العالم من منظور ترامب

U.S. Republican presidential candidate Donald Trump gestures as he speaks during a campaign event in Radford, Virginia February 29, 2016. REUTERS/Chris Keane TPX IMAGES OF THE DAY


إذا بحثت عن كلمة "trump" في القاموس، فسوف تجد أنها تحوير لكلمة "triumph" (بمعنى انتصار). ولأن دونالد ترامب (Donald Trump) المرشح للرئاسة الأميركية يبدو من المرجح أن يصبح مرشح حزب أبراهام لنكولن ورونالد ريغان القديم العظيم، فنحن مدينون لأنفسنا بأن نتساءل: بأي كيفية وفي نظر أي مجموعة من الناس قد يمثل ترامب انتصارا؟

ربما يفكر المرء في شريحة من السكان الأميركيين الحانقين المستائين من ثماني سنوات من رئاسة باراك أوباما، وهي المجموعة التي تشعر الآن بالرغبة في الانتقام. وربما يفكر المرء أيضا في أتباع نظرية تفوق أصحاب البشرة البيضاء، وأنصار الفصل العنصري، ومناهضي المهاجرين، الذين يمثلهم زعيم جماعة كوكلوكس كلان السابق ديفيد ديوك، الذي كان ترامب شديد التردد في رفض دعمه الصاخب له في الأسبوع الماضي، والذي ربما يمثل ترامب بالنسبة لجمهور أنصاره المرشح الأكثر أهمية على الإطلاق.

عندما يحاول المرء أن يتناول بجدية القليل المعروف عن برنامج ترامب الانتخابي، فمن السهل أن يرى دولة تنقلب على نفسها، وتبني من حولها الجدران العازلة، وفي نهاية المطاف تُفقِر نفسها بمطاردة وإبعاد الصينيين والمسلمين والمكسيكيين وغيرهم

عندما يحاول المرء أن يتناول بجدية القليل المعروف عن برنامج ترامب الانتخابي، فمن السهل أن يرى دولة تنقلب على نفسها، وتبني من حولها الجدران العازلة، وفي نهاية المطاف تُفقِر نفسها بمطاردة وإبعاد الصينيين والمسلمين والمكسيكيين وغيرهم ممن ساهموا في بوتقة الصهر الهائلة التي حولتها الدولة الأكثر عولمة على ظهر الأرض، في وادي السليكون وأماكن أخرى، إلى ثروة عظيمة.

ولكن كما هي الحال مع الولايات المتحدة غالبا، لا تخلو ظاهرة ترامب من عنصر يمتد إلى أبعاد أكبر من المشهد الوطني الأميركي. وعلى هذا فربما يستسلم المرء لإغراء التساؤل حول ما إذا كانت ظاهرة ترامب لا تمثل أيضا نذيرا -أو ربما حتى صورة مثالية- لحقبة جديدة في السياسة العالمية.

عندما تشاهد رأس هذا المقامر، الممثل الكرنفالي الرخيص، المصفَّف الشعر والمحقون بالبوتوكس، وهو يتنقل من كاميرا تلفزيونية إلى الأخرى وفمه الغليظ البدين نصف مفتوح على الدوام، فلن تستطيع أبدا أن تحدد ما إذا كانت هذه الأسنان المكشوفة علامة على السكر البين، أو الإفراط في التهام الطعام، أو ربما تشير حتى إلى أنه يعتزم التهامك ضمن وجبته التالية.

الأمر ذاته وأنا أستمع إلى خطابه الزاخر بالشتائم والذي ينضح بالابتذال، وكراهيته البائسة للنساء، اللاتي يصفهن اعتمادا على حالته المزاجية بأنهن كالكلاب أو الخنازير أو الحيوانات المقززة المثيرة للاشمئزاز. وأسمع نكاته البذيئة التي تنحي لغة السياسة الحريصة جانبا لصالح الخطاب الشعبي الأصيل المزعوم في أغلب عناصره، أو لصالح لغة الأعضاء التناسلية. (تنظيم الدولة الإسلامية؟ نحن لسنا بصدد شن حرب ضده، بل نحن نعتزم ركل مؤخرته). (هل تتحدثون عن تعليق ماركو روبيو على صِغَر حجم يدي؟ أستطيع أن أضمن لكم أن بقية أعضائي ليست صغيرة).

