المشهد السوري بعد اتفاق وقف إطلاق النار

صورة خاصة للجزيرة تظهر جانبا من معارك الجيش الحر ضد تنظيم الدولة الإسلامية في درعا

الطريق إلى المشهد
في عوامل التحول
ما يمكن فعله ثوريا

الوصف الذي أطلقه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على اتفاق وقف إطلاق النار في سوريا الموقع في 29 ديسمبر/كانون الأول الماضي بقوله إنه "هش للغاية"؛ هو أدق ما يمكن قوله بخصوص هذا الاتفاق، لا سيما بما ينطوي عليه هذا الوصف من قدرة كاشفة لطبيعة العوامل الميدانية والإقليمية والدولية المؤثّرة في مجريات الصراع السوري.

الطريق إلى المشهد
الهشاشة والسيولة والتحول وكثافة الأحداث هي السمات الأكثر غلبة على وصف المشهد السوري منذ بداية الثورة السورية مطلع 2011، فقد ظل الموقف شديد التحول صعودا وهبوطا في كل مراحل الثورة السورية من بدايتها السلمية مرورا بكل محطاتها العسكرية، وحتى استدعى عجز النظام وحلفائه الإيرانيين ومليشياتهم التابعة عن حسم الموقف عسكريا تدخل روسيا، وللروس أسبابهم الخاصة بهم بطبيعة الحال.

ظلت الأهداف الروسية من التدخل العسكري المباشر في سوريا محل جدل، ولا سيما بما يستتبعه من كلفة باهظة، وإن كان يمكن تلخيص تلك الأهداف بالسعي الروسي التاريخي -منذ روسيا القيصرية- إلى التمدد جنوبا صوب المياه الدافئة، وباستثمار أوضاع المنطقة الرخوة لتحقيق هذه الغاية.

بيد أن الأهداف الراهنة -والتي كانت أكثر إلحاحا- تمثلت في تصور الروس إمكانية استخدام سوريا لمقايضة الغرب بخصوص الموقف في المجال الروسي الأوروبي ولا سيما في أوكرانيا وجورجيا، وهو هدف يتعلق بدوره بربط تصور روسيا للثورات العربية بالثورات الملونة التي جرت في مجالها الحيوي، وما يفترضه الروس من دور أميركي فيها، وفي الجملة بدت سوريا فرصة لتحسين مواقع روسيا الدولية.

الهشاشة والسيولة والتحول وكثافة الأحداث هي السمات الأكثر غلبة على وصف المشهد السوري منذ بداية الثورة السورية مطلع 2011، فقد ظل الموقف شديد التحول صعودا وهبوطا في كل مراحل الثورة السورية من بدايتها السلمية مرورا بكل محطاتها العسكرية

ظهر خطأ الحسابات الروسية بخصوص موقف الغرب من سوريا، ولا سيما أميركا التي كشفت بسلوكها عن كون سوريا أقل أهمية في إستراتيجيتها الدولية من مقايضتها بأوكرانيا، دون أن ينفي ذلك انقسام المؤسسة الأميركية وارتباكها حيال الأزمة السورية، بالرغم من كل ما يقال عن توريط الأميركان للروس في سوريا، ولكن النتيجة الأهم من التدخل الروسي كانت إنقاذ النظام في مرحلة حرجة كان فيها أقرب ما يكون من الانهيار.

كان الأتراك هم الأقرب باعتبارات متعددة إلى الأزمة السورية، كما كانوا الأكثر ارتباكا بخصوص تلك الأزمة لجملة أسباب، من أهمها ارتباط التحرك التركي بالسقف الأميركي، وأهمية الاستقرار الداخلي والإقليمي للاقتصاد التركي الصاعد، والذي شكل أهم روافع حكم حزب العدالة والتنمية، الذي كان يحتاج بدوره إلى الاستقرار لترسيخ التحولات التي قادها داخل تركيا.

كشفت الثورة السورية -ومجمل الأحداث الإقليمية- عن ضعف القراءة التركية للأحداث الإقليمية، وقد تبدى ذلك أخيرا في العودة إلى تصفير مشاكل تركيا مع جيرانها ودول الإقليم. ذلك الضعف كان ناجما أولا عن التغرير الأميركي بالأتراك، وعجز الأتراك عن تجاوز خطوط الأميركان، وثانيا عن هشاشة الأوضاع التركية الداخلية.

