محاذير فشل المصالحة الفلسطينية

ملف المصالحة المجتمعية سيتم بدء العمل فور تشكيل الحكومة

تشديد الحصار
الفتنة الداخلية
الانهيار الداخلي
ضياع القضية

القراءة المتبصرة للواقع الفلسطيني تكشف عن محاذير كبرى تتربص بالفلسطينيين وقضيتهم إبان المرحلة القادمة حال فشل جهود تحقيق المصالحة الداخلية وإنهاء الانقسام لا سمح الله.

ولا ريب أن أمارات المماطلة والتسويف الحاصلة بين يدي الجولة المرتقبة من الحوار بين حركتي فتح وحماس في الدوحة، تشعل الأضواء الحمراء في وجوه الجميع، وتبث موجات هائلة من القلق والخشية من تفويت الفرصة، وبالتالي إدخال الوضع الفلسطيني في أتون المحن والتحديات.

تشديد الحصار
لا يخفى على أحد أن الموجة الأولى من الموجات الارتدادية لفشل جهود المصالحة الفلسطينية الداخلية بين حركتي فتح وحماس لا سمح الله، ستتمثل في تشديد الحصار الظالم المفروض على قطاع غزة منذ عشر سنوات، ما يعني وصفة جديدة من وصفات الألم والمعاناة لأهالي القطاع الذين باتوا يكابدون الوجع كقدر لا راد له دون أي بصيص أمل في الفرج والخلاص.

لا ريب أن أمارات المماطلة والتسويف الحاصلة بين يدي الجولة المرتقبة من الحوار بين حركتي فتح وحماس في الدوحة، تشعل الأضواء الحمراء في وجوه الجميع، وتبث موجات هائلة من القلق والخشية من تفويت الفرصة، وبالتالي إدخال الوضع الفلسطيني في أتون المحن والتحديات

في غزة يحدث العجب العجاب، فبدلا من تخفيف المعاناة عن المرضى الذين يموتون بسبب استمرار إغلاق المعابر، وعن الطلبة الذين فقدوا مستقبلهم العلمي جراء المصالح الحزبية القاتلة التي تحول دون التوافق على صيغة فتح المعبر اليتيم الواصل بين الأشقاء، وعن التجار الذين تُفرض عليهم الضرائب تلو الضرائب، وعن الشرائح الشعبية الواسعة التي هدّها الفقر والعوز، فإن البعض يعمل على تكريس هذه المعاناة، بل ومضاعفتها ونقلها إلى أطوار جديدة بما لا يمكن أن يجيزه عقل أو منطق أو دين أو ضمير.

حين تتجول في شوارع غزة ترى ملامح البؤس على وجوه معظم الناس، وتفجعك معالم الشرود المنبعثة من قسمات وجوههم، وعندما تتحدث إليهم تكتشف عمق المأساة الكامنة بين جوانحهم.

فلم يكفِ غزة وأهلها صمودها الأسطوري أمام ثلاثة حروب إسرائيلية مدمرة خلال أقل من خمسة أعوام، وثباتها الراسخ أمام موجات التصعيد والعدوان الإسرائيلي على مدار السنوات الماضية، ورباطة جأشها أمام محاربتها في لقمة عيشها وقوت أطفالها وحرمانها من الكهرباء والماء والغاز والوقود، والتقتير عليها في احتياجاتها الأساسية، حتى تعمد النزعات الفصائلية مجددا إلى منح المتربصين بها مزيدا من الذرائع لتشديد الحصار وإحالة قطاع غزة إلى منطقة ملتهبة من الألم والمعاناة التي لا تطاق.

ما يحدث في غزة كارثي بكل المقاييس، إذ يُفترض أن تتكاتف الجهود الوطنية الفلسطينية في مواجهة الحصار داخليا وخارجيا، وأن يتم انتشال الناس من وهدة المعاناة التي سحقت كيانهم، ومزقت حاضرهم ومستقبلهم، وحاصرت طموحاتهم وتطلعاتهم، وقزمت آمالهم وأفراحهم، وجعلت الهمّ والحَزَن صاحبا لهم في كل ميدان.