ثم هناك عبادة المال وما يصاحبها من احتقار وازدراء الآخرين. ففي فم هذا الملياردير المتكرر الإفلاس والمحتال الدجال الذي ربما يكون على علاقة بالمافيا، أصبحت عبادة المال وازدراء الآخرين بيت القصيد في العقيدة الأميركية بالنسبة له (إنها عقلية الوجبات السريعة المغطاة بالأفكار الدهنية، والتي طغت على النكهات العالمية لعدد لا يحصى من التقاليد التي شكلت "الرعوية" الأميركية العظيمة). وفي سياق اليدين الصغيرتين، فإنه حتى الأذنين غير المدربتين على الانتباه إلى الأبعاد المستترة لهذه الرعوية ربما التقطت (وإن كان ذلك في نسخة منحرفة بفِعل المستوى الشديد التدني من التبادل) الكلمة الشهيرة التي ألقاها ئي. ئي. كامنينجز: "لا أحد، ولا حتى المطر، لديه مثل هاتين اليدين الصغيرتين".

مع ترامب، وبرلسكوني، وبوتين، ولوبان يفكر المرء في حالة دولية جديدة، ليست من الشيوعية، بل من الابتذال والبذخ المبهرج، حيث يتقلص المشهد السياسي إلى أبعاد أستوديو التلفزيون، وتنهار المناظرة إلى عبارات للفت الأنظار، وتتحول أحلام الناس إلى أوهام متحذلقة

في مواجهة هذه القفزة إلى الأمام، إلى الفظاظة والتفاهة، يفكر المرء في سيلفيو برلسكوني، وفلاديمير بوتين، ولوبان (الأب وابنته). يفكر المرء في حالة دولية جديدة، ليست من الشيوعية، بل من الابتذال والبذخ المبهرج، حيث يتقلص المشهد السياسي إلى أبعاد أستوديو التلفزيون. وتنهار المناظرة إلى عبارات للفت الأنظار، وتتحول أحلام الناس إلى أوهام متحذلقة، ويتخذ الاقتصاد هيئة التشوهات البدنية التي يتسم بها بخلاء عاجزون لفظيا يحتقرون كل من يفكر، ويتدهور السعي إلى تحقيق الذات إلى الحيل التافهة التي تدرس في جامعة ترامب المتوفاة الآن.

هذا صحيح.. إنه الفساد المعولم في مجتمع بوتين، وبرلسكوني، وترامب القائم على الإعجاب المتبادل. ففي هؤلاء الأشخاص نرى وجه إنسانية كاريكاتورية اختارت كل ما هو متدن وعنصري من أجل ضمان انتصارها.

إنه كون زائف حيث يودِع المرء، في غياهب نسيان تاريخ عتيق، ضَعف المنفيين والمهاجرين وغيرهم من الرحالة الذين شيدوا على ضفتي الأطلسي الأرستوقراطية الإنسانية الحقيقية. ففي الولايات المتحدة، كان ذلك الشعب العظيم الذي يتألف من اللاتينيين، ويهود أوروبا الشرقية، والإيطاليين، والآسيويين، والأيرلنديين، والناطقين باللغة الإنجليزية الذين ما زالوا يحلمون بقوارب التجديف التي تشق الآن مياه نهر تشارلز.

لقد اخترع برلسكوني هذا العالم الكاريكاتوري، وعمل بوتين على تضخيم عنصره العضلي، والآن يتطفل على هذا العالم أوروبيون آخرون من الدهماء لفرض أبشع أشكال العنصرية. أما عن ترامب، فإنه يقدم لنا برجه، وهو واحد من أكثر البنايات قبحا في مانهاتن، بهندسته المعمارية الخرقاء الغليظة، ودهاليزه العملاقة، والشلال الساقط لمسافة خمسة وعشرين مترا لإبهار السياح.. برج بابل الزجاجي الفولاذي الذي بناه دون كورليوني (زعيم المافيا) من البقايا التي يفترض أن تنصهر فيها كل لغات العالم في لغة واحدة.

ولكن الحذر واجب، إذ أن هذه اللغة الجديدة لم تعد لغة أميركا التي كنا نحلم بأنها ستكون أبدية، أميركا التي كانت في بعض الأحيان تعيد الحياة إلى ثقافات منهكة محتضرة. إنها لغة بلد ودَّع الكتب والجمال، بلد يخلط بين مايكل أنجلو ومصمم العلامة التجارية الإيطالي، بلد نسي أن لا أحد، ولا حتى المطر، لديه مثل هاتين اليدين الصغيرتين.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.