عواقب الخروج البريطاني على البحث العلمي والتكنولوجي

بريطانيا.. فوضى وغياب الاستقرار السياسي بعد الاستفتاء

موقف المجتمع العلمي
حقائق أساسية
التداعيات السلبية
آفاق الحل

العلاقة بين العلم والسياسة والاقتصاد متشابكة للغاية، ولا يمكن القول بأنها منفصلة أو متباعدة، فما أكثر الابتكارات العلمية والتقنية التي دفعت بأكثر من دولة إلى مصاف الدول المتقدمة اقتصاديا.

وما أكثر الوسائل العلمية والأسلحة السرية التي تم استغلالها سياسيا أو عسكريا لتحقيق مأرب ما عاجل أو آجل أو هدف إستراتيجي محدد، مثل استخدام الولايات المتحدة الأميركية للقنبلة النووية لحسم معركتها مع اليابان إبان الحرب العالمية الثانية، واستخدامها من بعد لما يسمي بالعامل البرتقالي (مبيد نباتي سام وسري التركيب) بغرض إزالة الغابات الفيتنامية التي كانت تختبئ فيها قوات الفيت كوم، إبان حرب فيتنام، وغير ذلك مما لا يتسع المجال هنا لذكره.

لذا ومن هذا المنطلق فإنه لا يمكن فصل تداعيات وعواقب خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي على الاقتصاد والسياسة والعمل والهجرة في كلا الجانبين، عن تأثيرات هذا الخروج على مجال البحث العلمي وصناعة والتكنولوجيا.

فالاتحاد الأوروبي الذي تعود جذور تأسيسه الأولى لعام 1951 هو عبارة عن تكتل سياسي واقتصادي أوروبي يهدف -ضمن ما يهدف- إلى دعم التقدم الاقتصادي والاجتماعي، وتقوية دور أوروبا، لكنه تحول خلال العقد الأخير تحديدا إلى تكتل علمي كبير وقوة علمية مؤثرة، أسهمت في بزوغ نجم أوروبا بقوة في المحافل والفاعليات العلمية على اختلاف تخصصاتها، وهذا جلي وواضح للغاية لأي باحث أو أكاديمي غير أوروبي له اختلاط أو شراكة بجهات علمية أوروبية. ومعنى هذا أن تداعيات وتأثيرات مسألة الانفصال أو الخروج ستطال حتما وتلقائيا قطاع البحث العلمي وصناعة التكنولوجيا في كلا الجانبين.

موقف المجتمع العلمي
والواقع أن هذه التأثيرات كانت ولازالت مثار نقاش محتدم وجدل شديد ما بين فريقين متنافسين تأسسا خصيصا لصالح هذه المعركة، ونقصد بهما فريق "علماء لصالح البقاء ضمن الاتحاد الأوروبي" و"علماء لصالح خروج بريطانيا"، حيث عمد كل فريق إلى اجتذاب أكبر عدد من المواطنين، وتعديد فضائل ومزايا البقاء والخروج، معضدا ذلك بتقارير تقييم وإحصائيات موثقة تدلل على صحة موقفه.

وقد كانت الدفة تميل بوضوح وحتى قبيل موعد الاستفتاء لصالح الفريق الأول المؤيد للبقاء وهذا من واقع الحجج العلمية والتقديرات الموضوعية التي ساقها، والتي كانت أكثر قوة وأكثر واقعية بكثير من حجج ومزايدات الفريق المطالب بالخروج. وقد أوحى هذا بأن الأمر أصبح محسوما لصالح البقاء، لاسيما في ظل ميل الغالبية العظمي من الباحثين والأكاديميين البريطانيين لعدم الانفصال. بيد أن نتائج التصويت النهائي جاءت في النهاية مناقضة لهذا التوجه ومخيبة، ولعل هذا هو سبب إصابة قطاع كبير من الباحثين المعنيين -ومنهم كاتب هذا المقال- بالدهشة والصدمة جراء هذه النتيجة غير المتوقعة.

الآن أصبح الفريقان أمام أمر واقع، وبات لزاما على الجميع، مناقشة جملة التداعيات السلبية المتوقعة من جراء الانفصال بشيء من الواقعية والموضوعية، لعل هذا يفيد في التقليل من سلبيات وتبعات هذه الخطوة.

حقائق أساسية
بداية وقبل التعرف على جملة هذه التداعيات، يجب أولا لفت النظر إلى عدة حقائق أساسية تخص طبيعة البحث العلمي ومصادر تمويل الأبحاث والمشاريع البحثية وآلية تحديد السياسات العلمية.