صور آلاف الشبان الذين تخرجوا من الجامعات وانضموا إلى قطار البطالة وطوابير العاطلين عن العمل، والشبان الذين تعثرت بهم السبل جراء الحصار والإغلاق، وبارت مفاعيل الحِرَف والصناعات التي يعملون بها، تخنق غزة دون رحمة وتذبحها من الوريد إلى الوريد، وهؤلاء لا يأبه بهم أحد، ولا تطالهم الحسابات الفصائلية من قريب أو من بعيد.

اقتصاديا، فإن كل يوم يمر يحمل معه انهيارا اقتصاديا جديدا، وهذا الانهيار مزدوج بفعل سياسات الاحتلال في الحصار والإغلاق التي تمنع إدخال المواد الخام والاحتياجات الضرورية والمستلزمات الأساسية من جهة، وبفعل السياسة الضريبية التي تفرضها الأجهزة الحكومية في غزة، والتي لا تعرف إلا منطق الجباية المحض، ولا تراعي الظروف القاهرة التي صعقت القطاع التجاري والاقتصادي، وأدخلت الكثير من أهل التجارة والاقتصاد خانة الإفلاس والانهيار.

فأي قاعدة صمود يمكن أن تواصل غزة وأهلها التمسك بها إبان المرحلة القادمة حال استمرار الحصار أو تشديده لا سمح الله؟

الفتنة الداخلية
إن المتتبع لحال الناس والفصائل في قطاع غزة، وطبيعة المشكلات والأزمات التي تواجههم جراء اشتداد الحصار وانغلاق الخيارات الوطنية، وتعمق الانقسام بين شقي الوطن الفلسطيني، يدرك أن غزة تقترب بسرعة من الانفجار، وأن منسوب الصبر الكامن في أفئدة الناس قد شارف على النفاذ.

ما يحدث في غزة كارثي بكل المقاييس، إذ يُفترض أن تتكاتف الجهود الوطنية الفلسطينية في مواجهة الحصار داخليا وخارجيا، وأن يتم انتشال الناس من وهدة المعاناة التي سحقت كيانهم، ومزقت حاضرهم ومستقبلهم، وحاصرت طموحاتهم وتطلعاتهم، وقزمت آمالهم وأفراحهم، وجعلت الهمّ والحَزَن صاحبا لهم في كل ميدان

فأزمة الكهرباء تتفاقم يوما بعد يوم، وأزمة ملوحة المياه تنغص على أهالي غزة حياتهم، والبطالة تنتشر انتشار النار في الهشيم، والضرائب لا تراعي معاناة الناس وتقصم ظهورهم، ومستوى اليأس والإحباط بلغ شأوا بعيدا وجد تجسيداته في تصاعد حالات الانتحار نتيجة اشتداد الفقر والعوز وثقل تكاليف الحياة وانعدام القدرة على توفير الضروريات.

وبينما يغرق أهالي القطاع في معاناتهم ويتجرعون شدة الألم ومرارة الأحزان، تعيش الفصائل في أبراج عاجية بعيدا عن مفاعيل الآلام والهموم اليومية للناس، ولا تدرك حجم الغضب والحنق والاستياء المختزن في صدورهم الذي يبدو أشبه ما يكون بالجمر المتقد تحت الرماد.

وبالرغم من علوّ صراخ الناس وأصواتهم العالية التي تشكو شدة الألم والوجع وسوء الحال، وبالرغم من النداءات والمطالبات والمناشدات التي تنطلق يوميا لأولي الأمر وأصحاب الحكم والقرار ابتغاء التخفيف عن الناس والسعي لإنهاء معاناتهم أو التقليل منها على أقل تقدير، فإن أهل الحكم وأصحاب القرار يعيشون في واد، والناس في وادٍ آخر، وكأنّ أيديهم المغموسة بالكامل في الماء البارد لا تستشعر مطلقا أيدي الناس المغموسة بالكامل في النار المحرقة.

