إعادة ترسيم الحدود بين السلطة والإعلام المصري

Egyptian journalists shout slogans during a protest at the journalists syndicate in Cairo, Egypt, Friday, April 4, 2014. Dozens of of writers and photographers held a one-day strike calling for the security forces to protect journalists who cover protests and calling for their employers to provide them with protections when covering violent events. The strike came a week after a journalist was killed in Egypt, while covering clashes. The Arabic on the banner reads, "Stop killing journalists." (AP Photo/Amr Nabil)

مساع لترويض النقابة
صفقات خاصة
قواسم مشتركة

ما يجري حاليا على الساحة الإعلامية في مصر هو نوع من إعادة ترسيم الحدود بين السلطة والإعلام ضمن عمليات أخرى لإعادة ترسيم الحدود بدأتها السلطات الحاكمة تدريجيا بعد انقلاب الثالث من يوليو/تموز 2013.

وكانت من هذه العمليات إعادة ترسيم الحدود البحرية في جزيرتي تيران وصنافير، وإعادة ترسيم الحدود مع فلسطين عبر صناعة منطقة عازلة وحاجز مائي على حدود غزة، وتهجير أهالي سيناء من تلك المنطقة العازلة ومناطق أخرى قريبة منها.

وكانت منها أيضا إعادة ترسيم الحدود بين الدين والدنيا، وإعادة ترسيم حدود العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وحتى بين المحكومين أنفسهم بتقسيم الشعب إلى أخيار وأشرار، وإعادة ترسيم الحدود أيضا بين مراكز صنع القرار داخل السلطة الحاكمة ذاتها.

مساع لترويض النقابة
عملية إعادة ترسيم الحدود بين السلطة والإعلام تأخذ مسارات متعددة، لعل أحدثها هو طرح قانون جديد للإعلام يتراجع عن الكثير من المكتسبات الدستورية التي تضمنها دستور 2012 وتعديلات 2014، وسبقت ذلك وواكبته تلك الحملة الغاشمة ضد نقابة الصحفيين التي وصلت حد اقتحام مقرها لأول مرة في تاريخها، ورفض تقديم أي تنازلات من قبل السلطة لترضيتها بعد تلك الإهانة.

عملية إعادة ترسيم الحدود بين السلطة والإعلام تأخذ مسارات متعددة، لعل أحدثها هو طرح قانون جديد للإعلام يتراجع عن الكثير من المكتسبات الدستورية التي تضمنها دستور 2012 وتعديلات 2014، وسبقت ذلك وواكبته تلك الحملة الغاشمة ضد نقابة الصحفيين

وقد مثل التعنت الحكومي تجاه نقابة الصحفيين رسالة ببدء عهد جديد وحدود جديدة للعلاقة بين النقابة والسلطة، فبعد أن كانت نقابة الصحفيين تحت قيادة مجلسها السابق أحد المنابر المهمة إن لم تكن الأهم مطلقا في التمهيد للانقلاب على الرئيس مرسي، باحتضانها لاجتماعات خصومه السياسيين إبان سنة حكمه، وبتبنيها حملات تشويه لحكمه ولجماعته وحزبه وأنصاره، وبعد أن كانت أحد الداعمين الرئيسيين لانقلاب الثالث من يوليو/تموز 2013 وهو ما جعلها صاحبة اليد العليا في صياغة المواد الخاصة بالإعلام في التعديلات الدستورية.

وقد آن الأوان لأن تعود العلاقة من درجة الشريك إلى درجة التابع التي كانت سمة العهود العسكرية السابقة، وفي الحقيقة فإن هذا الأمر لا يقتصر على نقابة الصحفيين وحدها بل يشمل كل شركاء السيسي ومجلسه العسكري، الذين تخلص فعلا من الكثير منهم.

كانت نقابة الصحفيين كممثل رسمي وحيد للصوت الإعلامي -لعدم تشكيل نقابة للإعلاميين حتى الآن- تعتقد أنها ستظل صاحبة حظوة لدى النظام بعد دورها المشهود في الشحن والترتيب لمظاهرات 30 يونيو/حزيران والتخلص من حكم الإخوان، وحتى بسبب موقفها السلبي تجاه قتل عدد من أعضائها وحبس العشرات الآخرين، أو غلق العديد من القنوات والصحف والمواقع منذ الثالث من يوليو/تموز 2013 وحتى الآن.

وقد فوجئت النقابة بعملية الاقتحام التي تمت لمقرها مطلع مايو/أيار الماضي، ليمثل ذلك الاقتحام صدمة مروعة للوسط الصحفي أفاقت الكثيرين منهم على حقيقة وطبيعة الحكم العسكري المعادي بالطبيعة لحرية الصحافة، وزادت الهوة اتساعا بسبب ردود الفعل المتعجرفة من السلطة على ذلك الاقتحام وعلى انتفاضة الصحفيين، حيث رفضت السلطة تقديم اعتذار طالب به الصحفيون، ناهيك عن رفضها حتى الآن المساس بوزير الداخلية مجدي عبد الغفار الذي طالب الصحفيون في جمعيتهم العمومية يوم 4 مايو/أيار الماضي بإقالته، ورفض السلطة للإفراج عن الصحفيين السجناء بل تعمدها حبس المزيد منهم، وإساءة معاملتهم في محابسهم.

