كيف اختل التوازن الفكري الإسلامي وكيف يعود؟

العنف السلفي في تونس: الواقع والخيارات


لم يكن خطاب الدعوة التربوية في ذروة صعوده المعاصر قد استوعب عالم الأسباب والوسائط الذي يظهر في كل تفاصيل السيرة النبوية، ولم يكن حاضرا في أدبيات ووجدانيات الدعوة الأيديولوجية.

بل كانت تُسقط دلالات النصر والابتلاء في خطاب المربين على هذه الجماعة أو تلك، وكأنها نزلت قطعا في هذه الجماعة، أو في تلك التي تمر بمحنة أو قمع من المستبدين العرب، دون تحريك فن السببية السياسية، والفرار من قدر الله إلى قدره الآخر، كما يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

وبالتالي لم تتوسع التجربة الدعوية إلى الفكر الإسلامي العام والمستقل عن الذات الأيديولوجية، وفضاءات المجتمع الوطني وهموم أمة الشرق الموحد، وإن كانت قد تبنت مآسي لشعوب الشرق، لكن دون أن تخلق لها كيانا تفكيريا واسعا، كما كانت طريقة التفكير في حركة الإحياء الإسلامي التي اهتمت بثنائية المقاومة والنهضة العقلية الإسلامية.

وساهم هذا الصراع والقمع من الاستبداد، في عُزلة الفكرة الأيديولوجية الخاصة للدعوات التي تكررت في نماذج الإخوان وغيرهم، وأحيانا في بيئات لم يكن فيها أي تصادم مع المؤسسة الرسمية.

وقد يشار في هذا الشأن كسؤال اعتراضي إلى المسالك الفقهية أو الروحية كالطرق الصوفية وغيرها، لماذا لا تُعتبر أيديولوجيا؟ ومع أنه تكتلات حقيقية فربما يعود ذلك إلى أنها لم تتطور لهذه الحالة من صناعة الإيمان بالفصل الأيديولوجي والولوج به لعالم السياسية.

 

ونتيجة أيضا لذلك الصراع تغير كثيرا من عطاء المكتبة الإسلامية، وانصرفت الفكرة الأيديولوجية الخاصة عن جوامع قضايا المعرفة التجديدية الكبرى، لحركة الإحياء الإسلامي، وتحولت إلى قضايا فقه الدعوة الحزبية، وهذا لا يعني انقطاع مسارات الثقافة والتجديد في الشرق، لكنها ضعفت كثيرا، وتوسع على حسابها فقه الصراع والنماء الكمي للجماعة الدعوية.

وبسبب ذلك خسر الخطاب الإسلامي المعرفي كثيرا من رحلته الزمنية وإمكانياته البشرية التي كان من الممكن أن تُعطي الثقافة الإسلامية مادة مهمة لميدان حضارة ووعي ونهضة وفكر دستوري وحقوقي يتجاوز الحزبية الدعوية إلى الإنسانية الشرقية المسلمة وغيرها.

ولقد تطورت أزمة الخطاب الإسلامي المعاصر، حين انعطف المنبر الدعوي انعطافة سلبية جديدة في أوائل السبعينات، وبعد أن أثر عليها خطاب الصحوة الخليجية، وهو منظومة أفكار ومفاهيم، له مشتركات مع خطاب البعث الإسلامي الأول ومع الأصول الإسلامية، لكنه برنامج نشأ في بيئة محلية، استوعبتها فكرة الضلال والانحراف عن تاريخ التشريع الإسلامي باستثناء مذهبه، وما تعتبره الصحوة مدرسة سلفية جديدة ببعدها السياسي، وليست سلفية الإرث الفقهي القديم لأهل الحديث، وكان جزء من أزمتها الإيمان بالسعي لتصفية أو إضعاف المذاهب السنية الأخرى، وإلزام الناس بمعاييرها الفقهية.

هذا إضافة إلى إشعال روح الصدام مع أي بناء فكري ثقافي تراه ضلالا، وقد تصنفه علمانيا قبل فهمه، أو اجتهادات فكرية إسلامية مخالفة لفقه الصحوة، فضلا عن إشكالية التعامل الأخلاقي مع المختلف فكريا، وعدم القدرة على الانسجام والشراكة الوطنية.

ولا يمكن أبدا إلغاء مسألة الأثر والتوظيف السياسي الذي تعرضت له الصحوة الخليجية دون أن نزعم بأن ذلك شكل كل قاعدتها أو شمل كل شيوخها، ولا يبرر ذلك أيضا حملات توظيف تطرف رسمي وليبرالي موجه ضدها، استعر بعد سقوط الربيع العربي.

غير أنه من المؤكد أن علاقة الولايات المتحدة الأميركية مع المؤسسة الرسمية في الخليج العربي التي صعدت منذ العام 1960، لعبت دورا في استثمار ضحالة الفكر السياسي بل انعدامه في الصحوة، وتوجيهه نحو معارك اجتماعية تشغل الرأي العام عن أي مطالب شعبية للخليج العربي نحو الإصلاح الدستوري، صدرت من خلال دعوات مثقفين إسلاميين أو قوميين أو غيرهم.

وعليه فإن هذه المعارك التي أشعلت في الشارع العام وفي المؤسسات الاجتماعية والتعليمية، كانت تخدم هذا التوافق الأميركي الخليجي زمنا، وكان من الممكن أن يُصحح كثيرٌ من الأفكار لولا جولات التوظيف التي استفادت من نزعات التشدد ومكنت لها.

