حين تتحول الكنيسة المصرية إلى حزب سياسي

الكنيسة المصرية تحشد أتباعها لاستقبال السيسي في نيويورك

بداية التحول للدور السياسي
تململ الإصلاحيين المسيحيين
الثورة تطيح بهيمنة الكهنة
ثورة مضادة في الكنيسة أيضا

"المسألة هات وخد.. وكله سلف ودين" بهذا المثل الشعبي المصري برر الأنبا يؤانس أحد كبار قادة الكنيسة المصرية حماسها الشديد لحشد رعاياها في الولايات المتحدة والغرب عموما لاستقبال المشير عبد الفتاح السيسي خلال زيارته الأخيرة إلى نيويورك للمشاركة في الدورة الـ71 للجمعية العامة للأمم المتحدة.

الحشد الذي كان في استقبال السيسي كان بالفعل حشدا طائفيا بامتيار، نافست فيه صور البابا تاوضروس بطريرك الكنيسة الأرثوذكسية (تمثل غالبية المسيحيين المصريين) صور المشير السيسي أثناء وقفات الاستقبال والترحيب، وكأن منظميها أرادوا إيصال رسالة للسيسي أنهم هم فقط من وقفوا معه، ولم يتركوه وحيدا في مواجهة حشود الرافضين للانقلاب الذي ظلوا محاصرين للفندق الذي يقيم فيه طيلة إقامته في نيويورك، وقد فسر البعض هذا الحشد بأنه رد للجميل للسيسي الذي أصدر قانون بناء الكنائس الذي اعتبرته الكنيسة أهم قانون منذ 160 عاما، بينما اعتبره آخرون "عربونا" لطلب المزيد من المكاسب.

الأمر الأهم في هذا المقام هو ظهور الكنيسة المصرية كحزب سياسي يقوم بالحشد لمهمة سياسية، وهو دور عرفت به الكنيسة في عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك في إطار تفاهم غير مكتوب بين الطرفين، لكنها فقدت هذا الدور عقب ثورة 25 يناير 2011 حين تصدر شباب ومثقفون مسيحيون وحركات شبابية مسيحية لطرح الهموم المسيحية في إطار وطني عام يشاركهم فيه الكثير من المسلمين.

ومما يجدر ذكره هنا أيضا أن هؤلاء النشطاء المسيحيين المدنيين الذين نشأوا وترعرعوا في ظلال ثورة يناير يحاولون الآن التصدي لهذا التغول الكنسي، وفرض الكنيسة لنفسها كممثل وحيد للمسيحيين أمام الدولة، وقد أصدر أكثر من 160 ناشطا مسيحيا "رسالة مفتوحة للنظام والكنائس والمجتمع المدني" دانوا فيها تحرك الكنيسة لحشد المسيحيين لدعم السيسي في نيويورك واعتبروه خروجا عن القواعد الديمقراطية وإقحاما للدين في السياسة.

كما حذروا من خطورة استمرار الزج بالمؤسسات الدينية بشكل عام، والكنائس ‏بشكل ‏خاص، في المعادلة السياسية وسط مجتمع يعاني من أزمة طائفية بالأساس، وحملوا النظام والكنائس تبعات ذلك على بسطاء المواطنين المسيحيين؛ الذين يعانون من أزمات جراء دخول الكنائس ‏كطرف ‏بالمعادلة السياسية.

بداية التحول للدور السياسي
بداية تحول الكنيسة إلى الدور السياسي كانت مع تولي البابا شنودة لموقعه كبابا للأقباط الأرثوذكس في العام 1971 والذي شهد عهده عدة أحداث طائفية بدءا بحادث الخانكة عام 1972 وانتهاء بحادثة القديسين عام 2010، ولكن تحول الكنيسة إلى حزب (بالمعنى المجازي) يحتكر تمثيل المسيحيين سياسيا أمام الدولة ظهر مع تولي الرئيس الأسبق حسني مبارك مقاليد السلطة عام 1981 حيث كان من أوائل قراراته إعادة البابا شنودة إلى مهامه كرأس للكنيسة بعد أن أبعده سلفه أنور السادات وأسند مهامه لمجلس بابوي من 5 مطارنة.

كان المأمول أن تجتذب الأحزاب السياسية الكثير من المسيحيين ليمارسوا من خلالها العمل السياسي، ويعرضوا من خلالها مطالبهم، ولكن ضعف التجربة الحزبية ذاتها ومحاصرتها من الدولة من ناحية وتضخم دور الكنيسة في ظل الزعامة الكاريزمية للبابا شنودة جذبت الأقباط إلى الكنيسة بدلا من الأحزاب، ونجحت الكنيسة بالفعل في رفع هموم ومطالب الأقباط للدولة التي تجاوبت معها بشكل كبير، وكان ذلك ما يعزز تفويض المسيحيين لكنيستهم بأداء هذا الدور نيابة عنهم.