من هنا تتجلى الخشية في أوضح صورها ومعانيها من إمكانية انفجار الوضع الداخلي، وخصوصا في قطاع غزة الطافح بالمعاناة والأزمات الثقال، واشتعال أوار الفتنة بين أبناء الشعب الواحد وفصائله الوطنية والإسلامية.

ما يعزز هذه الفرضية أن مستوى تقبل الغالبية الساحقة من أهالي القطاع لاستمرار أوضاعهم المعيشية الراهنة بات ضئيلا للغاية، وأن قدرتهم على احتمال مرحلة جديدة من الألم والمعاناة تبدو منعدمة، وأن مخزون صبرهم على تجرع البؤس والمشقات قد شارف على النفاذ.

ولا يحمل هذا التشخيص تجنيا على الواقع، بل يعبر عن نبض الواقع ويجسد أحوال الناس، ويكفي جولة استطلاعية في أوساط الناس وقطاعاتهم المختلفة التي بلغ فيها الاحتقان مبلغه، كي ندرك مدى خطورة المرحلة التي يعيشها أهالي القطاع، وكي ندرك مدى المسؤولية العظمى الملقاة على عاتق أصحاب القرار في منع الفتنة قبل وقوعها وتدارك الأمر قبل فوات الأوان.

الانهيار الداخلي
لا يملك أحد حق الجدال في أن مستوى المناعة والتماسك الفلسطيني الداخلي شكل السبب الأهم والباعث الأكبر على الصمود في وجه إسرائيل وإرهابها البشع ومخططاتها العنصرية على مدار المراحل الماضية.

فكل الإنجازات والمكتسبات التي حققتها القضية الفلسطينية، وما راكمه الفلسطينيون من صمود رائع في وجه الاحتلال في كل المراحل والمنعطفات، وقدرتهم على توليد الانتفاضات والهبات الجماهيرية العارمة التي أذلت ناصية الاحتلال، كل ذلك انبنى أساسا على البنيان الداخلي الراسخ الذي شكل حصانة كبرى لحماية القضية ووقودا دافعا للاستمرار في المواجهة وتعزيز مسيرة التحرر الوطني.

وبطبيعة الحال فإن استمرار الواقع الداخلي الانقسامي على شاكلته الحالية ربما يحمل في طياته بذور انهيار فلسطيني داخلي قريب قد يطال النظام السياسي الفلسطيني والمؤسسة الرسمية والعديد من البنى والهياكل القائمة من جهة، وقد يمس البنى المجتمعية والروح المعنوية الجمعية لعموم الفلسطينيين من جهة أخرى.

وفي شواهد الواقع مؤشرات قوية على الضعف الذي أخذ ينخر بقوة في صلب البنيتين السياسية والمجتمعية للفلسطينيين، فالسلطة والهياكل التابعة للنظام السياسي، في الضفة والقطاع على السواء، تعيش أوضاعا مزرية، وباتت أشبه بالديار الخَرِبة في نظر معظم الناس بفعل عمق آثار الانقسام، ولا يؤمل منها ما كان مرجوّا لإنجاز الأهداف الوطنية وإعادة الاعتبار للمشروع الوطني الفلسطيني.

فيما تراجعت الروح الوطنية الفلسطينية في الأوساط الشعبية إلى حد كبير، ووجد ذلك تجلياته في
الانكفاء عن المشاركة في المناسبات الوطنية وشح التفاعل مع القضايا الوطنية الكبرى لصالح الاهتمام الحصري بالهموم اليومية ومتابعة القضايا المعيشية والحياتية في ظل قسوة الحال وشدة المصاب.

