السودان وإسرائيل.. من يخطب ودّ الآخر؟

Muslim men shout during protest against Israel's military operation in Gaza Strip after Jumma prayer, in Khartoum July 18, 2014. REUTERS/Stringer (Sudan - Tags: CIVIL UNREST POLITICS RELIGION SOCIETY)

اهتمام إسرائيلي
ضبابية موقف الخرطوم
آثار الضعف العربي

حالة من الاستغراب والدهشة اجتاحت الأوساط العربية والسودانية إثر التقارير الصحفية الإسرائيلية التي تحدثت بداية هذا الشهر عن جهود إسرائيلية لتحسين علاقة السودان بالغرب الذي يشمل الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأميركية.

فقد قالت صحيفة هآرتس الإسرائيلية إن إسرائيل تقوم بذلك لمساعدة السلطة في السودان، عقب وقفها تهريب السلاح إلى غزة وقطع علاقاتها مع إيران. وزعمت الصحيفة أن ذلك الأمر استحوذ على حيز مقدر في مباحثات أجراها توم شانون مساعد وزير الخارجية الأميركي للشؤون السياسية خلال زيارته الأولى إلى إسرائيل سبتمبر/أيلول الحالي.

الأمر الأكثر إثارة ودهشة حالة الغموض التي أحاطت بموقف الحكومة السودانية إزاء هذا السفور الإسرائيلي؛ فإن كانت إسرائيل تريد إحراج الخرطوم نظرا لموقفها المعلن من دولة الكيان الإسرائيلي، فكان على الخرطوم أن تنفي بشدة وبشكل واضح أي علاقة لها بالتحرك الإسرائيلي أو أنها لم تطلب من إسرائيل ذلك وليست سعيدة أن تقوم إسرائيل من تلقاء نفسها بهذا التحرك. وما هو معلوم أن حالة من العداء جمعت البلدين منذ قيام دولة إسرائيل حيث لا توجد علاقات دبلوماسية بينهما، كما أن إسرائيل هي الدولة الوحيدة في العالم التي يحظر القانون السوداني مواطنيها من دخول البلاد.

بيد أنه في ذات الوقت ثمّت حقائق تزيد من تعقيد فهم الموقف الإسرائيلي وكذلك رد الفعل السوداني الرسمي؛ فالبعض يشير إلى المناقشات العلنية التي شهدتها أروقة مؤتمر الحوار الوطني في الخرطوم بداية العام الحالي 2016 حول إمكانية تطبيع العلاقات مع إسرائيل، ما عدها البعض محاولة للتقرب من الولايات المتحدة وحثها على رفع العقوبات الاقتصادية ورفع اسم السودان من قائمة الدول الداعمة للإرهاب. وعلّق وزير الخارجية السوداني إبراهيم غندور على ذلك النقاش العلني، قائلا: "إنه ينبغي إعادة النظر في التطبيع مع إسرائيل". لكن أصدرت وزارة الخارجية لاحقا نفيا لكلام الوزير، موضحة أنه تمّ إخراجه عن سياقه.

من ناحية أخرى فإن تبرير إسرائيل موقفها الجديد بأن الخرطوم قطعت علاقاتها مع إيران لا يستقيم مع حقيقة وجود علاقات خفية بين البلدين قد تصل لدرجة التحالف بين إيران وإسرائيل الأمر الذي قد ينفي ابتهاج إسرائيل بقطع الخرطوم علاقاتها بإيران. ونشير هنا إلى ما ذكره الكاتب الإسرائيلي أمنون لورد من قبل من أن العداء الذي تظهره إيران لإسرائيل ليس حقيقيا، ناقلا عن خبراء إسرائيليين أن هناك مصالح مشتركة بين طهران وبينهم كمواجهة المحور العربي السني في إيران. كما أشارت صحيفة يدعوت أحرنوت الإسرائيلية إلى أن هناك أكثر من 30 مليار دولار حجم الاستثمارات الإسرائيلية داخل إيران.

اهتمام إسرائيلي
تاريخيا ينطلق الاهتمام الإسرائيلي بالسودان من الوعد المزعوم الذي ورد في السفر اليهودي المعروف بسِفر العهد القديم "الإصحاح 15/18" والذي يقول: "لقد منحت ذرياتكم هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات". ويقصد بنهر مصر وادي النيل بأكمله الذي يضم السودان بطبيعة الحال، لذلك يعمل اليهود على تضخيم تاريخهم في السودان الذي لم يشتهر بوجود مجموعات يهودية فيه، ومما لا شك فيه أن الهدف من وراء هذا التضخيم هو إيهام الرأي العالمي أن لليهودية حقا تاريخيا في السودان، حتى ينسجم ذلك مع الحق التاريخي المزعوم مع الوعد الديني المفترى في وراثة أرض النيل، إلى التمهيد لقيام إسرائيل الكبرى من الفرات إلى النيل.

