الدرس التركي الأعظم

الأتراك يرفضون عودة بلدهم لحكم العسكر

شعب مؤمن بحقوقه
قيادة واثقة بشعبها
معارضة محترمة
شخصيات معطاءة
إعلام ديمقراطي

 

 

وحدة الشعب التركي والتفافه حول قيم الحرية والنهج الديمقراطي والمصالح العليا للدولة التركية الذي أفشل الانقلاب في ساعاته الأولى، تشكل الدرس الأعظم الذي ينبغي أن يستوعب معانيه الشعب الفلسطيني المكلوم الذي يعاني من انقسام كارثي مدمر منذ قرابة عقد من الزمن.

شعب مؤمن بحقوقه
كلمة السر في إفشال الانقلاب وإحباط الهجمة على الديمقراطية في تركيا تركزت في الشعب التركي بلا منازع.

خرجت الحشود الجماهيرية بالملايين في ساحات وميادين تركيا دون وجل، وتصدت لدبابات الانقلابيين بشكل مذهل، متسلحة بحقوقها الشرعية في حماية قيم ومبادئ الحرية والديمقراطية وعدم السماح ليد القمع والاستبداد أن تعبث في الساحة التركية بعد أن وضعت مسيرة الانقلابات العسكرية أوزارها، وشقت البلاد مسارها نحو الحكم المدني الخالص من هيمنة وطغيان العسكر، وعبدت الطريق نحو الأمن والاستقرار والتقدم الاقتصادي طيلة المرحلة الماضية.

يخطئ من يظن أن الحشود التي امتلأت بها ساحات وميادين المدن التركية المختلفة قد خرجت جميعها دفاعا عن أردوغان وحزب العدالة والتنمية الحاكم، فقد خرج الجميع بلا استثناء دفاعا عن الديمقراطية التركية وحق الشعب التركي في اختياراته الحرة دون أي تدخل أو جبر أو إكراه من أي جهة أو طرف كان، دون أن يعني ذلك التقليل من شأن التأييد الجماهيري الواسع الذي يحظى به أردوغان وجماعته في الساحة التركية.

لذا، لم يطل المقام بالانقلاب كثيرا حتى تهاوى وسقط أمام سطوة الإرادة الجماهيرية التركية الحرة المتحررة من عقدة الخوف والإرهاب وتقديم التضحيات، فلا انقلاب، أيا كان حجمه وقوته، يمكن أن يصمد طويلا في وجه إرادة جماهيرية عارمة ترفضه وتتصدى له وتسعى نحو إسقاطه وتستعد لبذل التضحيات الجسام في سبيل حماية مكتسباتها وحقوقها المشروعة.

فهل يستوعب شعبنا الفلسطيني الدرس التركي الجليل، ويستشعر مدى أهميته ومركزيته وحيويته في إطار حماية المشروع الوطني والقضية الفلسطينية وتصحيح الأخطاء والخطايا التاريخية التي انزلق إليها الوضع الفلسطيني الداخلي، ويغادر حال السلبية المفرط الذي غلب عليه طيلة المرحلة الماضية؟
ثمة فرصة لا تعوض أمام كافة القطاعات والشرائح الشعبية الفلسطينية اليوم تجاه الخروج عن حالة الصمت المفزع، ورفع الراية الجماهيرية العارمة، وفرض معادلتها الوحدوية على طرفي الانقسام الفلسطيني لإنهاء الأزمة الفلسطينية الداخلية التي أذلت ناصية البلاد والعباد وزرعت روح الغربة الشعورية في نفوس مختلف الفلسطينيين.

قيادة واثقة بشعبها
لعل المظهر الأهم الذي ميز المشهد التركي لحظة الانقلاب يكمن في بروز القيادة الواعية الواثقة بشعبها، والمؤمنة بدوره وأهميته ومكانته في حماية الديمقراطية والدولة والمصالح التركية العليا.

ما يلفت النظر أن الخطوة الأولى التي خطاها أردوغان وحكومته وأركان حزبه تجسدت في مخاطبة الشعب للنزول إلى الشارع بهدف حماية حقوقه ومكتسباته الديمقراطية، فالشعب كان الكلمة الأولى في أفواه المسؤولين الأتراك، وكان موطن الأمل ومعقد الرجاء في نفوسهم عن حق ويقين.

وهكذا كان المشهد رائعا بكل المقاييس، قيادة واعية ومسؤولة وصادقة تستنجد بحاضنتها الشعبية وتبتغي منها الدعم والنصرة والإسناد، فكان الرد رائعا بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، لينزل الملايين إلى الشوارع والميادين، مسكونين بروح الغضب والتحدي والعزم على دحر وإنهاء الانقلاب، وهذا ما كان.
فأين القيادات السياسية والفصائلية الفلسطينية من حكمة ووعي وصدق وإخلاص القيادة التركية ومدى وثوق علاقتها بشعبها وحرصها على تميّز واستمرار العلاقة به حتى في أحلك الظروف؟!

