الفرصة الأخيرة

A Palestinian man and others wait outside the gate to cross the border to the Egyptian side at the Rafah crossing, in Rafah City, Gaza Strip, Thursday, Dec. 3, 2015. Egypt has reopened its border with the Gaza Strip in both directions for the first time in months. Thousands of Palestinians are lining up at Rafah border crossing to leave the isolated enclave. (AP Photo/Adel Hana)

الملف الأمني
الملف الفلسطيني الداخلي
العلاقة مع الاحتلال
حسم التحالفات

ما رشح من نتائج الحوار بين وفد حركة حماس مع المخابرات المصرية قبل أيام ليس على ما يرام، ما يوجب على حماس استثمار الفرصة التاريخية السانحة، وحسم كافة الملفات العالقة، التي يورث تجاهلها أو التراخي في معالجتها، السير في متاهات صعبة ومعقدة خلال المرحلة القادمة.

لا يحتوي علم السياسة وتطبيقاتها على مصطلح "الفرصة الأخيرة"، فالسياسة تعج بالتقلبات، وما قد يتراءى أنها الفرصة الأخيرة قد تكون كذلك بالفعل، وقد لا تكون.

لكن معطيات العلاقة المصرية الحمساوية، وبالاستناد إلى التجارب البينية على مدار السنوات الماضية أثبتت أن المنحى البياني للعلاقة يرتبط بموازين السياسة وسيرورة الأحداث، وأن الفرصة التي قد تتوفر في مرحلة ما، في ضوء معطيات وواقع وسياقات معينة، قد لا تتوفر في مراحل أخرى على الإطلاق.

لعل أخطر الأخطار أن ينكفئ حوار القاهرة على القضايا البينية والهموم الخاصة بقطاع غزة ومعاناة أهله الصامدين دون التطرق إلى القضايا الفلسطينية الكلية، وفي القلب منها المصالحة الفلسطينية الداخلية، التي لا يمكن الاستغناء عنها لإعادة الاعتبار للمشروع الوطني الفلسطيني

وتكمن مشكلة حماس أكثر ما تكون في الرهانات المستقبلية التي لا يمكن ضمان نتائجها، وتقييد المواقف والسياسات بانتظار تغير موازين القوى أو حدوث تغيرات إيجابية مستقبلية، وهو ما ثبت عقمه إبان المرحلة الأخيرة التي شهدت اضطرابات عاصفة في المشهد المصري الداخلي تركت آثارا سلبية على مجرى الأوضاع في قطاع غزة.

لذا، فإن زيارة وفد حماس إلى القاهرة شكلت فرصة تاريخية ذات أبعاد إستراتيجية لحل الأزمة القائمة بين الطرفين، واستدعاء نفوذ القاهرة -من بعد- لحل الأزمة الفلسطينية الداخلية.

ولعل أخطر الأخطار أن ينكفئ حوار القاهرة على القضايا البينية والهموم الخاصة بقطاع غزة ومعاناة أهله الصامدين دون التطرق إلى القضايا الفلسطينية الكلية، وفي القلب منها المصالحة الفلسطينية الداخلية، التي لا يمكن الاستغناء عنها لإعادة الاعتبار للمشروع الوطني الفلسطيني وللقضية الفلسطينية في ظل التحديات الراهنة.

فما رشح من نتائج اللقاءات التي جرت في مصر لا يبشر بانفراجة قريبة، وإن تمكن من كسر الجليد وأعاد حلقة التواصل بين الطرفين، ما يوجب على حماس التي اجتمعت قيادتها العامة في الدوحة لبلورة الموقف النهائي، أن تلتقط اللحظة التاريخية، وتعيد صياغة تفكيرها السياسي في كل ما يجري حولها من أحداث، قبل أن تضيع الفرصة، وتزداد الأوضاع تأزما، وتضطر الحركة لدفع أثمان باهظة، وبأضعاف مضاعفة، مستقبلا.

