الذئب الفارد.. أميركا وإرهابها الداخلي

هجوم أورلاندو.. هدية لتيار الكراهية ضد المسلمين


جاءت حادثة أورلاندو المأساوية التي قَتل فيها عمر متين، الأميركي من أصول أفغانية، تسعة وأربعين مرتادا لناد للمثليين بالمدينة بمفهوم "الإرهاب الداخلي" للخطاب السياسي الأميركي كما لم تفعل حادثات سبقتها.

فقد وصف الرئيس أوباما الحادثة بأنها إرهاب داخلي، وهو إرهاب تغاضت أميركا طويلا عن الاعتراف به كحقيقة من حقائقها السياسية والجنائية؛ فما لقيتْه وجها لوجه حتى انصرفت عنه للحديث عن الإرهاب الإسلامي؛ حيث تحرت بصمة هذا الإرهاب لما فجّر تيموثي ماكفيه المبني الفيدرالي في أوكلاهوما (1994)، ثم خاب التحري، فظهر أن الإرهابي أميركي ومسيحي أبيض استفزه ما عدّه عدوانا حكوميا غير مبرر على جماعة دينية انتظرت نهاية العالم في حماها في ولاية تكساس.

وكانت أميركا على موعد لأخذ إرهابها الداخلي بقوة لو اعتبرت بكلمة قائد شرطة ولاية كاليفورنيا جارود بورجوان التي رجح فيها أن يكون حادث سان برناردينو، الذي قتل فيه رضوان فاروق جماعة من زملائه بالعمل في ديسمبر/كانون أول 2015، قد تضمنت "نوعا ما من الإرهاب المحلي".

ولكن سرعان ما حادت السلطات الأميركية عن هذه السكة لتروج للوسوسة الداعشية من وراء المجزرة، ثم راجع مكتب التحقيقات الفيدرالي نفسه أخيرا ونفى وقوع تلك الوسوسة، ولكن بعد فوات الأوان. فقد توطن الرأي العام مرة أخرى على أن للإرهاب مصدرا واحدا هو الجهادية الإسلامية العالمية.

جاء حادث أورلاندو بالموقف الأخلاقي والديني من المثلية كشاغل وطني أميركي قبل أن يكون عقيدة شرعية إسلامية تُلقي بالمثلي من فوق سقوف الدور أين ثقفته، وهي العبارة التي لاكتها الألسن الإعلامية.

فقد قبلت دوائر الإعلام الآن النظر إلى الحادثة كفوبيا لمثلي، كما وضح من سيرة عمر متين، من ممارسة مثلية هو طرف فيها، ولو لم يزحم خبراء الإرهاب وسائط الإعلام على حساب خبراء علم الاجتماع لربط الرأي العام بين حادثة متين وحوادث أخرى في كراهة المثلية جرت لساعات قبل واقعته أو بعدها.

ففي يوم الأحد نفسه (12 يونيو/حزيران) الذي قتل فيه متين مثليي فلوريدا فجرا ألقت سلطات كاليفورنيا القبض صباحا في سان مونيكا على جيمس هول (20 عاما) الذي كان في طريقه إلى لوس أنجلوس لحضور مهرجان عزة بالهوية للمثليين. وواضح أنه تأبط شرا لهذه المناسبة؛ فقد وجدوه مدججا بأسلحة هجومية حملها ألوف الأميال من بلدته في ولاية إنديانا بالغرب من وسط أميركا. ووصف الدكتور جوان كول، المختص في تاريخ الشرق الوسط بجامعة متشغن، الواقعتين في أورلاندو وكاليفورنيا بأنهما من الشبه بمكان حتى لكأنهما الشيء وانعكاسه في المرآة. وقال كاتب متهكم إن المسلم الكاره للمثليين قد سبق طريدته بينما فشل الكاره المسيحي.

وليس صدفة -من الجانب الآخر- أن تنعقد بمانهاتن بنيويورك محاكمة لكاره للمثليين، وقاتل لواحد منهم في 14 يونيو/حزيران بعد يومين فقط من حادثة عمر متين. فحكمت المحكمة بأربعين عاما سجنا على إليوت موراليز لقتله مارك كارسون الأميركي الأفريقي في 2013 بعد أن أمطره سبابا وصديقه الذي كان معه على مثليتهما.