لقد عاش شعبنا الفلسطيني في ظل الانقسام الكارثي أسوأ مراحله التاريخية على الإطلاق، وكابد سنوات سوداء لم تكن تخطر على بال، وتسلطت عليه قيادات أبعد ما تكون عن حسّه وضميره ونبض حياته، وأشد بعدا عن همومه اليومية ومصالحه المعيشية.

ينبغي أن لا يمرّ الدرس القيادي التركي دون عظة أو اعتبار فلسطيني، فالقيادة التي تشكل رأس الإدارة والقرار تملك مفاتيح النجاح والفشل في آن، وتستطيع التحليق بشعبها وقضيتها في سماء العزة والكرامة والفلاح أو الارتكاس والانحطاط بها في أسفل سافلين.

لقد بُلينا بقيادات فلسطينية تلهث وراء مصالحها الشخصية والفئوية، وتتعامل مع الوطن والقضية وكأنها مشروع استثماري يُدرّ المكاسب والأرباح المحرّمة، وآن الأوان أن تستلهم هذه القيادات النموذج التركي وتقف وقفة صادقة مع الذات، ووقفة صادقة أخرى مع شعبها، لتعتدل سيرتها ومسيرتها وتلتحم مع مصالح شعبها أو تعتزل وتخلي ساحة الفعل والعمل الوطني لأهل الصدق والتميّز والإخلاص الوطني.

معارضة محترمة
من أهم مركبات المشهد التركي في غمرة الانقلاب وجود معارضة سياسية محترمة حيّدت خلافاتها السياسية والحزبية مع أردوغان وحزب العدالة والتنمية لجهة درء الخطر الأعظم الذي يحيق بالبلاد والعباد.

ليس خافيا حجم الخلافات والتباينات بل والصراعات السياسية والحزبية في تركيا، فالفسيفساء الحزبية هناك تبطن ألوانا من التناحر السياسي والحزبي الذي يجد تجلياته بكل وضوح في إطار الممارسة السياسية والعمل الحزبي داخل تركيا.

لكن كل ذلك توارى خلف التفاف الجميع وراء المصالح التركية الجامعة، وذابت الفوارق والصراعات المختلفة تحت مطرقة الخطر الداهم الذي يهدد حاضر ومستقبل تركيا ونظامها السياسي ومكتسباتها الديمقراطية وإنجازاتها الاقتصادية والاجتماعية.

وهكذا، لم نعاين أدنى تردد لدى مختلف الأحزاب التركية في دعم الشرعية الدستورية وإسناد الحكومة المنتخبة في وجه الانقلاب، فقد سارعت الأحزاب إلى تصدير مواقفها الرافضة للمساس بالنظام الديمقراطي والعودة إلى مجاهل الانقلابات العسكرية التي تعيد تركيا عشرات السنين إلى الوراء، واجتمعت تحت قبة البرلمان دون أن تأبه لقصف الانقلابيين في لحظة تحدّ نادرة أثبتت مدى إصرار المكونات الحزبية التركية على قمع أي محاولة للعودة إلى ظلامية الماضي وذكرياته البغيضة.

ولعل في ذلك درس عميق للقوى والفصائل الفلسطينية التي أهلكها التناحر السياسي والميداني، وهدّ كيانها الصراع الحزبي والفصائلي المقيت الذي جعل منها قوى وكيانات فصائلية لا ترى إلا ذاتها الحزبية والفصائلية، ولا تدرك للمصالح الوطنية الفلسطينية العليا سبيلا.

إن القوى والفصائل الفلسطينية مدعوة اليوم للحذو حذو القوى والأحزاب التركية، والتحلل من تفريطها المزمن بالمصالح الوطنية الفلسطينية العليا، وبلورة إستراتيجية فلسطينية موحدة قادرة على إنهاء الصراع والتناحرات القائمة وتوحيد الصف والجهد والموقف الفلسطيني في وجه الأخطار والتحديات الراهنة.

شخصيات معطاءة
لا شك أن الأسماء لمعت في سماء تركيا في إطار مواجهة الانقلاب تشكل نموذجا رياديا في التضحية الواسعة والعطاء الفياض الذي يبذل النفس والروح رخيصة في سبيل حماية القيم والأهداف والمكتسبات الكبرى.