الملف الأمني
لعل إيلاء الأهمية المطلوبة لمواجهة وتفنيد الاتهامات المصرية حول اغتيال النائب العام وأحداث سيناء ينبغي أن تحتل رأس أجندة الفعل والحركة لدى حماس هذه الأيام، لما تشكله من أثر مقرر في طبيعة مسار العلاقة الراهنة والمستقبلية مع السلطات المصرية.

فهذه الاتهامات ليست اتهامات عابرة، بل هي اتهامات من الوزن الثقيل، ولا بد من مناقشتها وتشريحها مع المصريين واحدا بعد الآخر، وما قدمته المخابرات المصرية لوفد حماس من معطيات حسب ما أوردته وسائل الإعلام كاف كي تقوم الحركة بالتقاطه بدقة، وفتح تحقيق جاد وشفاف في كافة تفاصيله.

والقول الفصل في هذا الملف للأدلة المادية القطعية والوقائع الثبوتية فقط لا غير، كي تطوى هذه الصفحة بكل ما فيها إلى غير رجعة، ولا يُصار إلى نبشها وإثارتها والتصيد في مائها العكر مستقبلا.

لا يضير المخابرات المصرية ثبوت براءة حماس من الاتهامات، كما لا يضير حماس إذا ما ثبت تورط بعض عناصرها على الساحة المصرية بما يخالف مواقفها وسياساتها المعلنة، ومن ثم محاسبتهم وإيقاع الجزاء بحقهم، فالمسألة قابلة للعلاج على قاعدة الحرص والشفافية والمصلحة والمسؤولية المشتركة.

وفي كل الأحوال ينبغي أن يتم وضع القواعد الصحيحة لمعالجة القلق والتخوفات المصرية بشأن المنطقة الحدودية والأوضاع الأمنية في سيناء، لأن المنطقة الحدودية الرخوة، وعدد الأنفاق الكبير الذي كان قائما في السابق قبل هدمها من قبل السلطات المصرية، وفر الأرضية الخصبة لأصحاب الأجندات كي ترتع في المنطقة كما تشاء، ما يوجب إعادة تفعيل المنظومة الأمنية في المنطقة الحدودية بما يساعد على ضبط الحدود بشكل تام، ويمنع أصحاب الأجندات من تخريب العلاقات بين الطرفين.

الملف الفلسطيني الداخلي
الملف الفلسطيني الداخلي المشتمل على قضية المصالحة بين فتح وحماس، ومعاناة قطاع غزة بفعل إغلاق معبر رفح، شكل محورا أساسيا من محاور البحث والنقاش بين وفد حماس والمخابرات المصرية.

منذ سيطرتها على القطاع صيف عام 2007 بذلت حماس جهودا مضنية من أجل إقناع السلطات المصرية بفتح معبر رفح كي يستقر حكمها للقطاع وتتمكن من إدارة شؤون الناس الحياتية والاقتصادية، إلا أن التنافر السياسي والأيديولوجي بينها وبين نظام مبارك، فضلا عن قرار الحصار الإقليمي والدولي على القطاع الذي شاركت فيه مصر، جعل من رغبات حماس مجرد أماني عابرة ليس لها من الواقع حظ أو نصيب.

الدور المصري يعتبر أقرب الأدوار القادرة على ترتيب العلاقة مع الاحتلال بحكم ثقل الدور والسياسة المصرية الراهنة في تفاصيل الحياة الإسرائيلية سياسيا وأمنيا، ما يجعل القاهرة أكثر الأطراف قدرة على التدخل لتوفير مقاربات سياسية وميدانية واقعية في ظل المعاناة الهائلة لقطاع غزة

ولم يشهد الملف الفلسطيني الداخلي زمن الرئيس الإخواني المعزول محمد مرسي تطورات ذات بال، لتزيد الأوضاع تعقيدا مع وصول السيسي إلى سدة الحكم، وذلك بالرغم من اتفاقات المصالحة التي تم إبرامها في القاهرة عام 2011 والدوحة عام 2012.