تفتقر المؤسسات التركية الحاكمة إلى وحدة رؤية معقولة بخصوص السياسات الخارجية، وذلك انبثاقا من أن الدولة التركية لم تنجز تحولها بعد، ويبدو أن الطريق الطويلة التي قطعها العدالة والتنمية لم تكن كافية للوصول بدولة اخترقتها الأيادي الغربية عميقا عقودا طويلة إلى تصورات جامعة حول رؤيتها لنفسها وللعالم.

لم يكن مسموحا لتركيا بتجاوز دورها وحجمها المحدَّدَيْن من الغرب، سواء في تعظيم ممكناتها الذاتية بما يستتبعها من تحرر تدريجي من الإرادة الغربية أو في أدوارها الإقليمية، ولم يكن للغيرة الأوروبية أن تحتمل الصعود الاقتصادي التركي، ويمكن هنا أن نضيف ما تمثّله إسطنبول في الذاكرة الغربية الموتورة، وقد أفضى ذلك في النهاية إلى أن تركيا بقيادة رجب طيب أردوغان وجدت نفسها وحيدة.

وإذا كانت المحاولة الانقلابية الفاشلة قد أثبتت افتقار العدالة والتنمية إلى الأمان الداخلي، فإنها كشفت عن المدى الذي يمكن أن تذهب إليه القوى الغربية في محاولة إسقاط حكمه، وإذا كانت تركيا قد صارت جزءا من الصراع في سوريا -الأمر الذي أكسبها عداء الفريق الإيراني- فإنها في المقابل لم تكسب صداقة الدول الأخرى التي صُنفت داعمة للثورة السورية.

طبيعة العلاقات الجامعة بين الدول العربية ذات الصلة بالموضوع السوري وبين أميركا، والموقف من الإسلاميين، والنظرة إلى موضوع الديمقراطية والحريات، والموقف عموما من الثورات العربية، كلها أسباب لم تجعل تلك الدول العربية حليفا موثوقا لتركيا في الأزمة السورية، والخلاصة أن تركيا غدت فاعلا بلا تحالفات في بيئة شديدة الخطورة.

في عوامل التحول
الشعور بالتهديد المزدوج من الغرب، وربما اليقين المشترك من محاولات غربية لضرب تركيا وروسيا ببعضهما، دفع الأخيرتين للتقارب انطلاقا من تأثيرهما في المجريات السورية، روسيا من جهة تحالفها مع النظام، وتركيا من جهة دعمها لقوى مهمة في المعارضة السورية السياسية والمسلحة.

تركيا قد أدركت أخيرا انكشاف ظهرها، وتراجع موازين القوى بشدة لصالح النظام وحلفائه بعد تدخل الروس، واستحالة أن تواجه هذا الواقع المركب بظرف داخلي هش، وبلا حلفاء إقليميين يعتمد عليهم، إضافة إلى تشتت قوى الثورة السورية، بما في ذلك القوى نفسها التي تدعمها تركيا

ثمة عوامل أخرى متصلة بالحضور الروسي نفسه داخل سوريا كلفة وثمنا ودورا، فالحسم العسكري غير متيسر إلا بمجازر واسعة ولفترات طويلة، وهو ما يعني أن الأمر برمته قد يتحول إلى مغامرة غير محسوبة، لا سيما أن روسيا لا ترى في نفسها أداة لإيران وحلفائها لتسوية الحالة السورية لصالحهم.

وتركيا قد أدركت أخيرا انكشاف ظهرها، وتراجع موازين القوى بشدة لصالح النظام وحلفائه بعد تدخل الروس، واستحالة أن تواجه هذا الواقع المركب بظرف داخلي هش، وبلا حلفاء إقليميين يعتمد عليهم، إضافة إلى تشتت قوى الثورة السورية، بما في ذلك القوى نفسها التي تدعمها تركيا.

إلا أن عاملا دوليا دفع إلى هذا التقارب ومحاولة تهدئة التوتر الجارية؛ فبالنسبة لروسيا تبدو الفترة اليسيرة الواقعة ما بين رحيل إدارة باراك أوباما ومجيء إدارة دونالد ترمب مواتية لتدعيم مكانتها الإقليمية والدولية، وتحقيق طموحاتها في بناء علاقة مختلفة مع الولايات المتحدة، بناء على ما يظهر من أفكار لترمب حتى اللحظة حول العلاقة مع روسيا.

