صراع مخابراتي على الأذرع الإعلامية المصرية

epa04480502 A general view of the 6 October Bridge traversing River Nile from Gezira Island (foreground) to Cairo City Center (background), Cairo, Egypt, 07 November 2014. The buildings are: the Ministry of Foreign Affairs (C-L), the Maspero Television building housing the Egyptian Radio and TV Union (C) and the Ramses Hilton Hotel (C-R). EPA/BEN WENZ

بداية متدرجة
لعب على المكشوف
فرص نجاح محدودة

في ظل نهم واضح من المؤسسة العسكرية في مصر للهيمنة على العديد من القطاعات الاقتصادية المدنية، سارعت أجهزة العقل في هذه المؤسسة العسكرية وأقصد بها أذرعها الأمنية (المخابرات العامة والمخابرات الحرية) لاختيار القطاع الذي ترى أنها الأحق بوضع يدها عليه أو على جزء مؤثر منه، وهو قطاع الإعلام.

لم تكتف تلك الأجهزة بمجرد التوجيه لوسائل الإعلام، والتدخل في سياساتها التحريرية، ولا بتزكية بعض الإعلاميين عند بعض القنوات والصحف، ولكنها أرادت أن تكون لها مؤسساتها التي تتبعها بشكل مباشر.

كانت المخابرات العامة تحديدا تعتبر نفسها صاحبة الكلمة العليا على وسائل الإعلام في مصر(خاصة الحكومية منها) منذ حركة الضباط في 23 يوليو/تموز 1952، وحتى وقوع ثورة 25 يناير2011، ولكنها وجدت نفسها بعد الثورة في أجواء مختلفة لم تعتدها من قبل، حيث سقف الحرية المرتفع، والنقد بلا حدود والذي بلغ حد الفلتان في بعض الفترات، لم تسلم منه المؤسسة العسكرية ولا مخابراتها العامة أو الحربية.

وهنا بدأ التفكير في امتلاك وسائل إعلام بشكل مباشر، حيث لم تعد هذه الأجهزة المخابراتية تثق أن الإعلام القائم مهما كانت درجة ارتباطه أو تنسيقه معها سيظل على هذا الارتباط والتنسيق بفعل أجواء الحرية والتنوع التي فتحتها ثورة يناير.

لم تقنع المخابرات المصرية بتأسيس مشروعات اقتصادية كبرى بعضها مبرر كالمستشفيات لعلاج رجالها أو حتى المتعاونين معها وإن كانت متاحة لعموم المواطنين بمقابل مادي كبير(مستشفى وادي النيل مثلا) أو شركات السياحة وهو أمر معتاد لأجهزة المخابرات في العالم، أو شركات استيراد وتصدير حيث كانت مكاتب شركة النصر للاستيراد والتصدير في أفريقيا تنافس مكاتب السفارات المصرية من حيث قوة التأثير السياسي في الستينات والسبعينات من القرن الماضي، وبعض المشروعات لا يستند إلى أي مبرر حقيقي مثل شركات العقارات والمقاولات (شركة وادي النيل للمقاولات والاستثمار العقاري وشركة فالي للعقارات مثلا)، وها هي تدخل بقوة قطاع الإعلام أيضا لتنافس الإعلام الخاص بعد تيقنها من عدم قدرة الإعلام الحكومي ممثلا في قنوات ماسبيرو الرسمية والصحف القومية على المنافسة.

بداية متدرجة
كانت البداية بموقع إخباري إلكتروني (موقع مبتدأ) الذي تم تأسيسه إبان حكم المجلس العسكري برئاسة المشير حسين طنطاوي في مارس/آذار 2012، وكان ظاهرا من البداية أن الموقع يتبع المخابرات (لم يكن معروفا إن كانت العامة أم الحربية وقتها) لكن قدرته على الوصول ونشر أخبار خاصة عن المجلس العسكري كشف هويته مبكرا.

ويرأس تحرير هذا الموقع الصحفي هاني لبيب، وهو الذي تقلب سياسيا، إذ كان أول ظهور سياسي قوي له من خلال حزب العمل ذي التوجه الإسلامي، حيث تم انتخابه عضوا في اللجنة التنفيذية للحزب في العام 1999 ضمن ثلاثة مسيحيين (كان معه جورج إسحق وجمال أسعد عبد الملاك).

لكنه ترك الحزب لاحقا ليقترب من لجنة السياسات في الحزب الوطني، التي دفعت به إلى مجلة روز اليوسف ليتدرب على العمل الصحفي، ولينقل ولاءه فجأة بعد الثورة إلى المجلس العسكري، ومن ثم ترأس تحرير الموقع الجديد (مبتدأ) الذي لم ينشر سوى اسم رئيس تحريره على خلاف المواقع والصحف الأخرى التي تنشر اسم رئيس مجلس الإدارة أيضا.