ومع انقشاع سراب الضجة حول الميناء التي دارت في فلك المباحثات بين تركيا وإسرائيل، بدا واضحا أن المدخل الوحيد لرفع الحصار وإزالة المعاناة عن كاهل أبناء القطاع يتجسد فقط عبر البوابة المصرية.

أدركت حماس هذه الحقيقة إبان مباحثاتها في القاهرة، وأدركت أيضا أنها أضحت أمام خيارين لا ثالث لهما، ويكمن الأول في الاستجابة للنصائح المصرية التي ترقى إلى مستوى التحذيرات حول ضرورة إنجاز المصالحة مع أبي مازن وحركة فتح، ما يمهد الطريق أمام عودة السلطة الفلسطينية إلى غزة، وبالتالي عودة معبر رفح إلى وضعه الطبيعي ورفع الحصار، فيما يكمن الخيار الآخر في بقاء الأوضاع على ما هي عليه، مع ما يعنيه ذلك من استمرار الحصار والمعاناة، وما قد يحمله المستقبل من تداعيات سلبية جديدة على واقع الحياة داخل القطاع.

تكاد تكون الخيارات المتاحة أمام حماس صفرية إزاء الملف الفلسطيني الداخلي، وما لم تبادر الحركة إلى إنهاء ملف المصالحة في الدوحة خلال اللقاء المرتقب مع حركة فتح في ظل الدعم والتأييد المصري، فإنها ستخسر الكثير، وستدفع المزيد من الأثمان الباهظة إبان المرحلة القادمة.

العلاقة مع الاحتلال
لا يقل ملف العلاقة مع إسرائيل أهمية عن بقية الملفات، إذ أن الذاكرة الفلسطينية ما زالت حاضرة إزاء اضطراب الرؤية الفلسطينية الداخلية في إدارة الصراع مع الاحتلال، والذي كانت حرب عام 2014 على غزة أحد أهم نتائجه، وما ترتب عليها من مآس وآلام متجذرة في عمق الوعي الجمعي الفلسطيني.

وقد أثبتت التجارب أن الدور المصري يعتبر أقرب الأدوار القادرة على ترتيب العلاقة مع الاحتلال بحكم ثقل الدور والسياسة المصرية الراهنة في تفاصيل الحياة الإسرائيلية سياسيا وأمنيا، ما يجعل القاهرة أكثر الأطراف قدرة على التدخل لتوفير مقاربات سياسية وميدانية واقعية في ظل المعاناة الهائلة التي تجتاح قطاع غزة، ووقوف الفلسطينيين في المنطقة الرمادية دون أي حسم لخياراتهم العسكرية والميدانية.

وبطبيعة الحال فإن هذا الملف لا يمكن إنجازه أو حثّ المصريين على تبنيه إلا بعد إغلاق الملف الأمني الداخلي والحدودي مع الحركة، وتفكيك الملف الفلسطيني الداخلي الذي يقود إلى حل أزمة معبر رفح.

وما يعضد هذه الرؤية أن المشروع الذي تقدمت به حماس أثناء اللقاءات مع المخابرات المصرية، والذي يرتكز على هدنة طويلة الأمد مقابل رفع الحصار وبناء ميناء بحري، وُوجه بتجاهل وعدم اكتراث مصري، وتم ربط الأمر بضرورة عودة السلطة الفلسطينية إلى القطاع أولا، وهذا ما يضع حماس أمام معضلة حساسة وتحديات جمة.

ومكمن الخطر أن الجبهة الميدانية بين إسرائيل وقطاع غزة تعيش وضعا هشا بكل معنى الكلمة، وأن أي شرارة أو ممارسة طائشة هنا أو هناك قادرة على إشعال فتيل المواجهة بين الطرفين، الأمر الذي تحاول حماس تلافيه وعدم السماح بمقدماته بكل الوسائل الممكنة في ظل الظروف المعقدة التي يعيشها أهالي القطاع الذين لا يمكنهم احتمال تداعيات أي تصعيد واسع مع الاحتلال بأي حال من الأحوال.

