المشهد الليبي بين الشرعية ومحاربة داعش

A tank belonging to forces aligned with Libya's new unity government is seen on a road as they advance on the Islamic State stronghold of Sirte, in Libya June 8, 2016. REUTERS/Stringer FOR EDITORIAL USE ONLY. NO RESALES. NO ARCHIVES.


عندما قامت الانتفاضة ضد نظام القذافي كان التصنيف الوحيد للقوى المكونة لمشهد الصراع آنذاك ثنائيا (من مع القذافي أو من ضده) وقد ترتبت على هذا التصنيف جملة من المفردات السياسية والعسكرية التي لم تغادر الخطاب السياسي الليبي منذ تلك الساعة وحتى لحظة التشرذم والشظى الحالية.

لقد أنتجت حالة الانتفاضة ضد النظام ثنائية من المفردات على غرار ثنائية القوى المتصارعة فظهرت في الخطاب السياسي الليبي مفردة الثوار مقابل مفردة الأزلام تقابلها مفردة الجرذان في مواجهة الثوار.

كل ذلك كانت تقتضيه قوانين الصراع؛ ولهذا فإن من قاتلوا ضد نظام القذافي بالسلاح حملوا صفة كتائب الثوار، ومن قاتلوا إلى جانبه حملوا صفة كتائب القذافي الأمنية، فلا أحد من الأطراف يطلق صفة الجيش على المقاتلين في الطرف المقابل، لأن القذافي كان يرى في قوى الانتفاضة شراذم متمردة وخونة يقاتلون تحت مظلة حلف الناتو، بينما هؤلاء يرون في من يقاتلون في صف القذافي كتائب أمنية موالية للقذافي تدافع عن أمنه وبقائه مهما بلغ ظلمه، ومهما كانت تكلفة ذلك من أرواح الليبيين وبالتالي فهي ليست جيشا وطنيا مواليا للوطن.

ولعل هذا الوصف لم يكن بعيدا عن واقع الحال بالنظر إلى الوظيفة التي كلف بها القذافي هذه الكتائب وإلى الطريقة يتم بها اختيار قياداتها مما جعلها لا تستطيع الوقوف على الحياد عندما تفجرت الاحتجاجات والمظاهرات وما تلاها من انتفاضة.

فمؤسسة الجيش مناط بها حماية الوطن ولا تتدخل في الخصومات والصراعات السياسية السلمية بين السلطة وخصومها السياسيين، ولكن هذا لم يكن هو موقف هذه الكتائب حيال ما حدث، فلو أنها تصرفت كجيش حافظ على قواته ومعسكراته وأسلحته ولم تنجر للقتال ضد الجماهير التي انتفضت ضد النظام بدون سلاح لبحث القذافي عن وسائل سلمية لبقائه في السلطة أو لسقط نظامه سلميا أو بعدد قليل من الضحايا.

ولما دخلت البلاد في حرب ضروس خرجت فيها ملايين قطع السلاح عن السيطرة وتشكلت كتائب مسلحة للدفاع عن مدنها وقراها، وفتحت أبواب ليبيا على مصراعيها للتدخلات الدولية والإقليمية ولتنظيمات العنف والإرهاب العابرة للحدود والتي وجدت فرصة تاريخية لتؤسس في خضم الصراع وفوضى السلاح ما كانت تحلم به من قواعد مسلحة في بلد غنى ليس كأفغانستان ولا منزويا في القرن الأفريقي كالصومال، بل يقع على أطول شاطئ يطل على أوربا من الجنوب.

كانت هناك بقايا مهملة من الجيش لم تكن تنتمي إلى الكتائب الأمنية، فلما قامت الانتفاضة وتغولت الكتائب الأمنية انضم كثير من ضباطها وجنودها إلى الانتفاضة وتولوا التدريب وشاركوا في القتال دون أن يفقدوا نظامهم العسكري وتشكيلاتهم؛ ولهذا فإنهم بعد انتهاء الحرب كانوا هدفا لعمليات الاغتيالات والتصفيات الجسدية من قبل التنظيمات المؤدلجة التي ترفض قيام الدولة المدنية ومؤسساتها بما فيها الجيش، وعاضدتها المليشيات التي استمرأت السلطة في ظل الانفلات الأمني وغياب سلطة الدولة، وتوسعت دائرة الاستهداف من قبل هذه التنظيمات لتشمل فئات المجتمع الأخرى من الصحفيين والإعلاميين والناشطين السياسيين وقيادات المجتمع المدني.