منذ وقوع الانقسام سقطت هيبة الفلسطينيين وجلال قضيتهم في عيون الكثيرين على المستويين الإقليمي والدولي، وتوالت المصائب والنكسات على رؤوسهم، ولم تعد القضية الفلسطينية حاضرة بقوة على الأجندة الإقليمية والدولية، بل بات حضورها ضعيفا حينا، وفي ذيل الاهتمامات في معظم الأحيان

كل ذلك يضرب الأسس المنيعة التي حمت الجبهة الفلسطينية الداخلية من الانهيار طيلة المراحل الماضية، ويُخمد روح العزم والتحدي ومفاعيل الإرادة والصلابة والمضاء من نفوس الفلسطينيين، ويبث فيهم روح اليأس والإحباط من إمكانيات الاستمرار والنهوض، ويكرس فيهم معاني اللامبالاة والتقوقع على الشأن الخاص والهمّ الذاتي بعيدا عن الشأن الوطني واستحقاقاته الخطيرة وتحدياته الكبرى.

ضياع القضية
لا يختلف اثنان على أن القضية الفلسطينية لم تشهد تراجعا مفجعا منذ النكبة الأولى عام 1948 كما شهدته منذ أحداث الانقسام السياسي والجغرافي منتصف عام 2007 وحتى اليوم.

فمنذ وقوع الانقسام سقطت هيبة الفلسطينيين وجلال قضيتهم في عيون الكثيرين على المستويين الإقليمي والدولي، وتوالت المصائب والنكسات على رؤوسهم، ولم تعد القضية الفلسطينية حاضرة بقوة على الأجندة الإقليمية والدولية، بل إن حضورها بات ضعيفا حينا، وفي ذيل الاهتمامات في معظم الأحيان.

ويوما بعد يوم تتعالى أصوات الكثير من الفلسطينيين والعرب والمسلمين والمحبين من أحرار العالم وأنصار القضية الفلسطينية، بدعوة طرفي الانقسام الفلسطيني لطيّ صفحة الماضي والبدء في معالجة التداعيات الكارثية التي خلفها الانقسام على مكانة القضية الفلسطينية إقليميا ودوليا.

ويعلق هؤلاء آمالا واسعة على الجهود الراهنة لإنهاء الانقسام، ويترقبون مع كل جولة حوار بين فتح وحماس بارقة أمل قد تفضي إلى انتشالهم من وهدة اليأس والإحباط غير المسبوق، وتمهد لهم طريق العمل من أجل توحيد الجهود والطاقات الرامية إلى مناطحة الاحتلال ومقارعة سياساته في مختلف المحافل الإقليمية الدولية، واستعادة الزخم المعروف والحيوية التقليدية التي عاشتها القضية الفلسطينية طيلة العقود الماضية.

والمؤسف أن مواقف الكثير من الدول العربية والإسلامية باتت أسيرة الإحباط المتولد جراء استمرار التشرذم والاحتراب الفلسطيني الداخلي، ما دفعها لإعادة ترتيب أولوياتها التي غابت عنها -قسرا- القضية الفلسطينية بسبب غباء الساسة المتحكمين بزمامها والحاملين للوائها.

لذا، فإن فشل جولة الحوار المنتظرة بين فتح وحماس، والتي وُصفت بالجولة الأخيرة الحاسمة -لا سمح الله- سيلحق المزيد من الضرر بالقضية الفلسطينية، ويدفع بها أكثر فأكثر على طريق الضياع.

باختصار.. فإن القضية الوطنية الفلسطينية تقف اليوم على مفترق طرق خطير، فإما تلمس طريق الوحدة وسبل الوفاق، وبالتالي تدارك الموقف وإنقاذ الوضع الفلسطيني الداخلي عبر إستراتيجية وطنية جامعة، أو التمترس وراء المصالح الخاصة والأجندات الحزبية، وبالتالي السقوط المدوي في أوحال المعاناة والفتنة والضياع.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.