وبدأت المخططات الإسرائيلية تجاه السودان بشكل مكثف في الخمسينات من القرن الماضي. فقد أشار إليها ديفيد بن غوريون مؤسس دولة إسرائيل. وكانت قمة الخرطوم في عام 1967، والتي عرفت باللآت الثلاث "لا تفاوض، لا تصالح، لا اعتراف" بمثابة ناقوس خطر للدولة اليهودية حيث أيقنت إسرائيل أنه لولا هذه القمة ما توحد العرب ضدها واعتبرتها أنجح قمة للعرب، حيث خرجت بقرارات كان لها أثر كبير في الصراع العربي الإسرائيلي.

وجاء تفصيل السياسة الإسرائيلية تجاه السودان في كتاب "إسرائيل وحركة تحرير جنوب السودان" الصادر في 2003 عن مركز ديان لأبحاث الشرق الأوسط وأفريقيا بجامعة تل أبيب، وذلك من خلال إفادات العميد موشي فرجي مدير الأمن الداخلي الإسرائيلي الأسبق. وجاء في الكتاب أن إسرائيل أدركت منذ وقت مبكر، أن الأقليات الموجودة في المنطقة العربية يمكن أن تكون حليفا طبيعيا لها، مع تطبيق سياسة فرق تسد.

وركزت إسرائيل بناء على ذلك على الجماعات غير العربية في السودان لتنفيذ مخططها في الجنوب الذي انفصل في يوليو/تموز 2011. وفي أكتوبر/تشرين الأول 2015، سمحت الرقابة العسكرية في تل أبيب بصدور كتاب جديد، تضمن تفاصيل عن تدخل جهاز الاستخبارات والعمليات الخاصة (الموساد) في عملية تقسيم السودان، الأمر الذي اعتبر إنجازا إسرائيليا ونجاحا خاصا للموساد.

وكانت تلك المرحلة الأولى حيث لا تقف المخططات الإسرائيلية في السودان عند حد فصل جنوب البلاد بل تشمل تقسيم السودان إلى دويلات متعددة على أساس عرقي وطائفي ومذهبي، وحددت للسودان خمس دويلات بالشمال والجنوب والشرق والغرب وجبال النوبة.

واليوم تؤكد المؤشرات بدء المرحلة الثانية من تلك المخططات الخبيثة والتي تعتمد حسب الوثائق الإسرائيلية، على صناعة الفوضى السياسية كسيناريو جديد في جميع أطراف السودان لفصل دارفور وجبال النوبة ثم الشرق. ويتم ذلك بمساعدة ظروف تسهم فيها الإدارة غير الرشيدة للأزمات السودانية من لدن النظام الحاكم الحالي، مثل استغلال ضعف الاقتصاد بعد خروج النفط عقب الانفصال. واستثمار تداعيات الحصار الاقتصادي المتطاول وصولا إلى حافة الغلاء المستحكم ثم الانهيار الشامل.

ضبابية موقف الخرطوم
كثير من المشفقين تنتابهم اليوم الشكوك إزاء ضبابية موقف الخرطوم نحو التطورات الأخيرة بالإضافة إلى ما سبقها من أحداث ذات صلة مباشرة بالعلاقة مع إسرائيل. وكان أكثر ما لفت الانتباه تصريحات وزير الخارجية السوداني المعبرة عن استعداد السودان لدراسة التطبيع مع إسرائيل على خلفية نقاش علني لأول مرة في مؤتمر الحوار الوطني يناير/كانون الثاني الماضي.

ونظر البعض إلى هذه التصريحات باعتبار أنها لم تأت من فراغ، ومجرد التصريح يعني أن هناك خطوات جدية في هذا الإطار. فضلا عن أن ضوءا أخضر قد أضيئ لأعضاء مؤتمر الحوار وإلا فإن في استطاعة الحكومة منع مثل ذلك النقاش بطرق مختلفة. وفي ذات الوقت احتفت حكومة الخرطوم في إطار مؤتمر الحوار بمعارضة سودانية سابقة ورئيسة جمعية الصداقة مع إسرائيل، واستقبلها الرئيس البشير بمكتبه، رغم أن الحكومة سبق وأن أسقطت عنها الجنسية السودانية بسبب تأييدها للتطبيع مع إسرائيل وزيارتها تل أبيب، واتهامها بالخيانة.

كل ذلك جعل الكاتب الإسرائيلي في موقع "إسرائيل بلاس" عكيفا ألدار يزعم أن القيادة السياسية في إسرائيل وصلتها مؤخرا عدد من الرسائل من القيادة السودانية، وأن تل أبيب تترقب فرصة سانحة للتواصل مع الخرطوم.