ولقد تعرض ما تبقى من بناء فكري حضاري في الدعوات الحزبية الإسلامية وخاصة في المشرق العربي، لحالة تأثر بهذا المنظور الخليجي، فتراجع رصيد الوعي مقابل منابر الوعظ.

وليس المقصود تخطئة الوعظ الذي هو جزء من مهمة الخطاب الديني في الإسلام، ولكن المشكلة أنه تحول إلى مظلة تفويج وتنظير سياسي ووطني وفكري، رغم قصوره المعرفي الشديد، ثم بات مركزا لصراع وطني اجتماعي شرس.

في هذا الوقت اجتاح المشهد، مشروع السلفية الجهادية المحتقن عاطفيا، والمسحوق إنسانيا بين قمع النظام الدولي والعربي، والذي تابع شبابه كيف تسقط أحجار الدومينو في دول المسلمين تحت ثنائية الاستبداد والمشروع الإمبريالي، والذي شاركه بقوة مشروع الطائفية السياسية للجمهورية الإيرانية.

وهو ما يصعب عرض كل تفاصيل ملفه المهمة، لكن هذا الاجتياح مع قصور الوعي وثورة العاطفة، والتدخل المخابراتي الواسع، ليس بالضرورة في تأسيس مجموعات السلفية الجهادية ذاتها، ولكن في دحرجتها إلى أعمال تطرف، ومساحات محسوبة لكل طرف دولي وإقليمي في الصراع، مع فتح منبر الملاعنة المذهبية، لتحكم عقل الإنسان في الشرق ووجدانه.

ولقد وُلد الربيع العربي في هذه الأجواء الصعبة التي شكّلت ما يشبه انتفاضة ضمير ووعي، في قضية نجاح الكفاح المدني، وشراكة الإسلاميين في معركة الحريات الدستورية والإرادة الشعبية، لكن قبل أن تتاح لهم فرصة المراجعات الكبرى، وفرصة التخلص من حالة التسييس الذي تعرضوا لها، وانتكاسة خطابهم الديني، عن أصول مقاصد الشريعة ومصالح النهضة لكل قُطر، وكل حاضر العالم الإسلامي.

وليست القضية فقط في عدم إدراك مفصل النجاح في تجربة إسلاميي تركيا، والتي تعيش مرحلة جديدة اليوم، ولكن في أهم مغزى حققه حزب العدالة والتنمية في الحضور في العمل الوطني العام في الجمهورية التركية الحديثة، وفي التحالف الديمقراطي الذي أنجزه وهو يخوض اليوم أهم معاركه بعد فشل انقلاب الجيش، وهذا المغزى هو الذي أطلق مفهومه الجديد، عبر إيمان كتلة عبد الله غل ورجب طيب أردوغان بأنه لا سبيل إلى النجاح إلا بتحولهم من حركة جماعة إلى حركة مجتمع، يؤسس عليها الفكر السياسي.

فعدم فقه هذا المفهوم هو أحد أبعاد الأزمة في الخطاب الإسلامي المعاصر اليوم، في الجانب السياسي. لكن القضية الفكرية والاجتماعية أوسع من ذلك، وهي تطرح من جديد الواجبات المهمة لخطاب التجديد لحاضر العالم الإسلامي، والبناء على مفكريه الأوائل بالنزول إلى ثقافة وعي المسلم الإنسان التي تتعاظم في الشرق، وتساؤلات العالم الجديد.

ما هي قصة الإنسان والوجود، ورحلة الإنسان والدين، وما هي واجبات الخطاب الفكري الإسلامي؟ رعاية الأسئلة والرأفة بالوجدان الشبابي، أم منصات التحريض الثقافي والأمني؟ وما هي ضوابط حرية الفكرة مع قانون الاحترام للمجتمع العام، وحمايته من الفوضى الجدلية؟

ثم أين يبدأ إنقاذ الشرق ودوله اليوم، هل يكون ذلك بالذهاب حتى آخر معركة للسلفيات الجهادية والتدخلات الواسعة التي خنقت ثورة سوريا، واستغلت المخابرات المتعددة أمراض الأيديولوجيا الدعوية، والصحوة المعاصرة للإسلاميين العرب، أم التفكير بالعقل المسلم الجمعي الواعي المرتفع عن أزمة الذات وأزمة الأخلاق.

وهل يحتاج الشرق اليوم سلسلة من مشاريع التفكيك لاحتقاناته، توقف الحروب على المدنيين والحياة أولا، ثم تطرح بناءها الفكري ومستقبل حياتها الوطنية في محاضن وعي إيجابي غير موجه، لم تعصف به دعوات الثأر المذهبية، فتُبنى ممانعة الفكر، وأرضية المشروع قبل سقوط ما تبقى من الشرق.

هذا الشرق الذي يستثمر الغرب المتطرف كل صراع لتحويله إلى كتلة جحيم ربما قرر تقاسمها منذ أن أسقط الربيع أو قبله، وهو تطرف استفز تطرفا وقصورا ذاتيا من المسلمين، وانتُهكت خلاله كل معالم العدالة الإنسانية.

وهي معالم لن تُسترد لصالح استقرار الشرق وبناء نهضته الجديدة، بالاستمرار في الغضب الذي يلعن الذات ويلعن العدو ويمكّن له في الوقت ذاته بجهله، وإنما عبر التوقف عن التفكير والتعبير المَرَضي والتقدم إلى فكرة الإنسان المسلم النهضوي، حينها بعون الله تقوم أسباب النصر السياسي والعسكري.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.