ونقول إن الأمر ليس صدفة لأن 18.6 من جرائم الكراهية (5462 في عام 2015) أصلها في كراهة الميل الجنسي للضحية. وشابهت هذه المحكمة حادث عمر متين في جانبين. فالقاضي نفسه قال إنه لا يملك إلا أن يعقد المقارنة بينهما لأن قاسمهما المشترك هو ما انطوتا عليه من كراهية، وإزراء للمرء بنفسه، والخوف والموت".

ومن جهة ثانية كان من ضمن دفاع موراليز عن براءته عن التعصب الجنسي قوله إنه هو نفسه يخالط المتحولات عن جنسهن والمتحولين سرا. وجاء في هذا الخصوص عن علماء نفس أن رؤيته لطاعمين (مصطلح سوداني للمثليين) في العلن ربما حرك فيه كوامن شقائه بميوله الجنسية المخفية (نيويورك تايمز 15 يونيو/حزيران 2016)، وهذا نفسه ما قيل عن عمر متين؛ فوضوح الممارسة المثلية لجمهرة النادي الليلي وعزتهم بها لربما استفز ما انطوى هو عليه من مثلية أخفاها فحسد الآخرين على سفورهم.

متى تواضعت أميركا على أن للإرهاب فيها جذرا في مجتمعها وحروبها الثقافية (المثليون، الإجهاض) صار لمسلميها -كمواطنين أميركيين بالميلاد- حق أن يكونوا طرفا أصيلا في تلك الحروب؛ وعليه فهم شركاء مستحقين -متى أرادوا- في الإرهاب الذي تفرزه؛ فلا حاجة لإحالة إرهابهم -متى أَرهبوا- بالضرورة إلى الإسلام بالتجريد والعمومية واللؤم المشاهد.

لن تجد تعريفا أميركيا للإرهاب المحلي قبل 1994. فقد وصفته وكالة المخابرات الأميركية في ذلك العام بأنه توظيف غير مأذون للعنف أو القوة ترتكبه جماعة، أو جماعات، أو شخصان أو أكثر، لتخويف الحكومة أو السكان المدنيين، أو أي جماعة أخرى، ولي أيديهم في سبيل تحقيق أهداف سياسية أو اجتماعية. وواضح أن هذا التعريف لم يشمل من يقوم بعمل عدواني بمفرده ممن يطلق عليه الذئب الفارد.

وغريب في قول جيفري سايمون مؤلف كتاب "إرهاب الذئب الفارد" أن يتفق للوكالة هذا التعريف الناقص إبان فترة تواتر نشاط هؤلاء الذئاب الفاردة من مثل "اليوني بومبر"، تد كاسينسكس. فقد نشط الرجل بين 1975 و1994 يرسل الطرود الناسفة إلى صفوة رجال الأعمال والمال والعلم بمثابة احتجاج على قبح العالم التكنولوجي الصناعي الذي شيدوه.

ولكن سرعان ما جاء تعريف وكالة الاستخبارات في 1995 ليشمل الأفراد أو الذئاب الفاردة.. ويبدو أنهم عدّلوا التعريف لمواكبة واحدة من أفظع التفجيرات في أميركا سبقت الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001، وهي ما قام به تيموثي ماكفيه كما تقدم.

تقف خلف وجوب قيام فقه جنائي للإرهاب الداخلي المنظمات الناشطة في حقوق المرأة الجنسية والتناسلية، وكان قد حال دون استتباب هذا الفقه جنوح القانون الأميركي للتركيز على الإرهاب الخارجي دون الداخلي.

وحرك هذه المنظمات لتطالب بهذا الفقه تعدي مثل روبرت لويس دير في 27 نوفمبر/تشرين الثاني 2015 على عيادات للإجهاض وطاقمها بولاية كولورادو، فطالبت هذه المنظمات بوصف حادثة كولورادو كما ينبغي لها كإرهاب خشية أن يأخذ حكم العادة جهات العدالة الجنائية التقليدية فتنسبها كأفعال عنف من باغضين وربما موسوسين.

فالقانون الأميركي خلو من مادة صريحة عن الإرهاب، فولاية كارولينا الجنوبية تحاكم الآن ديلان روف، الذي قتل متعبدين أميركيين سود في يونيو/حزيران 2015، بتهمة القتل العمد لا الإرهاب، وليس من الفطانة في نظر الناشطين في مجال صحة المرأة بالطبع مقاضاة من قتل أحد عشر شخصا منهم (وأخفق في قتل ستة وعشرين منهم في مرات أخرى) مع تفجير وإحراق 200 عيادة لخدمات النساء كمختلين نفسيين لا غير.