فالبحث العلمي يقوم بشكل أساسي على التعاون العلمي المشترك بين مختلف الفرق البحثية والهيئات العلمية سواء كان هذا التعاون على مستوى محلي أو إقليمي أو دولي، وكلما كان هذا التعاون واسعا ومبنيا على أسس واختيارات موضوعية وعلمية بعيدة عن الأهواء والمجاملات وهو الحادث في أوربا والغرب عموما، كلما كانت مخرجات العمل البحثي متكاملة وجيدة من حيث الواقعية والمردود.

كذلك تمثل الإمكانيات المتاحة والمناخ العلمي الملائم وحوافز البحث أمرا بالغ الحيوية والأهمية بالنسبة لقدرة الباحث على الابتكار والإبداع العلمي، وبالنسبة لجودة المخرجات العلمية. وطبيعي هنا أنه كلما زاد عدد الهيئات والجهات العلمية المتعاونة كلما زادت الإمكانيات المتاحة من أجهزة ومعدات وكوادر شخصية عما هو الوضع في حالة الانعزال واقتصار العمل البحثي على جماعة علمية واحدة.

وقد أدركت جميع العناصر المشتغلة بالبحث العلمي في معظم دول الاتحاد الأوروبي ومنذ البداية قيمة هذه الأسس وجدوى تطبيقها والالتزام بها، فكان أن توسعت في إنشاء الهيئات العلمية المتخصصة واختيار الكوادر القادرة وزيادة حجم التعاون العلمي البيني ونسبة التمويل المقدم. وكان من الطبيعي والمنطقي بعد هذا أن يجني الاتحاد الأوروبي ثمار ما حصد، وهذا ما يبدو جليا من عدد براءات الاختراعات الصادرة وكم الإنجازات العلمية المتحققة، ونوعية البرامج والمشروعات البحثية السارية، وغير ذلك من مؤشرات التقدم والنجاح.

وليس مشروع المصادم الهادروني الكبير المعروف اختصار باسم "سيرن"، ونظام تحديد المواقع الأوروبي المعروف باسم "جاليليو"، ومبادرة "كوبرنيكس" للرصد الفضائي والبيئي، وبرنامج "أديتك" لتطوير اللقاحات والأمصال الطبية، ليست إلا مجرد أمثلة دامغة على نجاح سياسة العمل البحثي المشترك وجدوى التعاون بين الأطراف البحثية العلمية المعنية سواء أكان هذا على مستوى الأفراد أو الهيئات.

وهناك أيضا قيم ومزايا مضافة لا يمكن التغاضي عنها عند تفنيد فضائل الاتحاد والتعاون العلمي المشترك، ذلك أن تبني وتمويل مثل هذه البرامج والمشاريع البحثية يعد بيئة جاذبة وحاضنة للمواهب العلمية الناشئة وسبيلا لتنمية المهارات العلمية وتشجيع الابتكار والبحث، وما إلى ذلك من القيم المضافة.
لذا وبالنظر إلى كل هذه الحقائق والاعتبارات، فإن تأثير الخروج على كلا الطرفين سيكون سلبيا لا محالة، وإن بدا أن بريطانيا وغالبية الهيئات البحثية فيها ستكون هي الخاسر الأكبر في هذه العملية.

التداعيات السلبية
الثابت أن الانفصال سوف يؤدي إلى الحد من مشاركة المؤسسات العلمية البحثية البريطانية وعلمائها في البرامج والمشروعات البحثية الممولة من الاتحاد الأوروبي، والحد كذلك من الامتيازات الإضافية التي كانت تتحصل عليها بوصفها عضوا عاملا في ذلك الاتحاد.

كما سيؤثر هذا الانفصال سلبا على حجم التمويل المادي التي كانت تتحصل عليه هذه المؤسسات، فقد حصلت على سبيل المثال على تمويل قدره 8.8 بليون يورو تقريبا خلال الفترة من 2007 إلى 2013، وذلك عبر برنامج تمويل الأبحاث والمشروعات العلمية الأوربية المشتركة السابع المعروف باسم FP7.

