بوار السياسة في المغرب.. حرب التزكيات نموذجا

A voter casts his ballot at a polling station in Rabat, Morocco September 4, 2015. Morocco's ruling Islamist party on Friday faced a major test of its dominance as polls opened for local elections for which most opposition parties have campaigned on anti-corruption platforms and against privileges for the elite. REUTERS/Youssef Boudlal

في المفهوم والسياق
مؤشرات دالة
استنتاجات وخلاصات

لا نقصد ببوار السياسة، في هذا المقام فسادها المطلق أو "انتهاء مدة صلاحيتها"، أو انتفاء مفعولها في لزمن والمكان. ولا نقصد بالعبارة إياها تراجع الحاجة إلى السياسة وإلى الفعل السياسي، جراء كساد ما يكون قد طالهما وركنهما للجانب تحت هذا الظرف أو ذاك.

في المفهوم والسياق
إننا نقصد بمفهوم بوار السياسة تلك النتيجة التي ترتبت (بالمغرب تحديدا) عن ممارسات معينة، هجينة في معظمها، أفضت إلى استنبات مشهد سياسي لم تعد لديه المناعة الضرورية الكافية التي تضمن له الوحدة في الطبيعة والنسقية في آليات الاشتغال.

لا يسمح المجال هنا للوقوف بالتفصيل عند مظاهر هذا البوار، منذ استقلال المغرب أواخر خمسينات القرن الماضي، واعتماده التعددية السياسية (الحزبية على وجه الدقة) لتدبير قضايا الشأن العام وإعمال مبدأ التداول السلمي على السلطة. ومع ذلك، فإن الذي سنعرض له لا يخرج كثيرا عن الصيرورة العامة التي أفرزت واقع البوار على مستوى الخلفية والدرجة والتداعيات.

ما الذي نلاحظه والحملة الانتخابية الممهدة لاقتراع السابع من أكتوبر/تشرين أول قد أقبلت، ولم يعد بيننا وبين "يوم القيامة"، وفق تعبير الملك محمد السادس، إلى بضعة أيام؟

رغم كل الإصلاحات السياسية "الكبرى"، على مستوى قانون الأحزاب وتحيين القوانين الانتخابية وتشريعات تخليق الحياة السياسية، فإن سلوك الفاعل السياسي لم يتغير كثيرا إن لم يكن بالقياس إلى ما كان معهودا في زمن ما قبل الإصلاحات إياها، فعلى الأقل بالبدايات الأولى لتجربة التعددية

نلاحظ أنه على الرغم من كل الإصلاحات السياسية "الكبرى"، على مستوى قانون الأحزاب وتحيين القوانين الانتخابية وتشريعات تخليق الحياة السياسية، فإن سلوك الفاعل السياسي لم يتغير كثيرا إن لم يكن بالقياس إلى ما كان معهودا في زمن ما قبل الإصلاحات إياها، فعلى الأقل بالبدايات الأولى لتجربة التعددية.
 
مؤشرات دالة
لا يعدم المرء المؤشرات ولا النماذج الحية لإثبات ذات الملاحظة، أو التأكد من وجودها بالعين المجردة، إذ الوقوف عند مسألة التزكية للترشيح يبين لوحده وبجلاء طبيعة ذات السلوك:

– أولا: لم تعد آلية الانتخابات الأولية الفرعية، المحلية أو الإقليمية أو الجهوية، هي الأصل في اقتراح ثم اعتماد هذا المرشح أو ذاك، وتقديمه كمرشح الحزب في هذه الدائرة أو تلك، بل بات قادة الحزب من الصف الأول (وأمين عام الحزب شخصيا في العديد من الحالات) هو صاحب القرار الأول والأخير في اختيار المرشح وتزكيته المباشرة لرفع لواء الحزب يوم الاقتراع.

بالتالي، لم تعد قواعد الحزب وتمثيلياته بالمناطق والجهات هي التي تفرز المرشحين محليا، وتقترحهم للتزكية على المستوى الإقليمي والجهوي، ثم للاعتماد على مستوى "القيادة" بالمركز، بل بات هذا الأخير في حل مما قد تقترحه الفروع، بل وقد لا تستشار حتى فيما تراه مناسبا، أو "قادرا على رفع التحدي"، أو أهلا بمعيار التكوين والكفاءة والتمرس.

ولذلك فإن تجاوز قواعد الحزب والالتفاف على دورها، وعدم الأخذ برأيها في حالة استشارتها، هي بالمحصلة ليست فقط مؤشرا من مؤشرات الاستفراد بالقرار، بل أيضا دليلا صارخا على غياب الحد الأدنى من الديموقراطية الداخلية التي لا يمكن للعمل الحزبي في غيابها أن يقوم فما بالك أن يستقيم. غياب الديموقراطية الداخلية هو إذن خاصية جوهرية تتشارك فيها كل الأحزاب المغربية، ولا يفلت من عقالها إلا النزر القليل من هذه الأحزاب.