صفقات خاصة
في إطار عملية إعادة ترسيم الحدود بين السلطة والصحافة تشهد السوق الإعلامية المصرية حاليا عمليات تغيير كبرى في ملكية بعض المنابر الإعلامية التي ساهمت بدور كبير أيضا في الحشد والتعبئة لمظاهرات 30 يونيو/حزيران 2013 ودعم انقلاب الثالث من يوليو/تموز.

وكانت المنظومة الإعلامية المصرية قد شهدت دخول ملايين الدولارات الخليجية إبان حكم الرئيس محمد مرسي لتقوية القنوات والصحف والمواقع المعادية له، واستغلالها في الحشد والتعبئة ضده، ووفقا لبيانات أعلنها وزير الإعلام المصري السابق صلاح عبد المقصود فقد بلغ حجم الإنفاق على وسائل الإعلام في تلك الفترة 6 مليارات جنيه، بينما بلغت حصيلة الإعلانات وهي المورد الرئيسي للتمويل 1.5 مليار جنيه فقط، ما يعني أن هناك فارقا يتمثل في 4.5 مليار جنيه هي جملة التمويلات الخارجية في تلك الفترة.

في إطار عملية إعادة ترسيم الحدود بين السلطة والصحافة تشهد السوق الإعلامية المصرية حاليا عمليات تغيير كبرى في ملكية بعض المنابر الإعلامية التي ساهمت بدور كبير أيضا في الحشد والتعبئة لمظاهرات 30 يونيو/حزيران 2013 ودعم انقلاب الثالث من يوليو/تموز

وبعد أن شعرت تلك الجهات الداعمة بنجاح مهمتها في التخلص من حكم الإخوان وتوجيه ضربة مؤلمة لثورة يناير بدأت في وقف تمويلاتها للإعلام المصري بشكل تدريجي، وتزامن ذلك مع مرور تلك الجهات بأزمات وعجوزات مالية ناتجة عن تراجع أسعار النفط، وظهرت آثار وقف التمويلات على وسائل الإعلام المصرية بالفعل فاضطر بعضها لتقليص عدد قنواتها، أو تحويل صحفها من ورقية إلى إلكترونية، أو تقليص أعداد الإعلاميين بها مع تقليص رواتب الباقين.

في الأثناء بدأت العديد من وسائل الإعلام المصرية -التي سبق لها دعم النظام- في التململ مع استمرار تقلص هامش الحريات الذي حرمها من عنصر المنافسة وتقديم ما يغري القراء والمشاهدين، وبدأ رجال الأعمال الذين يمتلكون تلك القنوات والذين سخروها لدعم نظام 3 يوليو في التململ أيضا مع إجبارهم على دفع إتاوات ضخمة للصناديق التي أنشاها عبد الفتاح السيسي لدعم نظامه، وكان من مظاهر ذلك التململ توجيه انتقادات للحكم لم يعتدها من قبل، وأيضا فضح بعض المشاريع الوهمية.

ومن المظاهر البارزة للتململ إحراج النظام بإظهار خواء اللجان وقت الاستفتاء على الدستور وأثناء الانتخابات الرئاسية، ومن الواضح أن السلطة الحاكمة قررت إسكات تلك الأصوات الناقدة بطريقتها الخاصة، فضيقت الخناق على بعضها وعلى أصحابها من رجال الأعمال، وأرسلت رسائل تهديد مباشرة وغير مباشرة لهم.

ومن ذلك القبض على صلاح دياب صاحب جريدة المصري اليوم ونشر صوره مقيدا بالأغلال بدعوى استيلائه بطرق غير مشروعة على مساحات كبيرة من الأراضي، وإجبار نجيب ساويرس صاحب قناة أون تي في وبعض المنابر الإعلامية الأخرى على عمل تسويات مالية مع الدولة، والضغط على أحمد بهجت صاحب قنوات دريم لتنفيذ حكم لجنة التسويات لصالح بنوك حكومية، وفرض مزيد من الإتاوات على الكثير من رجال الأعمال خاصة ممن يمتلكون قنوات أو صحفا.

وفي الوقت نفسه أوعزت السلطة ذاتها لبعض رجال الأعمال الأكثر ارتباطا بها لشراء تلك القنوات والصحف مع مساعدتهم بتوفير الأموال التي ستدفع فيها (في الأغلب من الجهات ذاتها التي قدمت الدعم سابقا) أي أن رجال الأعمال الذين يقومون بعمليات الشراء حاليا على الأرجح هم مجرد واجهات وأقنعة لجهات خفية تستهدف السيطرة على وسائل الإعلام الخاصة الناقدة، وتوجيهها في طريق الدعم التام للسلطة، تحقيقا لرؤية عبد الفتاح السيسي المثلى للإعلام والتي عبر عنها في أحد لقاءاته المبكرة مع رؤساء التحرير وكبار الإعلاميين حين قال "يا بخت (الحظ) عبد الناصر بإعلامه" وهي جملة تعكس حالة الانبهار بصيغة إعلام الخمسينات والستينات (إعلام الصوت الواحد).