ومن جانبها ظلت الكنيسة وفية لهذه العلاقة مع نظام مبارك حتى لحظاته الأخيرة إذ رفضت الدعوات المطالبة باستقالته، وحافظت على احتجاجات المسيحيين على بعض الأحداث داخل أسوار الكاتدرائية، وأبدت قبولا ضمنيا لفكرة توريث جمال مبارك الحكم، كما وقفت ضد ثورة يناير في أيامها الأولى وأعلن البابا دعمه لحق مبارك في استكمال دورته، وكانت الكنيسة تتدخل لدى أقباط المهجر دوما لمنعهم من تنظيم وقفات احتجاجية ضد مبارك خلال زياراته للولايات المتحدة والغرب.

تململ الإصلاحيين المسيحيين
في تلك الفترة التي أحكمت فيها الكنيسة قبضتها على مسألة تمثيل الأقباط سياسيا، أظهرت بعض القيادات المسيحية المدنية والدينية تململا ومعارضة، وكان من الشخصيات المدنية الرافضة لتدخل أو احتكار الكنيسة لتمثيل الأقباط سياسيا البرلماني السابق الدكتور ميلاد حنا بحكم انتماءاته اليسارية، والمفكر المسيحي سمير مرقص (الذي عينه الرئيس محمد مرسي مساعدا له لاحقا ثم استقال بعد شهور وانحاز لمعارضي مرسي) وكذا الناشط السياسي جورج إسحق الذي انتخب عضوا في اللجنة التنفيذية لحزب العمل ذي التوجه الإسلامي، والذي ساهم في تكوين حركة كفاية، ثم كان من مؤسسي جبهة الإنقاذ المناهضة لمرسي وانحاز للانقلاب العسكري في يوليو/تموز 2013، والبرلماني السابق جمال أسعد عبد الملاك وهو أول مسيحي يدخل البرلمان على رأس قائمة التحالف الإسلامي عام 1987، والذي انضم لجبهة معارضي مرسي لاحقا.

وبينما كان الثلاثة الأوائل مع آخرين أقل حدة في رفضهم للدور السياسي للكنيسة وظلوا محافظين على علاقة ودية مع قيادتها فقد كان أسعد هو الأكثر تشددا وقد ألف كتابا بعنوان "من يمثل الأقباط.. البابا أم الدولة؟" انحاز فيه إلى فكرة أن الدولة بكل مؤسساتها الرسمية والشعبية هي التي تمثل الأقباط وليس البابا أو الكنيسة، وتسبب ذلك في جفوة بينه وبين الكنيسة.

أما من رجال الدين المعارضين للبابا شنودة ولدور الكنيسة السياسي فقد برز كل من القمص شاروبيم والقس أنسطاسي شفيق والقس إبراهيم عبد السيد، والذين قادوا حركة إصلاح داخل الكنيسة، وقد انتهت حركة الإصلاح بشلح رجال الدين الثلاثة (تجريدهم من رتبهم الدينية) كما منعت الكنيسة الصلاة عليهم بعد مماتهم، وحرمت أسرهم من معاشاتهم، كما نجحت الكنيسة في استمالة الشخصيات المدنية المعارضة، وبالتالي لم تنجح حركة الإصلاح بشقيها المدني أو الديني في ثني الكنيسة عن دورها السياسي بسبب قوة شخصية البابا شنودة من جهة وتمسك غالبية المواطنين المسيحيين بهذا الدور وشعورهم بعدم الأمان بعيدا عن الكنيسة، وكذا بسبب تشجيع الدولة لهذا الدور وتجاوبها معه.

الثورة تطيح بهيمنة الكهنة
حين اندلعت ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011 كانت قيادة الكنيسة من أكبر الداعمين لحكم الرئيس السابق حسني مبارك، وقد دعت الشباب المسيحي لعدم المشاركة، لكنها لم تفلح تماما، إذ شارك بالفعل بعض الشباب المسيحي في الثورة، وكان بعضهم يحرص -وهذا ما شاهدته بعيني- على حمل لافتات كتب فيها أنها "مشارك رغم قرار البابا بالمقاطعة"، وكانت فترة الأيام الثماني عشرة للثورة في ميدان التحرير وغيره من الميادين فرصة جيدة لاندماج حقيقي بين الشباب المسلم والمسيحي في عمل سياسي مشترك.