ولهذا عندما أعلنت بعض القيادات العسكرية عن إعادة تكوين الجيش لمواجهة هذه المنظمات والمليشيات المساندة لها، انحازت إليها كل فئات المجتمع التي كانت تعيش تحت سيف الإرهاب ولاسيما في شرق البلاد وخصوصا مدينة بنغازي، ولكن محاربة الإرهاب وحدها لم تكن كافية لإضفاء الشرعية على هذه القوات بل كان يلزم اعتراف السلطة الشرعية المنتخبة من الشعب الليبي بهذه القوات واعتبارها النواة الحقيقية للجيش الوطني، وبعد قرار البرلمان بإضفاء الشرعية على هذه القوات وقياداتها أصبحت هي المؤسسة العسكرية الوحيدة التابعة للدولة الليبية فانضم بعد ذلك الكثير من الضباط والجنود إلى الوحدات التي أخذت تتشكل في مختلف أنحاء ليبيا باعتبارها هي منظومة الجيش الوطني الليبي.

عندما وقع الخلاف بين البرلمان المنتخب وبقايا المؤتمر الوطني بعد نهاية ولايته انفتح الباب أمام كل القوى التي لم يحالفها الحظ بالفوز بمقاعد في مجلس النواب أو كانت مقاعدها قليلة بسبب نفور الناخبين من أطروحاتها ومواقف ممثليها إبان مرحلة المؤتمر الوطني -التي يتهمها معظم الليبيين بالمسؤولة عن تغول المليشيات والتنظيمات المتطرفة وتفشى العنف والإرهاب- فعملت هذه القوى على خلق واقع بالقوة في مواجهة شرعية البرلمان، فاستحوذت على العاصمة وأعلنت سلطة موازية للسلطة الشرعية تحت حماية المليشيات المناطقية والتنظيمات الدينية المتطرفة.

ونتيجة لذلك نشأ وضع شاذ تمثل في سلطة شرعية أنتجتها صناديق اقتراع الليبيين ولكنها ضعيفة لا تملك أدوات القوة المادية التي تمكنها من ممارسة أفعال السلطة، بينما تقف في مواجهتها سلطة أمر واقع مدججة بسلاح المليشيات والمنظمات المتطرفة وتستحوذ على معظم قدرات وإمكانيات الدولة الليبية.

وقد أدى هذا الوضع إلى إعادة تدوير هذه المليشيات والتنظيمات التي سبق لها أن اختطفت المؤتمر الوطني وحكومته عندما كان شرعيا وأملت عليه إرادتها وقراراتها فأصبح بعض قادة وأمراء هذه المليشيات وزراء في حكومة الأمر الواقع إلى جانب من كانوا أعضاء في المؤتمر الذي أعيد إلى الحياة.

كانت هذه المليشيات والتنظيمات التي لا تستطيع ولا تريد أن تنضوي في مؤسسة الجيش، تستعيض عن ذلك بتقمص صفات تستعيرها من قاموس مفردات الانتفاضة ضد نظام القذافي فأطلقت على نفسها صفة كتائب الثوار التي تستمد شرعية وجودها من انتمائها إلى الثورة والدفاع عن مكتسباتها في مواجهة الثورة المضادة.

رغم التمايز بين مليشيات المناطق والمدن وبين التنظيمات المؤدلجة دينيا والتي ترفض معظمها الدولة المدنية فإن الخطاب السياسي والإعلامي وجد في مصطلح الثوار حلا لمشكلة التمايز والاختلاف من أجل رص الصف في مواجهة عدو مشترك، كما أنهم جميعا وجدوا أنفسهم في خندق واحد للدفاع عن ما حازوه من سلطة وغنائم في موجهة سلطة البرلمان التي أنتجتها الإرادة العامة للشعب الليبي والتي كان من أولى قراراتها حل هذه المليشيات والتنظيمات وتسليم أسلحتها.