تحرك رجال السيسي لتطبيق رؤيته للإعلام خاصة، وهي السيطرة على مفاصل الإعلام الخاص مع تصاعد الروح النقدية لدى بعض القنوات والصحف ذات الانتشار الواسع، وجاءت صفقة بيع قناة أون تي في المملوكة لرجل الأعمال نجيب ساويرس لرجل الأعمال الأكثر قربا من النظام (أحمد أبو هشيمة)، وبغض النظر عن القيمة المالية التي دفعت في الصفقة، فإنها كانت مريحة للطرفين؛ فقد استراح ساويرس من الصداع الذي سببته له القناة، أما أبو هشيمة فقد كانت الصفقة مربحة له أو بالأحرى لمن يقف خلفه لأنها ستمكنه من الخلاص من الأصوات الناقدة داخل القناة، بل إعادة توجيه القناة بشكل كامل لتكون صوتا خالصا للنظام القائم.

هناك قواسم مشتركة بين غالبية صفقات البيع؛ إذ تنطلق من شعور بعدم القدرة على تقديم مادة إعلامية تستقطب الجمهور نتيجة غياب مناخ الحرية، وغياب التنافسية التي تسببت في خسائر مالية كبيرة لها، كما تسببت تلك القنوات بمشاكل سياسية لملاكها مع السلطة الحاكمة

فتحت صفقة "أون تي في" العيون على صفقات أخرى يجري الترتيب لها في سوق الإعلام المصري، حيث تقترب صفقة بيع مجموعة قنوات الحياة المملوكة للدكتور سيد البدوي رئيس حزب الوفد وآخرين لمستثمرين إماراتيين من محطتها الأخيرة، كما أن مجموعة دريم هي الأخرى تبحث عن مشتر بعد أن تزايدت مشاكل مالكها أحمد بهجت مع السلطة، وعجز عن الوفاء بمديونياته للبنوك الحكومية. وحتى قنوات سي بي سي لصاحبها محمد الأمين دخلت سوق التكهنات التي رجحت أن يتم بيعها لمجموعة إم بي سي.

وعلى مستوى الصحف تصاعد الحديث عن بيع جريدة صوت الأمة التي يرأس تحريرها الدكتور عبد الحليم قنديل لرجل الأعمال أحمد أبو هشيمة، وهناك توقعات بأن يحل أبو هشيمة أيضا محل ساويرس في ملكية صحيفة فيتو وبوابة مصراوي، وربما حصته في جريدة المصري اليوم.

قواسم مشتركة
هناك قواسم مشتركة بين غالبية صفقات البيع؛ إذ تنطلق من شعور بعدم القدرة على تقديم مادة إعلامية تستقطب الجمهور نتيجة غياب مناخ الحرية، وغياب التنافسية التي تسببت في خسائر مالية كبيرة لها، كما تسببت تلك القنوات بمشاكل سياسية لملاكها مع السلطة الحاكمة.

وهناك قاسم مشترك أيضا في كثير من الصفقات الجارية هو ضابط المخابرات العامة المصرية الذي أصبح رجل أعمال شهير خلال فترة وجيزة ياسر سليم صاحب شركة بلاك أند وايت الذي انتقلت إليه كامل أسهم موقع دوت مصر من أصحابه الإماراتيين في ديسمبر/كانون أول الماضي، كما أصبح منتج برنامج التوك شو الرئيسي في التليفزيون المصري الرسمي "أنا مصر" والذي يمتلك مع شركاء آخرين حق الامتياز الإعلاني لموقع وجريدة اليوم السابع داخل مصر وخارجها.

وقد ظهر اسم ياسر سليم في صفقة أون تي في، كوكيل إعلاني لها بعد انتقال ملكيتها، وظهر اسمه في صفقات أخرى يجري ترتيبها؛ وهو تأكيد لما ذهبنا إليه من وجود أصابع مخابراتية تحرك عمليات نقل ملكية وبيع بعض القنوات والصحف حاليا.

تحركات السلطات المصرية لإعادة هندسة منظومة الإعلام، ورسم حدود جديدة لعلاقته بالسلطة، أو بالأحرى إعادة الحدود القديمة التي حكمت إعلام الخمسينات والستينات نجحت في بعض المسارات، لكنها لاتزال تواجه مقاومة في مسارات أخرى مثل محاولة ترويض وتدجين نقابة الصحفيين، وقمع كل الأصوات المعارضة، وهي معركة لاتزال مفتوحة بين السيف والقلم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.