسقاطها كما أسقطت واشنطن حكومة محمد مصدقالعلمانية، لأن مشاعر القهر الشعبي وجدت صداها في استحضار قهر تاريخي يصل الحاضر بما جرى لأحفاد الرسول (ص) لا أقل.

خطر إيران -الذي استشعرته بريطانيا وأميركا- بدأ بالثورة الخمينية التي أسقطت حكم الشاه التابع لهما، ولم تقدرا على قمعها وإسقاطها كما أسقطت واشنطن حكومة محمد مصدق العلمانية، لأن مشاعر القهر الشعبي وجدت صداها في استحضار قهر تاريخي يصل الحاضر بالماضي

أما الحديث عن خطر إيران بعد أن أصبحت قوة عسكرية يُخشى أن تقفز لتصبح نووية تحديدا لكون احتلال العراق وتدميره من قبل ذات حلقة الجمهوريين الحاكمين الآن (يعملون بالسر متغطين بإشغال الإعلام بتصريحات دونالد ترمب العجائبية حسب مؤرخ بوزن نعوم تشومسكي)، فإنه صبّ كليا في صالح إيران.

فقد تمت الطمأنة بخصوصه بعقد باراك أوباما للاتفاقية النووية بين إيران ودول مجموعة "5+1". وجاءت ثمانية تقارير للوكالة الدولية للطاقة الذرية تؤكد التزام إيران بالاتفاق، وعدم انتهاكها لأي من بنود خطة العمل المشتركة.

وما يحاوله ترمب هو سحب اعتراف أميركا بصحة هذه التقارير وعدم التجديد للاتفاقية، مما يمثل خرقا من طرف أميركا لهذه الاتفاقية. وهو لا يعني أن ألمانيا والدول الأربع الأخرى الأعضاء في مجلس الأمن الموقعة على الاتفاق، ستسير وراء تقلبات أميركا وإدارة ترمب.

خاصة أن هؤلاء عقدوا اتفاقيات ودخلوا في مشاريع كبرى مع إيران بعد رفع الحظر الدولي عنها، وأية عقوبات تعلنها أميركا استنادا إلى "قانون كاتسا" (اسمه ملخص لـ"مكافحة أعداء أميركا من خلال العقوبات") الذي أصدره الكونغرس مؤخرا، ويسعى ترمب عبره لتصنيف الحرس الثوري في خانة المنظمات الإرهابية، مما يُمهد لمواجهة لا يُعلم بعدُ كيف ستتطور.

ولكن في لحظة مقاطعة أميركا لإيران سياسيا واقتصاديا سيسعد آخرون بالحلول محلها، وأولهم روسيا التي جاءت إلى المنطقة لتبقى، وأنشأت قواعد جوية وبرية وبحرية في سوريا. وقد تبدّت عينة من رد فعل روسيا تجاه أي عدوان أميركي يهدد مصالحها المستجدة؛ حين هددت إدارة أوباما سوريا بعمل عسكري، فتحركت بارجة حربية روسية لترسو بالقرب من ميناء اللاذقية.

وكون أميركا قد توظف إسرائيل للقيام بالمهمة العسكرية في سوريا ولبنان باستهداف حزب الله، أو استهداف -أو زعم استهداف- قوات الحرس الثوري، الذي من حق سوريا أن تقبل به على أرضها كما تقبل قواعد وقوات روسية في اتفاقيات دفاع؛ فهو عدوان على كل هؤلاء، وعليها أن تتوقع ردا عليه.

وقد هدد حزب الله صراحة بالرد الحاسم ويتطلع إليه، وهو هذه المرة مدعوم من الجيش اللبناني، وكل هؤلاء مدعومون بالشارع العربي الذي يُسقط محاولات التفرقة الطائفية للغرض الأسمى في نظره. وحتى فلسطينيو الداخل مؤيدون ولو طالهم القصف دون قصد.

ونذكّر هنا بالرجل الفلسطيني الذي سقطت صواريخ عراقية أطلقت على إسرائيل قرب مسكنه، وسُئل إن كان يخشى على أهله فأجاب: "هذه حرب مقدسة ولا نتوقع من العراق أن يميز بين قمح وزوان".

فكرة خوض حرب تدميرية لم تعد صادمة للعالم المعاصر بدلالة تدمير عدة دول عربية كليا تقريبا: فلسطين دمرت وقتل أو أجلي غالبية أهلها، ومن بعدها دمر لبنان مرتين، والعراق دمر وقتل من أهله ما يفوق المليون، ودمرت سوريا بكل إرثها العريق، واليمن وليبيا دمرا

رد إيران لحينه يقول إن وضع الحرس الثوري في القائمة السوداء سيؤدي إلى تصنيف أية قوات عسكرية أميركية باعتبارها مثل تنظيم الدولة الإسلامية (داعش). وأن على أميركا أن تُبعد قواتها إلى ما وراء مسافة ألفيْ كيلومتر التي هي مدى صواريخ إيران الآن.

من المبكر التنبؤ بالحد الذي سينفذ به كل طرف تهديداته؛ فلحينه كانت فكرة تحرير فلسطين تبدو شائكة لأنها تستلزم ما لا يقل عن تدمير الدولة التي أقامها الصهاينة على امتداد أكثر من سبعين عاما (مع أن الصهاينة دمروا ما كان قائما من مدن وقرى عربية) لجعل الغزاة الذين استوطنوها يفرون، كما فعل الغزاة اليهود في جنوب لبنان عند هزيمتهم على يد حزب الله عام 2000، إذ خلعوا "فانيلاتهم" البِيض ليرفعوها على بنادقهم كرسالة استسلام ليخرجوا سالمين!

وفكرة خوض حرب تدميرية لم تعد صادمة للعالم المعاصر بدلالة تدمير عدة دول عربية كليا تقريبا: فلسطين دمرت وقتل أو أجلي غالبية أهلها، ومن بعدها دمر لبنان مرتين، والعراق دمر وقتل من أهله ما يفوق المليون، ودمرت سوريا بكل إرثها العريق، واليمن وليبيا دمرا…

وكلها تقريبا دمرت على يد ذات الحلف الكولونيالي الأميركي البريطاني الإسرائيلي، أو أقله بمباركته. وكلها يعاد أو سيعاد بناؤها على أيدي أبنائها المنتمين لها حتى وإن لم يبق منها إلا ترابها الذي هو من "تربة" آبائهم وأجدادهم.

وذات الحلف يتنطع الآن لتمزيق الاتفاق النووي ويهدد ليس فقط العرب والمسلمين، بل أيضا روسيا وكوريا الشمالية. والأخيرة قد تكون الأقدر على ترويض أميركا ترمب والجمهوريين، كما في قصة إنزال المجنون الذي اعتلى المئذنة.

أم هل كان زعيم كوريا الشمالية أعقل منا جميعا حين قال معلقا على خطاب ترمب من فوق منبر الأمم المتحدة؛ "إن الرئيس الأميركي ترمب أقنعني بأنني كنت على حق في تطوير أسلحة لصالح بيونغ يانغ"؟!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.