ووجدوا سندا في تعريف الإرهاب الأميركي، الذي أشرنا إليه، والذي يقرن بين الإرهاب والسياسة بقوله إن الإرهابي يرغب في أن يفرض على الحكومة والنساء بالقوة سياسات معادية لمثل تلك الحقوق الجنسية والخدمية. فحتى الأميركي المصري هشام هدايت، الذي دهم مكاتب طيران العال في لوس أنجلوس في 2002 وقتل حارسا به، حوكم كملتاث طالما لم ترتبط جريمته بمركز خارجي، ولولا ضغوط من أهل القتيل الذين طالبوا بمحاكمته كإرهابي، لجرت محاكمته كقاتل بالعمد في أفضل الأحوال.
وشكا د. أبو صالحة على قناة الجزيرة قبل أيام من أن محاكمة قاتل بنتيه ونسيبه في كارولينا الشمالية في فبراير/شباط 2015 تجري على أنه ذو عاهة نفسية وليس كإرهابي.

سيعتمد نجاح الحملة الناهضة لتعريف الإرهاب المحلي جنائيا على عوامل ثقافية ربما لم تنضج لوقتنا لتنزيل كل مطالبها، فبين هذا الحلف نفسه من يخشى على القسمة الدستورية بين الولايات والفيدرالية.

فمتى توسعنا في معنى الإرهاب المحلي ربما شمل جرائم محلية لها قوانين مستقرة أصلا في الولايات.
فمطلب أهل الحملة لمزيد من الحضور الفيدرالي (مثل تدخل قوى الأمن الفيدرالية في جرائم الإرهاب الداخلي) يقض مضاجع الداعين لعدم تطفل الفيدرالية على الولايات، كما يزعج طلاب العدل الذين يخشون نفوذ سلطان الدولة، فيدرالية وغير فيدرالية، على مجريات العدالة.

وثمة صعوبات ثقافية؛ فقطاع كبير من الأميركيين تعود على قبول العاهة النفسية سببا لارتكاب جريمة قد نعدها إرهابا محليا، لأن ثقافة عريضة طويلة ربت أجيالا منهم أن المرض النفسي عاذر، خاصة في سياق تواضع عام على أن الدولة لا تبذل ما وسعها لعلاج المرضى النفسيين تاركة الحبل على الغارب.

وأخيرا، فإن مادة الإرهاب المحلي هي بحد ذاتها ضمن موضوعات الحرب الثقافية (الإجهاض، حقوق الحيوان، المثليون) يخوضها غير الإرهابي بأشرس ربما من الإرهابي، ويحتل فيها الإرهابي خانة "اليميني المتطرف" لأن هناك من هو على عقيدته ولكن من على منابر السياسة.

فإريك رودولف، الناشط ضد الإجهاض ومفجر القنبلة في خلال الألعاب الأولمبية أتلانتا (جورجيا) في 1996 إشهارا لعقيدته ضد شرعية الإجهاض، اكتسب صورة البطل الشعبي، متخفيا عن حملة شعواء للقبض عليه ومواصلا تفجيراته لعيادات خدمة النساء وأندية المثليين، ولم يقبض عليه إلا في 2003.

متى ما تصالحت أميركا شريعة وقانونا مع حقيقة أن للإرهاب -بذئابه الفاردة وغير الفاردة- منابت وطنية داخلية أعفونا معشر المسلمين من الحاجة الملحة إلى استنكار ما يقع منه من مسلمين أميركيين بالميلاد، ونفي أن يكون عملهم أو فكرهم من الإسلام في شيء. فأكثر ما يقع من هؤلاء المسلمين الأميركيين مما تُسأل عنه أميركا لا نحن ولا الإسلام.

ولنا أسوة في والد القاضي مدثر البوشي؛ فقد نشط القاضي في العشرينات -وكان حينها طالبا بكلية غردون بالخرطوم- في السياسة الوطنية ضد الإنجليز، فاستدعى الإنجليز والده ليطلعوه على فعل ولده. فقال لهم: "جئتكم بولدي (للكلية) ولم أعرف عنه ما تتهمونه به الآن.. ولو جئنا للحق كلموني ماذا فعلتم بابني حتى صار إلى ما صار إليه".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.