عقب فوز الدكتور محمد مرسي برئاسة الدولة المصرية نهاية يونيو/حزيران 2012 شرعت المخابرات الحربية في تأسيس محطة إذاعية هي راديو 9090، كان غريبا أن يحصل هذا الراديو -المجهول وقتها- على رخصة للعمل على موجة إف إم بشكل سريع رغم وجود حوالي 20 طلب لمؤسسات وشركات أخرى تطلب تراخيص، وتبدي استعدادها لدفع قيمة تلك التراخيص، إذ وصلت حينها قيمة الرخصة الواحدة إلى 60 مليون جنيه مصر (حوالي 10 ملايين دولار).

وكان الرفض دوما يأتي من المخابرات، رغم أن قيمة تلك التراخيص كانت ستمثل مصدرا مهما لاتحاد الإذاعة والتليفزيون الذي هو بأمس الحاجة إليها لمواجهة العجوزات المالية الكبرى التي يعانيها والتي جاوزت الـ20 مليار جنيه، وحين عرف السبب بطل العجب، فقد كانت المخابرات التي رفضت التصريح لتلك الشركات بدواعي الأمن القومي هي صاحبة هذا الراديو.

وقد تحركت لذلك حين شعرت بأن راديو مصر واسع الانتشار حينذاك والتابع لاتحاد الإذاعة والتليفزيون خرج من تحت هيمنتها عقب تولي الوزير الإخواني صلاح عبد المقصود مقاليد وزارة الإعلام؛ حيث شرع في إحداث تغييرات هيكلية في هذا الراديو ضمن حزمة من التغييرات الأخرى في ماسبيرو.

لعب على المكشوف
بعد ثلاثة أعوام على انقلاب السيسي، بدا اللعب على المكشوف لتملك أجهزة المخابرات العامة والحربية لوسائل إعلامية (قنوات- مواقع- شركات تسويق ودعاية وإعلان)، وشهدت الساحة الإعلامية تنافسا بين المخابرات العامة والحربية على تملك تلك الوسائل والهيمنة عليها، وظهرت واجهات تجارية لكلا الجهازين، فكان الضابط السابق -وربما الحالي- في المخابرات العامة ياسر سليم هو واجهة جهازه في السوق، ومعه رجل الأعمال سريع القفزات أحمد أبو هشيمة، وعلى الجانب الآخر كان هناك رجل المخابرات الحربية الغامض طارق إسماعيل الذي اشتهر تجاريا بمعارض بيع السيارات، و لم يكن يظهر اهتماما بقطاع الإعلام من قبل.

أما الجنرال ياسر سليم فقد أسس شركة دعاية (بلاك أند وايت) ومن خلالها اشترى موقع "دوت مصر" الذي أسسه الصحفي الراحل عبد الله كمال المقرب جدا من جمال مبارك، كما اشترى حصة كبيرة في "اليوم السابع"، ثم أنتج برنامج التوك شو الرئيسي للتليفزيون المصري (أنا مصر)، ووقع شراكة مع شركة سينرجي للإنتاج الفني وأنتج من خلالها بعض الأفلام، ومن خلال الصداقة أو الزمالة التي جمعت بينه ورجل الأعمال الشاب أحمد أبو هشيمة حدثت الصفقة الكبرى لشراء قناة أون تي في من صاحبها نجيب ساويرس.

وهنا تجدر الإشارة إلى أن أبو هشيمة ذاته لم يعد رجل أعمال تقليدي يبحث الجدوى الاقتصادية لما يقدم على شرائه، بل أيضا واجهة تجارية جديدة لجهاز المخابرات العامة، حيث من المتوقع أن تسفر هذه الشراكة أو الزمالة عن صفقات استحواذ إعلامية جديدة خلال الفترة المقبلة (للتذكير أيضا فقد استحوذ أبو هشيمة قبل ثلاثة أشهر على 50% من شركة مصر للسينما) ما يعني أن الأمر لن يتوقف عن حدود القنوات والمواقع الإعلامية بل يتعداه لصناعة المحتوى الذي يسهم في تشكيل الوعي والعقل.

