ثالوث بوتين للبقاء في السلطة

Russian President Vladimir Putin (C) takes a speech opening the International Military-Technical Forum 'ARMY-2015' in the Russian Armed Forces 'Patriot' park in Kubinka, Moscow region, Russia, 16 June 2015. Hundreds of the Russian defense companies and weapon manufacturers will take part in the event, displaying an estimated 5,000 pieces of weaponry and military equipment, ranging from helicopters and fighter jets to tanks and small arms.

حروب وشعارات قومية
نذر احتجاجات شعبية
عين على الإعلام
بوتين واليمين المتطرف
استخدام الكنيسة

يوظف الكرملين الجيش والأجهزة الأمنية والكنيسة لمنع اندلاع احتجاجات واسعة في روسيا على خلفية الأزمة الاقتصادية المتفاقمة، ويجهد لفك العزلة الدولية ورفع العقوبات المفروضة على روسيا على خلفية ضم القرم وأحداث أوكرانيا ربيع 2014.

ويتبع الرئيس فلاديمير بوتين سياسة مركبة فريدة لتوطيد أركان حكمه داخليا، وتجميل صورة موسكو خارجيا، والتأسيس لتحرك عالمي يهدف إلى إنهاء العقوبات الغربية، والقبول بدور عالمي جديد لروسيا يتجاوز عن الوقائع الجديدة التي تسببت بها سياسات موسكو الخشنة مثل ضم القرم والحرب في شرق أوكرانيا، والكلفة البشرية الباهظة للتدخل الروسي في سوريا.

حروب وشعارات قومية
وفي السنتين الأخيرتين تمكن الكرملين من حرف انتباه الشعب الروسي عن الأزمة الاقتصادية الخانقة عبر التدخل في أوكرانيا وضم القرم، ولاحقا التدخل العسكري في سوريا. ولكن يبدو أن ضابط الاستخبارات السابق يعلم أن دغدغة مشاعر العزة القومية والعزف على وتر استعادة أمجاد روسيا الإمبراطورية والسوفيتية سوف تستنفد أغراضها ولن تفلح في التغطية على تبعات وتأثيرات الأزمة الاقتصادية على أركان حكمه، أو المحافظة على شعبيته المرتفعة التي تجاوزت 90 في المئة بعد ضم القرم ربيع 2014 ولم تهبط عن 80 في المئة حتى الآن.

يتبع الرئيس فلاديمير بوتين سياسة مركبة فريدة لتوطيد أركان حكمه داخليا، وتجميل صورة موسكو خارجيا، والتأسيس لتحرك عالمي يهدف إلى إنهاء العقوبات الغربية، والقبول بدور عالمي جديد لروسيا يتجاوز عن الوقائع الجديدة التي تسببت بها سياسات موسكو الخشنة

إذ تكشف المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية أن العقوبات الغربية وتهاوي أسعار النفط قوضت معظم إنجازات بوتين منذ صعوده في عام 2000. وتكفي الإشارة إلى أن دخل المواطنين الحقيقي تراجع العام الماضي بنحو 10 في المئة للمرة الأولى منذ عام 1999، وأن عدد الروس القابعين تحت خط الفقر تجاوز 22 مليونا.

وحسب دراسة أعدها مصرف "سبيربانك" الحكومي فإن الأزمة الاقتصادية أجبرت أكثر من ثلثي الروس على التحول إلى استهلاك بضائع أرخص، كما كشفت الدراسة أن ربع الروس خفضوا كمية الأغذية المستهلكة، وأن نحو 60 في المئة من الروس عزفوا عن شراء البضائع الكمالية نهائيا منذ منتصف العام الماضي.

وذكرت دراسة حديثة صادرة عن المصرف المركزي أن قرابة 40 مليون روسي، أو نصف حجم القادرين على العمل في البلاد، اضطروا إلى تلبية احتياجاتهم بمزيد من القروض، وأن 8 ملايين منهم غير قادرين على تغطية هذه القروض.

نذر احتجاجات شعبية
ويفرض تراجع النفط إلى أدنى مستوياته منذ 12 عاما ضغوطا إضافية على الموازنة الروسية التي تعتمد بأكثر من النصف على واردات النفط والغاز. ويحّد من قدرة الكرملين على مواصلة سياسة الدعم الاجتماعي السخي التي اتبعها في السنوات الأخيرة، وحسب البيانات الرسمية فإن المساعدات الاجتماعية استأثرت في عام 2014 بنحو 20 في المئة من الموازنة مقارنة بنحو 14 في المئة و16.3 في المئة في عامي 1974 و1985 زمن الاتحاد السوفيتي السابق على التوالي.

ومع توقعات بنفاد موجودات صندوقي الاحتياط والرفاه الوطني حتى نهاية العام الحالي في حال استمرار أسعار النفط والخامات المنخفضة، فإن الحكومة سوف تكون مضطرة لتقليص حجم المعونات الاجتماعية، ما يعني تراجع شعبية بوتين وحزبه الحاكم على أبواب الانتخابات البرلمانية المقررة خريف العام الحالي. ومع اشتداد الأزمة فإن معظم المقاطعات والمحافظات بدأت تسجل عجزا في موازناتها، ما أجبرها على تجميد المعاشات وتقليص سياسات الدعم الحكومي.

وتنذر الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في روسيا باندلاع احتجاجات شعبية واسعة تختلف جذريا عن تظاهرات 2012 من حيث انتشارها الجغرافي، وطبيعة المشاركين فيها، والأهداف المطروحة.

