في ذكرى المذبحة.. رابعة وأبعادها السياسية

اعتصام رابعة

سياسة المجازر
المطبلون والفاعلون
المذبحة والربيع

 

 

"ساقه مكسورة.. لا أستطيع تركه هنا،" قالت الطبيبة بالمستشفى الميداني في ميدان رابعة العدوية في ١٤ أغسطس/آب ٢٠١٣. "لا تقلقي.. سأكسر قلبه أيضا" أجابها ضابط القوات الخاصة قبل أن يطلق رصاصة في قلب المصاب. كانت تلك الوحشية جزء صغيرا مما حدث يوم فض الاعتصام، وهو ما وصفته منظمة هيومن رايتس ووتش الحقوقية بـ"أسوأ عملية قتل جماعي في تاريخ مصر الحديث" و "جريمة محتملة ضد الإنسانية."

بعد عدة اجتماعات لمجلس "الأمن القومي" في يوليو/تموز، وأغسطس/آب 2013، قررت مجموعة من قيادات العسكر والمخابرات والشرطة وبعض حلفائهم من السياسيين المدنيين المعينين من قِبَلهم بعد انقلاب ٣ يوليو/تموز ٢٠١٣ اقتحام الاعتصامات المناهضة للانقلاب في ميداني رابعة العدوية بالقاهرة والنهضة بالجيزة. نتجت عن فض الاعتصامات أكبر مجزرة في تاريخ مصر المعاصر.

العدد الكلي للقتلى غير محسوم حتى اليوم؛ ويرجع ذلك بالأساس للعقبات التي فرضها النظام الحاكم على جمع البيانات، وخاصة بيانات المجازر. فقد ادعت وزارة الصحة في مصر أن عدد القتلى كان 670 والجرحى 4400، بينما أكدت بيانات المستشفى الميداني في رابعة أن عدد القتلى فاق الألفين. أما منظمة "هيومن رايتس ووتش" فقد ذكرت أن عدد القتلى يتجاوز الألف معتصم، أي أن القوات النظامية كانت تقتل حوالي مائة مواطن مصري في الساعة الواحدة.

وقد استطاع المركز المصري للحقوق الاجتماعية والاقتصادية توثيق 932 جثة بالكامل، و294 جثة موثقة جزئيا، و 29 جثة مجهولة الهوية، وخمس جثث مفقودة. وتشمل هذه الأرقام 30 من الفتيات والفتيان في سن المراهقة، و17 امرأة.

سياسة المجازر
رابعة وأخواتها مثل مجازر الحرس الجمهوري في 8 يوليو/تموز 2013 (51 قتيلا)، والمنصة في 27 يوليو/تموز 2013 (95 قتيلا)، وميدان النهضة في 14 أغسطس/آب 2013 (87 قتيلا)، ستكون لها آثار كبيرة على حاضر مصر ومستقبلها.

فالمذابح بهذا المستوى من سفك الدماء عادة ما تكون لها عواقب اجتماعية وسياسية وقانونية محلية ودولية. فمثلا مأساة "الأحد الدامي" في إيرلندا الشمالية عام ١٩٧٢ (١٤ قتيلا من المتظاهرين على يد القوات الخاصة البريطانية) ولَّدَت ربع قرن من المواجهات العسكرية والسياسية بين الحكومات البريطانية والجيش الجمهوري الإيرلندي ومجموعات جمهورية مسلحة أخرى.

ورغم أن تقرير سافيل الشهير قد أنصف أهالي الضحايا، واعتذر على أثره -عام ٢٠١٠- رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون عما ارتكبه المظليون البريطانيون، فإن التوابع الاجتماعية للمأساة لم تنته حتى اليوم.

كذلك الحال في "مذبحة فاطمة" أسوأ مجازر "الحرب القذرة" في الأرجنتين (١٩٧٦-١٩٨٣)؛ فقد أسفرت عن مقتل ثلاثين معارضا لحكم العسكر على يد الأجهزة الأمنية للمجلس العسكري الحاكم عام 1976. وقد نتج عنها اشتعال المواجهات المسلحة وغير المسلحة على حد سواء لأكثر من عقد من الزمان، وأدى ذلك كله وعوامل أخرى لما سُمي "بمحاكمات الطغمة العسكرية" ابتداء من عام 1985.

وقد حوكم قادة الانقلاب العسكري، ومن بينهم اثنان من الرؤساء العسكريين السابقين: الجنرال جورجي فيديلا (توفي في السجن في عام 2013)، والجنرال ليوبولد جالتييرى (توفي في 2003).

وقد شهدت المنطقة العربية مجازر سياسية أسوأ بكثير مما سبق ذكره، وذلك من حيث عدد الضحايا وفظاعتها ووحشية مرتكبيها؛ فمثلا، ارتكبت قوات الأمن التابعة لنظام القذافي مذبحة سجن أبو سليم في يونيو/حزيران 1996. أسفرت المجزرة عن أكثر من 1200 قتيلا خلال يومين من القتل المستمر. ولم تكن هناك عملية عدالة مؤسسية في ليبيا كما كان الحال في الأرجنتين، أو مصالحة وطنية كما الحال في إيرلندا الشمالية أو جنوب أفريقيا، فقُتل القذافي وسقط نظامه بثورة مسلحة عام 2011.

