الاتحاد العام التونسي للشغل وأسئلة التجديد

الاتحاد العام التونسي للشغل /Tunisian General Labour Union

انتهت منذ أيام قليلة أشغال المؤتمر الثاني للاتحاد العام التونسي للشغل بعد الثورة، إذ انعقد الأول أواخر سنة 2011، ولم يكن بإمكانه الإجابة على الأسئلة الإستراتيجية التي طرحتها الثورة، فاقتصر على ترتيبات سريعة.

كان مطلوبا منه" تنظيف الواجهة" بإزاحة قيادات "مشبوهة "تورطت مع بن علي. وكان مطلوبا منه تدقيق تموقعه، ولم يجد صعوبة في الاندماج صراحة في سياق البناء الثوري، ولكنه اختار -ولأسباب عديدة- أن يكون في موقع أقرب للمعارضة.

هذه الحصيلة كانت متناسبة مع مؤتمر أعد على عجل، ولكن لا يمكن التهرب إلى ما لا نهاية من الأسئلة الكبرى. وهذا ما يفعله -للأسف- مجمل المشهد السياسي والمدني. ولذلك كان مطلوبا من المؤتمر الجديد مواجهة الأسئلة المؤجلة.

الأسئلة الكبرى للمؤتمر
1- بين الاجتماعي والوطني
من أهم خصائص الحركة النقابية التونسية ربطها بين النقابي والوطني بفعل ظروف النشأة، وبفضل الهندسة السياسية لمجتمع الاستقلال. ولقد نجحت سلطتا بورقيبة وبن علي في احتواء قطاعي الأعراف (أرباب العمل) والمرأة، أما النقابة فقد حافظت على أدوارها الوطنية في مقاومة الاستبداد وحماية الطبقة الوسطى بفضل التحاق جيل جديد من المناضلين المسيسين بها منذ أواسط السبعينات.

بعد الثورة كان للمنظمة دور أساسي في توجيه الأحداث، مستفيدة من خبرتها في التفاوض، ومن تأثيرها المعتبر في القطاعين الإعلامي والمدني، ومن شبكة واسعة من العلاقات الدولية، وتوج كل ذلك بنجاح الحوار الوطني، وبالحصول على جائزة نوبل للسلام

في العقدين الأخيرين أصبحت المعركة الاستقلالية أم المعارك، وكانت الهياكل الوسطى هي الأكثر قدرة على التحرر، فرافقت الحراك الثوري المتصاعد، وفرضت على القيادة الانخراط الفعلي في اللحظات الحاسمة.

بعد الثورة كان للمنظمة دور أساسي في توجيه الأحداث، مستفيدة من خبرتها في التفاوض، ومن تأثيرها المعتبر في القطاعين الإعلامي والمدني، ومن شبكة واسعة من العلاقات الدولية، وتوج كل ذلك بنجاح الحوار الوطني، وبالحصول على جائزة نوبل للسلام.

لا أحد "اليوم" يجادل في الدور الوطني للمنظمة، وهو مطلوب أكثر في هذه المرحلة التي تتطلب توافقات سياسية واجتماعية واسعة، وبناء كتلة حاكمة متنوعة بين السياسي والاجتماعي؛ إنما المطروح تدقيق هذا الدور وحدوده.

فالمنظمة معنية بالسياسات العامة للدولة، وهي حصيلة التدافعات بين المشاريع والمصالح المتباينة.
لكن ما يحتاج إلى نقاش هو المشاركة المباشرة في الإدارة السياسية، حيث يرى البعض أن المنظمة قد انحرفت عن مسارها، وتغولت، وأصبحت هي الحاكم الذي يشكل الحكومات، وينصب ويعزل في المواقع الإدارية العليا.

لذلك كان مطروحا على المؤتمر الإجابة عن أسئلة من نوع:
– هل يشارك الاتحاد في للحكم وفي الانتخابات المحلية القادمة؟ أم يترك الحرية لمناضليه للمشاركة كأفراد، ويكفيه فخرا أن يكون أحد محاضن صناعة النخب الحاكمة؟

ففي الوضع الديموقراطي "تنتدب" الدولة الحكام من كل الحواضن: من الأحزاب السياسية أولا، ولكن أيضا من الإدارة، ومن المجتمع المدني، ومن الفاعلين الاقتصاديين، ومن ذوي الخبرة المهنية الناجحة.

2- بين الحزبي والجمعياتي
إحدى مواطن قوة المنظمة أنها كانت خيمة لكل الانتماءات الحزبية.
لم يكن هناك فضاء سياسي في البلاد، فكانت التنظيمات تتحايل لتجد ملاذات آمنة للنشاط، والضغط على السلطة. بعض القيادات النقابية رحبت بالقادمين الجدد، واستفادت من أفكارهم الجديدة، وربما وظفتهم في لعبة التموقع داخل السلطة، أوفي مقابلها، وفي ترويض التنظيمات وإحداث التوازن بينها دائما.

بعد الثورة، وبميلاد فضاء سياسي، لم يعد مقبولا -لا قانونيا، ولا سياسيا، ولا حتى أخلاقيا- الخلط بين الحزبي والجمعياتي. وهذه إحدى قضايا المؤتمر، وهي مسؤولية مشتركة بين الاتحاد كمنظمة، وبين النقابيين كفاعلين، وبين الأحزاب السياسية. وهي مسألة تتحدى كل الفضاء الجمعياتي الذي يشتغل بعقلية وآليات ما قبل الثورة.