وشهد الميدان العديد من المظاهر الودية بين الطرفين، ونظمت منصة الميدان صلوات للمسيحيين في أيام الأحد من قلب ميدان التحرير، وقد أسهمت هذه التجربة في تحطيم سيطرة الكنيسة على الشأن السياسي للأقباط، وظهور نشطاء مسيحيين من الشباب، كما عادت الروح لبعض القيادات المدنية القديمة، وأصبحت جبهة المدنيين المسيحيين (يوصفون كنسيا بالعلمانيين) أقوى من جبهة رجال الدين (الكنيسة) لأول مرة منذ زمن بعيد رغم وجود البابا شنودة صاحب الشخصية الكاريزمية (توفي في 17 مارس/آذار 2012).

وقد أثبت ذلك أن رهانات الكنيسة على حكم مبارك كانت خاطئة، وكانت ستتسبب في مزيد من العزلة الشعبية للأقباط لولا هذا الدور الشبابي النشط، وفي مقابل الغياب المسيحي شبه التام عن الأحزاب السياسية قبل ثورة يناير نشط المسيحيون في العمل الحزبي بعدها، إذ أسس بعضهم أو ترأس أو شارك في تأسيس أحزاب سياسية مثل حزب المصريين الأحرار والمصري الديمقراطي والدستور.

ثورة مضادة في الكنيسة أيضا
كانت صدارة الحركات الشبابية المسيحية التي نشأت بعد الثورة للمشهد القبطي أحد المتغيرات المهمة التي أنتجتها ثورة يناير2011، ويمكن القول إنها كانت ثورة هادئة على قيادة الكنيسة التقليدية، وقد أسرت قيادة الكنيسة -كبقية قوى الدولة العميقة- ذلك في نفسها لتنتفض لاحقا مع غيرها من مكونات هذه الدولة العميقة لوأد الثورة، ولتستعيد سلطتها السياسية مجددا إلى جانب سلطتها الروحية، وخاصة مع تولي البابا تواضروس لرئاسة الكنيسة بعد وفاة البابا شنودة.

فقد شاركت الكنيسة في التحريض ضد حكم الرئيس محمد مرسي، وساهمت في صناعة الأزمات داخل الجمعية التأسيسية للدستور في 2012، وتلاقت رغبتها مع رغبة الحركات المدنية المسيحية وغيرها من الحركات المناوئة لحكم الرئيس مرسي فساهمت بقوة في الحشد لمظاهرات 30 يونيو/حزيران 2013، ومن ثم شارك البابا تاوضروس في مشهد الانقلاب يوم 3 يوليو/تموز 2013 إلى جانب السيسي وشيخ الأزهر والبرادعي وأمين حزب النور وقادة القوات المسلحة.

وعقب وقوع الانقلاب مباشرة قاد البابا انقلابا مماثلا في الكنيسة عاد بمقتضاه للصيغة التي أرساها سلفه البابا شنودة، وهي احتكار الكنيسة لتمثيل المسيحيين سياسيا، ورغم تصاعد الأزمات الطائفية في عهد السيسي فإن البابا ظل يحتفظ بعلاقة متميزة جدا معه، وقد اعتبرته الكنيسة مبعوث العناية الإلهية من حكم الإسلاميين، وظلت تقيم له الصلوات دوما في مواجهة المخاطر التي يتعرض لها، وأخيرا سعت الكنيسة لإظهار قدرتها على الحشد مجددا خلال زيارة السيسي الأخيرة للولايات المتحدة، فأوفد البابا اثنين من أقرب مساعديه وهما الأنبا يؤانس والأنبا بيمن للطواف على كنائس المهجر، وحشد المسيحيين في عشرات الحافلات لاستقباله.

ولأن الحشد كان كنسيا فإنه فقد صفته الشعبية والوطنية خاصة مع مزاحمة صور تاوضروس والصلبان المسيحية لصور السيسي وعلم مصر، وهو ما فجر مخاوف القوى المدنية المصرية بما فيها القوى المسيحية من انعكاس ذلك سلبا على مسيحيي مصر في الداخل، فهذا الحشد الكنسي سيعمق المناخ الطائفي في مصر، وقد تنبه إلى ذلك العديد من النشطاء المسيحيين الرافضين لتدخل الكنيسة في السياسة فحاولوا من خلال رسالتهم للنظام والكنائس والمجتمع المدني إثبات أن موقف الكنيسة لا يمثل جميع الأقباط في محاولة لتجنب أثاره السلبية، لكن المؤكد أن هذا الموقف سيترك آثاره السلبية على المجتمع المصري.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.