من هنا فإن حاجة حماس إلى الدور المصري تبدو كبيرة لمعالجة ملف العلاقة مع الاحتلال بغية ضبط الأوضاع الميدانية ومنعها من الانفلات الكارثي أولا، ومن ثم بلورة صفقة سياسية شاملة مع الاحتلال لإنهاء أزمات القطاع ورفع الحصار عنه وإعادة إعماره مستقبلا.

حسم التحالفات
تمنح الموافقة المصرية الرسمية على استضافة وفد حماس في القاهرة وإجراء مباحثات مباشرة معها عقب عامين من التوتر الحاد بين الطرفين الحركةَ إشارة واضحة، وإن كانت غير مباشرة، إلى ضرورة حسم تحالفاتها الإقليمية، ونزع الوهم بالقدرة على اللعب في كل المربعات في آن واحد.

الواقع أن حماس أمام خيارات بالغة الحرج والحساسية، فهي ترغب بإلحاح في استدرار الدعم المادي الإيراني، في الوقت الذي يتطلب فيه موقعها ضمن المنظومة السنية والدينية المحافظة على علاقات وثيقة مع السعودية، فيما لا يمر الانفراج السياسي إلا عبر البوابة المصرية

فالواضح أن الاستقطاب الحاد بين المحور الإيراني من جهة، والمحور الآخر الذي تمثله مصر ودول الخليج، لا يسمح لحماس بهامش واسع من المناورة في مربع المحاور والتحالفات، ويضيق عليها خياراتها السياسية في التعاطي مع بعض قضايا المنطقة.

ومما يبدو فإن أمام قيادة حماس ثلاثة خيارات لا رابع لها في إطار لعبة المحاور والتحالفات.

الخيار الأول يقضي بإدارة الظهر لمحور إيران وحزب الله، والانفتاح التام على مصر وتوثيق العلاقات مع السعودية ودول الخليج.

أما الخيار الثاني فيتمثل في العودة إلى محور إيران وحزب الله، مع ما يعنيه ذلك من تهميش العلاقة مع مصر والسعودية ودول الخليج.

فيما يكمن الخيار الثالث والأخير في المراوحة في المنطقة الرمادية دون أي حسم لجهة هذا المحور أو ذاك، عبر محاولة التذاكي السياسي واللعب مع كل الأطراف.

والواقع أن حماس أمام خيارات بالغة الحرج والحساسية، فهي ترغب بإلحاح في استدرار الدعم الإيراني المادي، في الوقت الذي يتطلب فيه موقعها ضمن المنظومة السنية والدينية المحافظة على علاقات وثيقة مع السعودية، فيما لا يمر الانفراج السياسي إلا عبر البوابة المصرية.

وهكذا، فإن حماس بحاجة إلى كل هذه الأطراف، إلا أن المحورين المتقابلين لا يقبلان من حماس إلا اتجاها وحيدا وحسما خالصا، إما لهذا أو لذاك.

ولعل الرؤية الأصح في هذه المرحلة التي يمكن استقاؤها في ضوء التجارب السابقة، ينبغي أن تضع الحركة على قائمة أولوياتها في هذا المجال الانفتاح التام على مصر والسعودية، كونهما تملكان مفاتيح الانفراج، وتستحوذان على آليات الضغط الكفيلة برفع المعاناة عن قطاع غزة، سواء عبر معبر رفح وتحقيق المصالحة الفلسطينية الداخلية أو تقديم الدعم المالي والإغاثي اللازم خلال المرحلة المقبلة.

ولا يعني ذلك استعداء إيران وحزب الله، لكن المحافظة على علاقات إيجابية مع طرف ما شيء، والتحالف معه والاصطفاف إلى جوار سياسته، بالحق والباطل، شيء آخر تماما.

خلاصة القول إن حماس تقف اليوم على مفترق طرق خطير، وإن زيارتها القادمة إلى مصر سوف تحمل الخبر اليقين نحو سلوك طريق الحل والانفراج، أو الانجراف أكثر فأكثر في طريق التيه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.