وأما رجل المخابرات الحربية الغامض طارق إسماعيل، فهو يستعد لتدشين الحدث الأبرز في مجال الإعلام في مصر نهاية هذا الشهر (سبتمبر/أيلول) أو خلال الشهر المقبل (أكتوبر/تشرين أول) وهو إطلاق مجموعة قنوات دي إم سي (DMC) برأسمال أولي مليار جنيه. وستضم المجموعة حوالي عشر قنوات عامة وإخبارية ورياضية ودراما وأطفال ومنوعات وسينما.. الخ. وتستهدف المخابرات الحربية من خلال هذه الباقة من القنوات تمثيل الدولة المصرية في إطار إعلامي عصري قادر على مواجهة القنوات الكبرى مثل الجزيرة وبي إن سبورت وغيرها من القنوات التي يصفونها بالمعادية لمصر.

فرص نجاح محدودة
لم يكن اسم شركة دي ميديا (D-media) معروفا على نطاق واسع قبل شهور قليلة حين بدأت الشركة استعداداتها لإطلاق باقة قنواتها الجديدة، لكن هذه الشركة هي التي كانت وبشكل غير ظاهر تملك وتدير راديو 9090 وموقع مبتدأ الخبري، وهي التي استحوذت على قناة الناس السلفية والتي أغلقت يوم 3 يوليو/تموز 2013 ضمن عدة قنوات إسلامية أخرى، ثم أعادت الشركة افتتاحها بل وحصلت على ترخيص بالبث الأرضي لها منذ 15 يونيو/حزيران الفائت، وهو ماليس مسموحا به في مصر إلا للقنوات الحكومية الرسمية.

لكن الأغرب الذي لم ينتبه له أحد في حينه هو أن هذه الشركة كانت هي مقر "مطبخ" الحملة الإعلامية المعادية لمرسي، وكانت أيضا مقر الحملة الانتخابية للسيسي، وهي التي تولت توجيه القنوات والإعلاميين إلى جانب اللواء عباس كامل مدير مكتب السيسي بعد انقلاب الثالث من يوليو 2013.

ولتأكيد الدور المؤثر للشركة أو بالأحرى أصحاب الشركة الحقيقيين (والمقصود المخابرات الحربية) فقد استجابت غالبية القنوات المصرية للنداء الذي وجهته الشركة بوقف خرائطها البرامجية المعتادة يوم جمعة التفويض التي دعا لها الفريق عبد الفتاح السيسي وزير الدفاع يوم 26 يوليو/تموز 2013، وظهرت تلك القنوات متحدة تحت شعار "معا ضد الإرهاب".

الأمر اللافت أيضا أن مقر هذه الشركة كان هو مقر شركة المستقبل لصاحبها رجل الأعمال محمد الأمين مالك قنوات سي بي سي، وهذا ما قد يشي بعلاقة هذا الأخير بجهاز المخابرات الحربية أيضا، خاصة أنه أيضا منح مقرا لموقع مبتدأ الذي تملكه المخابرات من خلال شركة دي ميديا.

من الواضح أن الغلبة في هذا التنافس بين الجهازين ستكون للمخابرات الحربية، ذلك أنها تمتلك بالفعل مشروعا لصناعة الأذرع سبق أن شرح معالمه الفريق عبد الفتاح السيسي (رئيس المخابرات الحربية السابق) خلال لقاء مع الضباط إبان توليه منصب وزير الدفاع، وتم تسريبه وبثه في بعض القنوات المعارضة لاحقا.

وحين تظهر مجموعة قنوات دي إم سي التي ستطلقها المخابرات الحربية من خلال شركة دي ميديا قريبا ستظهر تلك الغلبة لها على القنوات التي تملكها أو تديرها المخابرات العامة من خلال رجليها ياسر سليم وأحمد أبو هشيمة.

لكن فرص نجاح هذه القنوات في المنافسة خارجيا تبدو ضعيفة رغم الميزانيات الضخمة التي رصدت لها، إذ أن المال وحده لا يصنع نجاحا في غياب سقف أعلى لحرية الإعلام يمنحه القدرة التنافسية ويستقطب جمهور المشاهدين إليه.

ويكفي أن نعرف أن الالتحاق بالعمل بمجموعة القنوات الجديدة لا يتم بالطريقة التقليدية التي يتقدم بموجبها راغبو العمل ببياناتهم وخبراتهم للمرور في اختبارات شفهية أو تحريرية، ولكن الاختيار يأتي مباشرة من إدارة الشركة التي تتولى إبلاغ الأشخاص المرشحين للعمل في تلك القنوات، نحن إذن أمام مجندين لا إعلاميين وبالتالي ليست هناك فرصة حقيقية للنجاح خارجيا حتى وإن نجحت في استقطاب جمهور القنوات المحلية وما لهذا أنشئت.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.