الأتراك بدورهم يستعجلون رحيل إدارة أوباما التي لعبت أكبر الأدوار في إفشالهم بسوريا، وربما في دعم المؤامرة الانقلابية الفاشلة، وكان عليهم التقاط اللحظة المناسبة التي تمنحهم الفرصة لأخذ الأنفاس وإنجاز التحول الداخلي بتغيير الدستور ونمط الحكم من برلماني إلى رئاسي، وتحسين مواقعهم في سوريا عبر التقارب مع الروس الذي سيكون نسبيا على حساب الإيرانيين، وهي أيضا فرصة لضمان تدخلهم وتحقيق مصالحهم بالوصول إلى مدينة الباب.

الإيرانيون الذين تختلف حساباتهم عن حسابات الروس، وقد كانوا يطمحون إلى مد المعركة حتى إدلب، لم يجدوا بدا من ضرورة الحفاظ على علاقتهم قوية بالروس رغم تباين وجهات النظر بخصوص وقف إطلاق النار، على الأقل انتظارا لمجيء إدارة ترمب التي هي -وعلى خلاف خطابها تجاه روسيا وتركيا- شديدة العداء لإيران ولبرنامجها النووي.

هذه العوامل كلها قد أفضت إلى المشهد الحالي؛ خروج مقاتلي المعارضة من حلب، ووصول الأتراك إلى مداخل مدينة الباب، وتقديم مساعدة روسية غير مسبوقة للأتراك، ثم وقف إطلاق النار، ولكن الأهداف -كما هو واضح- آنية، والتباين حاصل حتى بين الروس والأتراك، كما أن الاتفاق غير مُرضٍ للإيرانيين، واللاعبون الآخرون قد يتدخلون على نحو معاكس، كأميركا ودول عربية قادرة على التأثير في المجريات السورية.

ما يمكن فعله ثوريا
الاتفاق الهش -الذي رُتّب على عجل داخل هذا الوضع، ورغم الخاسرة البادية فيه بالنسبة للثوار السوريين- يمكن استثماره، وفي كل الأحوال وطالما أنه صار أمرا واقعا لا بد من استثماره، فتركيا الضعيفة -وبالوصف السابق الذكر- لن تكون قادرة على دفع الثورة السورية إلى الأمام، فضلا عن انهيارها لا قدر الله، كما أن القتال بالطريقة السابقة سيكون مدمرا ضمن موازين القوى الحالية.

الإيرانيون الذين تختلف حساباتهم عن حسابات الروس، وقد كانوا يطمحون إلى مد المعركة حتى إدلب، لم يجدوا بدا من ضرورة الحفاظ على علاقتهم قوية بالروس رغم تباين وجهات النظر بخصوص وقف إطلاق النار

في المعطيات على الأرض؛ يمكن البناء بداية على الوقائع التي أوجدتها عملية درع الفرات وتحويلها إلى عامل قوة، بالإضافة إلى سيطرة قوى المعارضة على إدلب. وفي بنية الثورة السورية ينبغي ذاتيا خلق عامل التوازن باجتراح نمط من وحدة التصور والممارسة بين قوى الثورة، في مقابل هذا العامل المتوفر إلى حد كبير في طرف حلفاء النظام، وهذا سواء على صعيد الفصائل المسلحة أو الأجسام السياسية.

في تقدير الموقف؛ لا بد من تقويم موازين القوى جيدا، وصياغة الخطاب والممارسة بناء على ذلك، وفي الوقت الذي تذهب فيه قوى الثورة السورية نحو المفاوضات ينبغي أن تعزز قدراتها العسكرية، وأن تعيد النظر في الإستراتيجيات والتكتيكات العسكرية التي اتبعتها خلال المرحلة الماضية، فالنظام وحلفاؤه سيستمرون في محاولة فرض الوقائع على الأرض، كما أن تجدد المواجهة احتمال قائم في كل لحظة.

أما ميادين الإعلام والقانون والعلاقات الدولية فهي متاحة، ولكنها تحتاج المثابرة والإخلاص، وقدرا من وحدة التصور والمؤسسية والتحرر من العفوية والارتجال.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.