ومن جهة أخرى هناك تخصصات علمية معينة مثل علوم البحار وإنتاج الطاقة من الأمواج وعلوم الفضاء والطيران والاستشعار عن بعد والذكاء الاصطناعي وصناعة البرمجيات، تعد بريطانيا وعلماؤها من بين الأكثر ريادة والأكثر إنتاجية حين يتعلق الأمر بها. وبدهي هنا أن عملية الخروج سوف تؤثر لا محالة على فرص ونسب مشاركة هؤلاء العلماء في المشاريع البحثية الأوروبية المشتركة، وسوف يؤثر هذا بالتبعية على مقدار استفادة الاتحاد من جهود وأفكار هؤلاء العلماء. وحتى لو تم اجتياز هذه العقبة فإن حرية وسرعة تنقل هؤلاء العلماء ستبقى مقيدة ومحددة بسبب ضرورة الحصول على تأشيرة دخول مسبقة لأي من دول الاتحاد.

كما سيفرض الانفصال قيودا مماثلة على قدرة المراكز البحثية والجامعات وبقية الجهات المشتغلة بالبحث العلمي والتكنولوجيا في بريطانيا على اجتذاب المواهب العلمية البازغة المنتمية لدول الاتحاد الأوروبي خاصة في ظل تزايد القيود المفروضة على منح تأشيرات السفر لبقية الباحثين والأفراد القادمين من دول أفريقيا وأسيا وأميركا اللاتينية.

ناهيك عن أن ابتعاد بريطانيا عن عملية صنع القرار العلمي الأوروبي سيؤدي إلى فقدان بريطانيا تأثيرها النافذ في توجيه السياسات العلمية وتحديد مجالات البحث ذات الأولوية ومصارف برامج التمويل المادي المخصصة للهيئات والمؤسسات العلمية الأوروبية.

ويجب أن لا ننسي أيضا أن ميزانية البحث العلمي في بريطانيا سوف تتحمل أعباء إضافية نتيجة المطالبة بتعويض التمويل التي كانت تتحصل عليه هيئاتها ومراكزها العلمية من الاتحاد الأوروبي، ونتيجة أيضا لتدهور قيمة الجنيه الإسترليني وارتفاع نسبة التضخم، وارتفاع تكلفة السفر والرحلات العلمية وأجهزة المعامل ونحوها.

والأمر برمته وجميع جوانبه قد يصير أكثر تعقيدا وصعوبة بطبيعة الحال إذا ما تجاوبت أسكتلندا وإيرلندا الشمالية مع الدعاوى المتزايدة المطالبة بإجراء استفتاء للاستقلال عن بريطانيا وتمكنت إحداها أو كلاهما في نهاية المطاف من تحقيق هذه الرغبة والخروج من عباءة ووصاية سيدة البحار.

آفاق الحل
بعيدا عن الآليات القانونية التي يحاول البعض التفكير فيها حاليا من أجل تجميد عملية خروج بريطانيا من الاتحاد ومحاولة تجنب سلبيات الانفصال، مثل استخدام أسكتلندا لحق الفيتو أو اعتراض البرلمان الإنجليزي على الانفصال أو إعادة الاستفتاء، وبعيدا أيضا عن مدى واقعية تطبيق هذه الآليات في مجتمع ديموقراطي مثل المجتمع البريطاني، هناك أكثر من حل آخر واقعي وتوافقي يمكن به الخروج من مأزق الانسحاب أو التقليل على الأقل من جملة التأثيرات والتداعيات السلبية المتوقعة.

ولعل أحد أبرز هذه الحلول يتمثل في إعادة صياغة علاقة بريطانيا بالاتحاد الأوروبي ومحاولة التفاوض على الارتباط به لكن هذه المرة كدولة مشاركة، مثلها مثل سويسرا والنرويج واثنتي عشرة دولة أخرى تنتمي للاتحاد (من بينها إسرائيل)، ما يمكن مؤسساتها العلمية وباحثيها في هذه الحالة من الاستفادة من البرامج البحثية المطروحة والتمويل المقدم وبقية المزايا المذكورة آنفا. وبطبيعة الحال فإن إعادة صياغة هذه العلاقة سوف يتوقف على عوامل ومتغيرات كثيرة، منها الإرادة السياسية والعوامل الاقتصادية وقوة تأثير المجتمع العلمي.

لكن وحتى وإن لم تنجح أي من هذه الحلول -وهو أمر مستبعد الحدوث- فإنه لا ينبغي على بريطانيا في كل الأحوال -وكما ذكر عمدة لندن السابق بوريس جونسون- الانكفاء على نفسها والانعزال بعيدا عن الاتحاد الأوروبي، لأن الخسائر في هذه الحالة ستكون مضاعفة، والتداعيات ستكون ممتدة وبالغة التأثير.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.