ويحاول بعض المراقبين الربط بين النظامين السودانيين، نظام الرئيس الأسبق جعفر نميري 1969 – 1985، ونظام الرئيس عمر البشير الحالي الذي جاء للسلطة في 1989. ففي حين أصبح الوضع الاقتصادي في عهد نميري على حافة الانهيار، وزاد ضغط المعارضة على النظام في النصف الأول من ثمانينيات القرن الماضي، لجأ للدخول في صفقة مع الإسرائيليين والإدارة الأميركية في 1984، حيث سمح النميري بموجبها بترحيل آلاف من يهود الفلاشا الإثيوبيين إلى إسرائيل عبر أراضي السودان، في ما سمي بعملية موسى. وظنّ النميري، أنه اشترى عمرا جديدا لنظام حكمه، فغادر إلى واشنطن، عقب انتهاء تلك العملية لتلقي الثناء والقبول، غير أنّ انتفاضة شعبية عارمة اندلعت ضد نظامه، فأسقطته في أبريل/نيسان 1985.

ولم يكن السعي نحو إسرائيل مرتبطا بالعسكريين بل حتى الحزبيين كانت لهم محاولات في السابق، فقد عرضت قناة الجزيرة عبر برنامج "شاهد على العصر"، وثيقة بريطانية صادرة في أغسطس/آب 1954 تشير إلى "لقاءات تمت بالسفارة الإسرائيلية في لندن مع حزب الأمة ممثلا في زعيم الحزب حينها الصديق المهدي مع السكرتير الأول للسفارة الإسرائيلية في لندن مردخاي جازت". لكن ضيف البرنامج الصادق المهدي زعيم حزب الأمة قال إن اللقاء الذي جمع والده مع المسؤول الإسرائيلي لم يسفر عن أي نتيجة، وأن حزب الأمة لم يدخل في اتفاق مع الإسرائيليين ضد مصر، مشيرا إلى أن عبد الناصر استغل الحادث للهجوم على والده.

وترى صحيفة هآرتس أن السودان انتقل مؤخرا إلى محور الاعتدال، وأن ذلك حظي بنوع من التشجيع من إسرائيل، مما جعلها تطالب أوروبا والولايات المتحدة بمكافأة السودان وتقديم مبادرات حسن نية تجاهه.

وحسب مصدر إسرائيلي، فإن دبلوماسيين إسرائيليين طلبوا من الأوروبيين والأميركيين مساعدة السودان في مواجهة الدين الخارجي الهائل الذي ترزح تحت أغلاله، والذي يقترب من 50 مليار دولار. وتدعم إسرائيل طلبها بحجة أن انهيار الاقتصاد السوداني قد يضعضع الاستقرار أكثر في هذا الجزء من أفريقيا ويقود إلى تعاظم عمليات الإرهاب.

آثار الضعف العربي
وقبل التقارير الإسرائيلية الأخيرة، نفت الحكومة السودانية مسألة التطبيع مع إسرائيل، على لسان كل من نائب الرئيس البشير، ونائب رئيس حزب المؤتمر الوطني الحاكم، إلا أن هناك ما يشير إلى أنّ التطبيع ربما ظل خيارا يراود بعض القيادات السودانية خلف الكواليس.

في ذات الوقت لا يبدو أن مؤيدي التطبيع يستندون إلى تعريف واضح لمصالح الأمن القومي السوداني، بقدر يتأبطون نظرة سطحية تقوم على أن التطبيع هو الطريق السهل لكسب ود واشنطن، أو الاعتقاد بضرورة عدم مواجهة إسرائيل لتجنب فتح جبهة صراع مباشر معها، الأمر الذي يتيح فرصة للوبي الصهيوني في الولايات المتحدة لزيادة الضغط على السودان.

ولعل الموقف السوداني المضطرب ناتج عن حالة الضعف والوهن التي أصبحت ملازمة للجامعة العربية. فلم يعد يشعر كثير من الأعضاء بأي قدر من الأمان في بحر العلاقات الدولية المتلاطم، خاصة ما يعتري المنطقة حاليا من محاور تتشكل بسرعة، بينما تقف الجامعة عاجزة عن فعل شيء لحماية أعضائها.

قبل سنوات قليلة وصف مسؤول في وزارة الدفاع الإسرائيلية، السودان بأنه "دولة إرهابية خطيرة"، وتزامن ذلك مع غارة إسرائيلية على مجمع اليرموك للتصنيع الحربي جنوبي العاصمة السودانية في 25 أكتوبر/تشرين الأول 2012. وكان ذلك الاعتداء على السودان هو الثامن من نوعه ضمن سلسلة أخذت تترى منذ العام 2009.

ولم تحرك الجامعة حينها ساكنا وعقدت اجتماعا عاديا على مستوى وزراء الخارجية في القاهرة بعد مرور 18 يوما على الغارة الإسرائيلية وأُعلن أنه سيناقش (4) قضايا وصفت بأنها رئيسية ليس من بينها قصف إسرائيل لمصنع اليرموك السوداني، دعك من عقد اجتماع طارئ.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.