– ثانيا: إذا كان قرار الترشيح لا ينبع ديموقراطيا من تمثيليات الحزب بالمناطق والجهات، فهذا معناه أن معيار "النضال" و"التضحية من أجل بناء الحزب"، الذي يمكن الفرد من التدرج في سلم هذا الأخير، هو معيار ثانوي، بل قل هو معيار لا يعتد به بالمرة، فما بالك أن يؤخذ به. بالآن ذاته، فإن معيار الولاء الفكري أو الإيديولوجي للحزب لا يقام له وزن أيضا، أي أنه لا يعتبر المعيار المحدد في اختيار المرشح إلا إذا تقاطع مع معايير أخرى، "القيادة" وحدها هي التي تحددها، تأخذ بها أو تستحضرها لدى قرار التزكية.

ولذلك، فإن عدم الأخذ بمعيار الولاء للحزب والنضال من بين ظهرانيه لا يثير فقط الاستهجان والتذمر من لدن "المرشح" المستبعد، بل يدفعه تلقائيا إلى التفكير في مغادرة الحزب، والبحث عن موطئ قدم له بحزب آخر لا يأخذ هو الآخر بمعيار الولاء الإيديولوجي أو بمدة الانتماء والنضال التي قضاها المرء ضمن إحدى هياكله.

ولهذا السبب، فإن الترحال السياسي غالبا ما يتكثف بقوة طيلة المدة المخصصة لوضع ملفات الترشيح، ويخف بعد إعلان النتائج بحكم المنع القانوني الذي يطال ظاهرة التنقل من حزب لآخر.

بعد استبعاد المناضلين ورجحان كفة "سياسيي العائلة" تأتي حصة الأعيان، وهم وجهاء القبائل والمناطق والجهات، إقطاعيون وتجار كبار وأصحاب نفوذ ترابي متوارث، لا تشترط فيهم الكفاءة أو الشهادة، بل قدرتهم على استقطاب أكبر عدد من الأصوات يوم "النزال الأكبر"

– ثالثا: إذا كان الولاء الأيديولوجي والنضال معياران لا يعتد بهما في انتقاء هذا المرشح أو ذاك، فإن المعيار المعتمد والمحبذ في غالبية الحالات هو مدى قرب المرشح من صاحب القرار الحزبي، ومستوى ولائه له بمنطوق الاعتبار العائلي أو الانتماء العرقي أو التماهي اللغوي أو ما سوى ذلك.

إنه معطى تاريخي ثابت أن تكون العديد من الأحزاب المغربية أحزاب عائلية (حزب الاستقلال مثلا) أو عرقية (منظومة أحزاب الحركة الشعبية) أو ذات نزوع مناطقي (الأحرار والحزب الوطني الديموقراطي)، وهكذا. ولذلك، نجد بلوائح التزكيات الوطنية وبلائحتي الشباب والنساء (الريعية الخالصة) مرشحين من سلالة "قيادة الحزب" (الابن أو الصهر أو أبناء العمومة) فيما تذيل القائمة بأسماء نكرة لا حظ لها يذكر عندما يحين يوم الامتحان.. إنها تؤثث اللائحة وتخفف من الاحتقان الذي قد يترتب عن الاستبعاد الجاف المباشر.

– رابعا: بعد استبعاد المناضلين ورجحان كفة "سياسيي العائلة" تأتي حصة الأعيان، وهم وجهاء القبائل والمناطق والجهات، إقطاعيون وتجار كبار وأصحاب نفوذ ترابي متوارث، لا تشترط فيهم الكفاءة أو الشهادة، بل قدرتهم على استقطاب أكبر عدد من الأصوات يوم "النزال الأكبر". بالآن ذاته، فإنهم غير مطالبين، بعدما يلجوا قبة البرلمان، أن يستصدروا القوانين أو التشريعات، أو يساهموا في إخراجها. إنهم مطالبون بتأثيث فضاء قائم بالحضور المادي والتصويت بالأمر، سواء أدركوا ما هم مقبلون عليه أم لم يدركوا تبعاته وما يترتب عنه.

إن الأعيان، يقول بعض المتابعين، هم "القوة الانتخابية الضاربة التي لا تستغني عنها الأحزاب السياسية، وتساوت كلها اليوم في محاولة استقطابها، سواء في ذلك أحزاب الحركة الوطنية أو ما يعرف بالأحزاب الإدارية، كلها اقتنعت بالفعالية والقدرة على التمويل وحشد الأصوات التي يمتلكها هؤلاء الأعيان. ويبدو أن مفهوم هذه الشريحة الاجتماعية أصبح أكثر اتساعا بظهور الأغنياء الجدد الذين يحملون طموحات سياسية.