المطبلون والفاعلون
وفي مصر كانت للمجازر أسبابها وآثارها أيضا؛ فقد كان انقلاب يوليو/تموز ٢٠١٣ ومجازر يوليو/تموز، وأغسطس/آب نتيجة مباشرة لاختلال موازين القوى بين الأطراف المتصارعة وفيما بينها أيضا. ففي داخل الائتلاف الداعم للانقلاب كان الفصيل المهيمن هو صقور العسكر، يليه في السطوة صقور الأمن. وفي أسفل تسلسل القوة كانت هناك بعض الأحزاب والساسة المدنيين من مختلف الخلفيات الأيديولوجية (إسلامية وعلمانية).

صقور العسكر والأمن أرادوا الإبادة أو الاستسلام غير المشروط من الائتلاف المؤيد للرئيس المنتخب والمناهض للانقلاب، في حين أن عددا قليلا من السياسيين المدنيين أرادوا قمعا محدودا لمناهضي الانقلاب. "لا تخلط بين المُطَبلين واللاعبين.. صانعو القرار سيكونون دوما من الأخيرين. المطبلون والراقصات هم فقط ضوضاء في الخلفية." قال لي عسكري سابق بعد المجزرة مباشرة. وكما ذكر كان لـ"اللاعبين" ما أرادوا، أما المطبلون فهم اليوم بين السجن والمنفى والتهميش (رغم استمرار بعضم في التطبيل بعد ثلاثة سنوات من المجزرة).

ولكن لماذا أصر صقور العسكر والأمن على هذا القرار رغم التوابع المحتملة ورغم معرفتهم بمصير بعض مرتكبي المجازر كمعمر لقذافي وبشار الأسد وصدام حسين؟ كان هناك اعتقاد قوي بين "الصقور" بأن المشير طنطاوي (رئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة الحاكم بين ٢٠١١ و٢٠١٢) كان متساهلا في التعامل مع المحتجين والمعارضة، وكذلك كان حسني مبارك.

ولذلك كان الدرس المستفاد من إسقاط مبارك وإقالة طنطاوي هو أن الحل في الاستئصال لا في التسوية والمصالحة. وكانت حسابات هذا الفصيل تقول بأن استخدام تكتيكات الأسد والقذافي في أعقاب انقلاب ٢٠١٣ ستكون فعالة وستمر دون محاسبة أو عواقب، وخاصة أن احتمالات التدخل الغربي كما كان الحال في ليبيا ٢٠١١ أو المقاومة الشعبية المسلحة المدعومة بقطاعات الجيش الوطني كما هو الحال في سوريا ٢٠١١ هي احتمالات ضئيلة للغاية. وحتى إذا تحقق شيء من السيناريو الأخير، فالقوات النظامية ستتفوق في استخدام العنف وبالتالي ستنتصر في أي نزاع مسلح محلي. كما سيكون لديها الشرعية للقيام بذلك، نظرا للبعد العسكري في الصراع وكذلك التطورات الإقليمية والدولية.

المذبحة والربيع
كانت مجزرة رابعة نقطة فارقة في طريق حل الأزمة عبر التهدئة والتسوية والمصالحة، وبالتالي جمدت احتمالات نجاح التحول الديمقراطي في مصر بشكل مؤقت. فقد فشلت النخب المصرية في حل الأزمة دون إراقة دماء وفشلت أيضا في تقنين الصراع السياسي وضبطه بصناديق الاقتراع، والمواد الدستورية، والمفاوضات، والتنازلات المتبادلة، وإبعاده عن العنف السياسي واستخدام السلاح.

يشهد بذلك مبعوث الاتحاد الأوروبي برناردينو ليون لوكالة رويترز في ١٤ أغسطس/آب ٢٠١٣: "كان لدينا خطة سياسية على الطاولة، وتم قبولها من قبل الجانب الآخر [التحالف المؤيد للرئيس]. وكان يمكن [للعسكر وحكومة حازم الببلاوي المعينة منهم] أن يأخذوا بهذا الخيار. ولذلك كل ما حدث اليوم [مذبحتي رابعة والنهضة] كان غير ضروري".

هذه الشهادة وبقية المؤشرات هي أخبار سيئة؛ فهي تعني استمرار نهج تاريخي مدمر للسياسة المؤسساتية في مصر. فعدم الرغبة أو عدم القدرة على تقنين الصراع السياسي، مع استمرار القمع الوحشي للمعارضين يشعل موجات من ردود الأفعال العنيفة وغير العنيفة، ويعطي شرعية أيديولوجية لأنواع مختلفة من العنف السياسي، بدء من الانقلابات العسكرية وانتهاء بالإرهاب.

وإذا كانت صناديق الرصاص تثبت باستمرار أنها أكثر فاعلية ونجاعة من صناديق الاقتراع -كما شهدت بذلك رابعة- فإن ذلك يلقى بظلال قاتمة على مستقبل "العيش" و"الحرية" و"العدالة" و"الكرامة" في مصر.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.