آلت القيادة إلى فريق منسجم، من التيار الاستقلالي الوطني، ومن عناصر ذات ميولات يسارية منفتحة، في مقابل تيار متطرف يغلب الإيديولوجي على السياسي، بما يعكس اتجاها عاما للواقعية واعتماد الأفكار الكبرى مرجعيات مفتوحة وليس عقائد مغلقة

3- فلسفة العمل النقابي
كان الاتحاد الجهة غير الحكومية، الوحيدة التي اشتغلت منذ 1955، بطريقة منهجية وعميقة على إعداد برامج اقتصادية واجتماعية، لكن الاجتهادات السابقة حصلت في إطار الدولة الحامية، والإقرار بالدور الأساسي للقطاع العام، وفي إطار فلسفة للعمل النقابي تغلب الاحتجاج والضغط.

أوضاع تتغير
يعاد التفكير في دور الدولة، ومركز الفاعلية الاقتصادية ينتقل من القطاع العام إلى المبادرة الخاصة، والإيفاء باستحقاق الإصلاحات الجوهرية أصبح ضاغطا. وهو مطلب داخلي، كما هو من شروط الجهات المقرضة.

لا بد من عقد اجتماعي جديد يعين على تقاسم الأعباء، والتضحيات، وتحمل تكلفة الانتقال، وهذا هو سؤال التجديد المطروح على المؤتمر في السياسات العامة، وفي مضمون العمل النقابي، وفي وسائله.

بالطبع لا يمكن للعمل النقابي إلا أن يكون منحازا للضعفاء وللطبقة الوسطى، ولكنه يجب أن يكون حريصا، كذلك، على المؤسسات الخاصة، وعلى ضبط المطلبية حتى لا تضر بمناخات الاستثمار.
هذه النقلة الثقافية تتطلب شجاعة، ولكنها تتطلب أيضا مرافقة وترفقا؛ إذ لا يمكن للنقابيين أن يجروا "البيريسترويكا" الخاصة بهم أن لم يجدوا جهدا مماثلا من مختلف الفاعلين.

حينها ستتجه الرؤية الجديدة للعمل النقابي إلى الاهتمام بمسائل كانت تعد من الهوامش، مثل التوعية بأهمية الوقت، وإتقان العمل، ونجاعة الأداء، والمحافظة على المناخات والتجهيزات.

ينعقد المؤتمر في مناخات الاحتفال بالذكرى السادسة للثورة، والمزاج العام أقرب للتشاؤم. والجميع يدرك أنه لابد من تجاوز المعالجات الجزئية، بإبرام عقد اجتماعي جديد، تكون منظمة "الشغالين" طرفا أساسيا فيه.

4- إشكالية التأطير النقابي
في هذا المستوى يواجه العمل النقابي أكثر من سؤال:
– كيف يتجاوز معضلة النفور من الانتظام؟ وهي معضلة عالمية، تطال الأحزاب، والنقابات، والجمعيات؟ وكيف يتفاعل الاتحاد مع التعددية النقابية ومع الأشكال الجديدة للاحتجاج الاجتماعي؟
فكما تبرز صيغ جديدة للانتظام في الفضاء السياسي أكثر مرونة وتنوعا، كذلك تبرز صيغ جديدة في النضال الاجتماعي.

هناك حاجات جديدة تتطلب عرضا جديدا، فإما أن تتأقلم الصيغ الكلاسيكية مع الأوضاع الجديدة، أو سنكون أمام إبداعات من خارج الصناديق.

مخرجات المؤتمر
من السابق لأوانه إصدار حكم على المنظمة وسياساتها في السنوات القادمة، ولكن الثابت هو أن القيادة السابقة خرجت بحصيلة أكثر من مشرفة على الصعيدين النقابي والوطني، كما أن المؤتمر أكد الخيار الديموقراطي برفض التمديد لأي عضو قيادي لأكثر من دورتين.

نرجح أن تكون السنوات القادمة -نقابيا- هي سنوات مراكمة وتعديل عقلاني، كما ستكون سنوات إدارة انتقال قيادي واسع، يفتح المجال أمام جيل قيادي جديد، وقد تطال عدواها مجمل المشهد السياسي والجمعياتي

ماكينة التسويات والتوافقات قد اشتغلت جيدا، وتم التجديد لتسعة أعضاء من المكتب السابق من عشرة يحق لهم ذلك.

وهكذا آلت القيادة إلى فريق منسجم، من التيار الاستقلالي الوطني، ومن عناصر ذات ميولات يسارية منفتحة، في مقابل تيار متطرف يغلب الإيديولوجي على السياسي، بما يعكس اتجاها عاما للواقعية واعتماد الأفكار الكبرى مرجعيات مفتوحة وليس عقائد مغلقة.

الفريق الجديد تعود العمل الجماعي، وهو مستوعب لملفاته، ويدرك حجم المكتسبات التي راكمها خلال السنوات الخمس الماضية، وأهمها تنمية الخبرة التفاوضية، وربط علاقات جيدة مع مكونات الساحة وتذويب جليد سوء التفاهم مع البعض الآخر، وحيازة سمعة دولية معتبرة، كما يدرك مكامن المطبات، وأخطرها إعطاء الانطباع بالتغول، واحتلال مكان المؤسسات المنتخبة، وتعويق الإنتاج، وخدمة أجندة بعض الأطراف الحزبية.

لذلك، نرجح أن تكون السنوات القادمة -نقابيا- هي سنوات مراكمة وتعديل عقلاني، كما ستكون سنوات إدارة انتقال قيادي واسع، يفتح المجال أمام جيل قيادي جديد، وقد تطال عدواها مجمل المشهد السياسي والجمعياتي.

ما يأمله التونسيون هو أن يكون هذا المؤتمر خطوة إضافية لبناء الكتلة السياسية الاجتماعية الواسعة القادرة على استكمال تحقيق أهداف ثورتهم، والمؤشرات الأولية تدعو إلى التفاؤل.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.