لقد تحول مفهوم الأعيان من مجرد وجهاء لهم حظوة في مناطقهم وينتمون إلى عائلات عريقة ومؤثرة، ليشمل اليوم كل من له القدرة على التأثير خصوصا بالمال، سواء في المدن أو القرى. وهذه القدرة المالية والتمويلية تعد شرطا أساسيا من شروط الحصول على التزكيات الانتخابية وعلى موقع وكيل اللائحة" (المساء، 12-14 سبتمبر/أيلول 2016).

بالتالي، فإن قوة هؤلاء إنما تكمن في قدرتهم على تمويل حملاتهم الانتخابية والفوز بالمقعد، بل وضخ المال في صناديق أحزاب مفلسة على الرغم من منسوب الدعم المالي المعتبر الذي تقدمه لهم الدولة بهذه المناسبة.

– خامسا: أما آخر ما استجدت به الساحة السياسية على بعد أيام من اقتراع أكتوبر/تشرين أول، فيكمن في ولوج بعض السلفيين للحقل السياسي، ومراهنة الأحزاب على توظيفهم لاستقطاب أصوات إضافية ولم لا مقاعد لهم بالبرلمان.

ومع أن الدستور المغربي المعدل يمنع إدماج الاعتبارات الدينية في ميدان التباري السياسي، فإنه قد تم القبول بهؤلاء بأحزاب إدارية تدرك الدولة أنها طيعة، ومن ثمة قادرة على تطويع هؤلاء بالتدريج وبالتأطير الميداني المباشر.

استنتاجات وخلاصات
ما الذي يمكن استخلاصه من هذه المؤشرات الخمسة؟ يمكن أن نقف باختصار شديد عند ثلاثة استنتاجات أساسية:

لقد انتهى زمن المرشح المناضل، وحل زمن المرشح القادم من سلالة "القيادة" أو من غياهب الانتماءات القبلية أو العرقية أو الإثنية أو ما سواها، والذي لا دراية له تذكر بما هو العمل السياسي، فما بالك بما هي السياسة

– الاستنتاج الأول: لن يكون للناخب المغربي، بعد اليوم، أن يسأل عن توجه الحزب أو طبيعة برنامجه السياسي أو مقترحاته الانتخابية. إنه بات مطالبا بأن يصوت على المرشح المقترح باعتباره مرشحا، لا باعتباره منتميا لهذا الحزب أو ذاك. ولذلك، بتنا نرى أن الناخبين سيصوتون على الشخص المرشح الذي قد "يقنعهم" أو يغريهم أو يرشيهم، بصرف النظر عن ميولاته السياسية أو انتمائه الحزبي.

لقد انتهى زمن المرشح المناضل، وحل زمن المرشح القادم من سلالة "القيادة" أو من غياهب الانتماءات القبلية أو العرقية أو الإثنية أو ما سواها، والذي لا دراية له تذكر بما هو العمل السياسي، فما بالك بما هي السياسة.

– الاستنتاج الثاني: لم تعد هناك من قيمة اعتبارية تذكر للتمايزات الإيديولوجية أو للتقسيمات التقليدية الرائجة إلى حين عهد قريب (من قبيل اليسار أو اليمين مثلا). لقد باتت الأحزاب كلها، الإدارية الخالصة منها كما الوطنية المتجذرة، تتنافس على خلفية من البراغماتية والمصلحة والنتيجة العملية. ولذلك، فلم يعد يهمها مسار هذا المناضل أو ذاك إلا بمقياس ما يمكنه حصده من مقاعد، وما يمكن اكتساحه من مجالات وتغطيته من تكاليف. الأحزاب تدرك هنا أنها مطالبة بالاجتهاد في التنفيذ لا في وضع الخطط والإستراتيجيات.

لقد انتهى زمن المبادئ الكبرى، وحل محله زمن الزعامات المحتكمة على المال والجاه والتجذر العرقي والإثني بالمناطق والجهات.

– الاستنتاج الثالث: لم يعد لتناسقية التحالفات السياسية من قيمة رمزية تذكر. لقد بتنا نعيش تحت وطأة حملة تبار سياسي هجين يتحالف في ظله الكل مع الكل، الشيوعي صاحب المرجعية الاشتراكية، مع الليبرالي المتطرف، مع الإسلامي المعتدل ومع السلفي الخارج لتوه من متاهات المراجعات "الفكرية".
ألا يكفي ما سبق للخلوص إلى حقيقة أننا بتنا حقا إزاء بوار عام وشامل للسياسة بالمغرب؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.