لكن لعل التحدي الأكبر في نظر هذه المليشيات والتنظيمات هو ظهور قوة نظامية مسلحة من بقايا الجيش الليبي أعلن قادتها أن مهمتهم هي محاربة التنظيمات الإرهابية التي نشرت الرعب في مدن الشرق ولاسيما بنغازي ودرنة عن طريق التفجيرات والقتل والخطف والتصفيات الجسدية لكل من يعتبرونه مخالفا لهم في الرأي والعقيدة.

تمثل هذا التحدي في أن التنظيمات التي يقاتلها هذا الجيش في مدن الشرق الليبي مثل أنصار الشريعة والقاعدة وداعش (تنظيم الدولة الإسلامية) المصنفة إرهابية من قبل البرلمان ومجلس الأمن الدولي هي امتداد لتلك للتنظيمات التي تساند حكومة الأمر الواقع، كذلك الأمر بالنسبة للمليشيات المناطقية التي يرى قادتها في ظهور نواة لجيش وطني صيغة مضادة وخطرا على مراكزهم ومصالحهم المناطقية، ولهذا فإن هذه التنظيمات وهذه المليشيات رغم ما بينها من اختلاف إلا أنها أصبحت تقاتل في معركة واحدة تحت مظلة سلطة الأمر الواقع، فعادت ثنائية مفردات الخطاب السياسي والديني الذي يقود هذه المعركة فأصبح ينعت هذه التنظيمات التي تقاتل الجيش بمجالس شورى الثوار بينما أسبغ صفات سياسية ودينية على كل من يقاتل هؤلاء فوصفهم بقوى الثورة المضادة والأزلام والطواغيت والمرتدين.

ولكن الاتفاق السياسي الذي تم تحت رعاية دولية خلق مسارات ومصالح أمام قيادات المليشيات والقادة السياسيين في سلطة الأمر الواقع أبعدتهم عن مسارات ومصالح قيادات التنظيمات المتطرفة فتفككت بقايا المؤتمر الوطني وظهر مجلس الدولة الذي نشأ حسب الاتفاق السياسي وكرس الاختلاف بين التنظيمات الدينية والمليشيات المناطقية.

لعل من أهم ما أحدثه الاتفاق السياسي من أثر في العلاقة بين الطرفين هو تثبيته لصفة الإرهاب لتنظيمات مثل أنصار الشريعة والقاعدة وداعش وهى التي كان بعضها حلفاء للمليشيات المناطقية ثم ازدادت شقة التباعد بين الطرفين بظهور المجلس الرئاسي المعترف به دوليا؛ حيث فكت هذه المليشيات ارتباطها بحكومة الأمر الواقع وأعلنت انضواءها تحت مظلة المجلس الرئاسي بحثا عن شرعية تبعدها عن سلطة الأمر الواقع والتنظيمات المصنفة دوليا في خانة الإرهاب، ثم وجدت في إعلان هذا المجلس وبتأييد دولي الحرب على داعش في سرت فرصة أكبر لنيل شرعية محاربة داعش التي تعتبر عدوا مشتركا لكل الليبيين.

لاشك أن محاربة الإرهاب تعد عملا وطنيا في ظل الظروف الليبية الراهنة ولكنه لا يضفي على أية مجموعة مسلحة شرعية المؤسسة الرسمية التابعة للدولة مثل الجيش الوطني والشرطة، بل تظل مليشيا تهدد الأمن والسلم الاجتماعي داخل الدولة بانتمائها الأيديولوجي أو الجهوى أو المناطقي، وبانفلاتها نظاميا وانضباطيا، فالجيش لا يحوز على الشرعية لأنه يدافع عن الوطن فتلك إحدى مهامه التي يقوم بها بعد أن يضفي عليها الدستور -الذي ارتضته الإرادة العامة- شرعية المؤسسة المسلحة الوحيدة المناط بها واجب الدفاع على الوطن. وفي الحالة الليبية فإن الشرعية تضفيها على الجيش المؤسسة الشرعية الوحيدة التي تمثل الإرادة العامة المتمثلة في البرلمان.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.