فهناك العديد من الشخصيات التركية التي لعبت أدوارا بالغة التأثير في حماية تركيا وإحباط مسار الانقلاب، من قبيل رئيس جهاز المخابرات العامة التركية، وقائد الجيش الأول التركي، ورئيس الأركان، وغيرهم من الشخصيات والقيادات التي أطلقت مفاعيل العزم والعنفوان في مواجهة الانقلاب، وكان لها الفضل الأكبر في التصدي للهجمة الكبرى التي أريد لها أن تسحق نظامهم الديمقراطي وتحول البلاد إلى محمية سياسية خاضعة للهيمنة الإسرائيلية والغربية.

فهل يمكن أن يخرج من بين ظهراني الساحة الفلسطينية شخصيات وطنية معطاءة تتولى رفع راية المصلحة والوحدة والوفاق، وتستعد لبذل كل ما في وسعها من جهد وطاقة للضغط على طرفي الانقسام الفلسطيني الداخلي، والعمل على تحشيد الموقف الشعبي والفصائلي في وجه استمرار الانقسام وأخطاره الكارثية على الوطن والشعب والقضية الفلسطينية؟!

إن الحاجة أشد ما تكون مساسا لشخصيات وطنية فلسطينية تبيع نفوسها وذواتها لخدمة قضيتها، وتصل الليل بالنهار للتحريض باتجاه إنجاز قيم الوحدة وفضح مناوئيها، وتملك الاستعداد لدفع ثمن هذا العمل الجليل والاستمرار به مهما بلغت العقبات والتضحيات.

إعلام ديمقراطي
لا يمكن تصور وجود وإرساء نظام ديمقراطي حر دون وجود إعلام ديمقراطي يلتزم بشرف ومواثيق المهنة ويحافظ على أسس الموضوعية والأخلاقيات الصحفية والإعلامية التي تنأى به عن الخيانة والغدر والخداع والتضليل والمشاركة في تصفية الحسابات السياسية والحزبية.

ففي تركيا، وبالرغم من العلاقة المتوترة لأردوغان مع بعض الصحف ووسائل الإعلام التركية، فإن ذلك لم يمنع هذه الوسائل من القيام بواجبها المهني الخالص، والتماهي مع مصالح الدولة وشرعيتها ونظامها الديمقراطي.

ومن هنا فلم تجد إحدى القنوات التركية أي غضاضة في الاتصال والتواصل مع أردوغان إثر الانقلاب ونشر مناشدته للشعب التركي بالنزول إلى الشوارع والميادين عبر تطبيق الفيس تايم، ومن ثم تولت بقية القنوات ووسائل الإعلام نشر الخبر نقلا عنها، دون أي حساسية أو تردد.

في المقابل، فإن الخريطة الإعلامية الفلسطينية تبدو اليوم في أسوأ أوضاعها، فبدلا من الانحياز إلى القيم والمبادئ والأخلاقيات والمصالح الجامعة آثرت فئة من الإعلاميين الفلسطينيين الاصطفاف الوجداني والواقعي مع الانقلاب، وظهرت على وسائل الإعلام العديد من المقاربات والمشاركات الصحفية والإعلامية التي تقلب الحقائق وتكشف عن بواطن الحقد ضد الخصوم بما لا يمكن هضمه واستيعابه تحت أي مبرر من المبررات أو في أي ظرف من الظروف.

إن مساحة واسعة من الساحة الإعلامية الفلسطينية مطالبة اليوم بإعادة صياغة حالها ومسارها مع القيم والأخلاقيات الوطنية والمهنية، وإعادة التموضع في التفكير والرؤية والموقف لدى طوائف الصحفيين والإعلاميين الذين استبد بهم الانحراف المهني والاختلال الأخلاقي، وهيمنت عليهم النزعات الأنانية والفصائلية بشكل صادم ومفجع يندى له الجبين.

فلينظر صحفيونا وإعلاميونا الفلسطينيون الذين غاصوا في أوحال السقوط الشخصي والحزبي إلى النموذج الإعلامي التركي الأصيل الذي يضع مصالح تركيا، الدولة والنظام والقيم الديمقراطية، أولا وأخيرا، ولترتفع راية المصلحة الفلسطينية الجامعة على كل المصالح والرايات الأخرى.

وختاما.. إن لم تستفد الساحة الفلسطينية من الدرس التركي الأعظم بين يدي محاولة الانقلاب الفاشلة، فهل لنا أن ننتظر-كفلسطينيين- عقدا أم عقدين أم أكثر من الزمن كي تستقيم أحوالنا وذواتنا على جادة الحق والصواب؟! وهل تبدو الديمقراطية التركية، بما تحمله من قيم وأخلاقيات ودروس رائعة، نموذجا مستحيلا عصيا على الاقتداء والتطبيق فلسطينيا؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.