والتظاهرات المقبلة لن تكون مقتصرة على كبريات المدن الروسية، بل يتوقع أن تمتد إلى المدن الصغيرة والأرياف. وستتعدى المشاركة في الاحتجاجات المثقفين والسياسيين وأبناء الطبقة الوسطى والغنية إلى الفقراء والجوعى الذين يزداد عددهم باضطراد تحت وقع الأزمة مع توقعات بانضمام أعداد كبيرة إلى جيش العاطلين عن العمل على المدى المنظور مع تراجع الاستثمارات وتقلص الاستهلاك المحلي.

وحسب دراسات فإن عدد التظاهرات المطلبية والاحتجاجية في روسيا وصلت في العام الماضي إلى نحو 500 احتجاج، أهمها تحرك سائقي الشاحنات، وتظاهرات المقترضين العقاريين بالعملات الأجنبية.

تكشف المؤشرات أن العقوبات الغربية وتهاوي أسعار النفط قوضت معظم إنجازات بوتين منذ صعوده في عام 2000. فدخل المواطنين الحقيقي تراجع العام الماضي بنحو 10 في المئة للمرة الأولى منذ عام 1999، وعدد الروس القابعين تحت خط الفقر تجاوز 22 مليونا

واللافت أن معظم التظاهرات لا ترفع حتى الآن شعارات مناوئة لبوتين بل على العكس تطالبه بالتدخل لحل مشكلاتهم، مقابل انتقاد الحكومة المركزية أو السلطات المحلية أو حيتان المال. وفي المقابل يبدو بوتين عاجزا عن إجراء تعديلات حكومية، أو المجاهرة بالعداء لكبار رجال الأعمال حتى لا يعطي مؤشرا إلى أي خلافات داخل النخبة الحاكمة، أو خلق أعداء جدد في فترة تشهد صراعا عنيفا مع الغرب.

عين على الإعلام
وفي مواجهة احتمال اندلاع أي تظاهرات عارمة لجأ الكرملين في السنتين الأخيرتين إلى توظيف قنوات التلفزيون والإذاعة والصحف والمجلات للترويج لإنجازاته، وتصوير الأزمة على أنها عالمية ولا تقتصر على روسيا وحدها، وأنها تأتي لعدم رغبة الغرب في استعادة روسيا لدورها كقوة عظمى مؤثرة في صناعة القرار العالمي. وفي المقابل فإن "القيصر العصري" وظف أحدث الوسائل التقنية لبناء سور حديدي يمنع انتقال "الأفكار الهدامة" المحرضة على الاحتجاجات من "الطابور الخامس" إلى عامة الشعب.

وقيدت السلطات الروسية حرية التعبير، وحجبت عدة مواقع مستقلة، واعتمدت قوانين جديدة واقترحت تدابير من شأنها زيادة تكميم حرية التعبير، وملاحقة المنتقدين الذين يجاهرون بعرض آرائهم الرافضة للتدخل في أوكرانيا أو سوريا على الإنترنت. وحسب تقرير منظمة "هيومان رايتس ووتش" الأخير فإن "حملة الكرملين القمعية على المجتمع المدني والإعلام والإنترنت انعطفت في شكل هو الأخطر والأسوأ في عام 2015، مع تكثيف الحكومة لحملات المضايقات والاضطهاد للناقدين المستقلين".

وفي مايو/أيار الماضي عدّل الرئيس فلاديمير بوتين القائمة الرسمية الروسية الخاصة بالمعلومات السرية، لتضم معلومات عن الخسائر العسكرية أثناء السلم و"العمليات الخاصة" التي يمكن أن تشمل على سبيل المثال العمليات في شرق أوكرانيا أو سوريا. ويفرض القانون عقوبات على من يخالف القواعد بالسجن تصل حتى ثمانية أعوام كحد أقصى.

وفي خريف العام الماضي بدأ سريان قانون يحظر تخزين البيانات الشخصية لمستخدمي الإنترنت الروس على خوادم أجنبية، ويطالب المواقع الأجنبية التي تجمع هذه البيانات بتخزينها داخل روسيا. وينص القانون على حق السلطات بحجب مواقع التواصل الاجتماعي الدولية ومحركات البحث إذا رفضت الامتثال لهذه المتطلبات الجديدة.

وفي مقابل استخدام الأساليب السوفيتية للقمع والحّد من الحريات في الداخل، يشن الكرملين حربا إعلامية في مواجهة الغرب لتلميع صورة روسيا وبوتين إثر أحداث أوكرانيا وضم القرم والتدخل في سوريا، والحملة التي تتهم بوتين بالفساد. وفي مؤشر إلى الهستيريا ضد الأجانب، والخوف من نشر أي أفكار قد لا تناسبها، استخدمت السلطات في نهاية العام الماضي قانونا يعود إلى عام 2012 لـ "شيطنة" الجماعات المناصرة لحقوق الإنسان التي تقبل التمويل الأجنبي، وصنفتها كـ"عملاء أجانب"، ما اضطر 12 منظمة إلى إغلاق أبوابها بدلا من القبول بصفة "عميل أجنبي".

بوتين واليمين المتطرف
وفي مقابل تشدد الكرملين داخليا بالاعتماد على برلمان مطواع، وكنيسة داعمة، ووسائل إعلام تابعة، ومعارضة مدجنة، يعتمد سياسة مركبة تقوم على الانفتاح على بلدان منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك) على أمل التنسيق لرفع أسعار النفط والخروج من الأزمة الاقتصادية. كما توظف موسكو قدراتها المالية والتقنية مع عدد من البلدان الأوروبية لرفع الشعارات الداعية إلى رفع العقوبات عن روسيا بغض النظر عن تنفيذ اتفاقات "مينسك" لتسوية الأزمة الأوكرانية، والصمت عن ضم القرم.

وتنسج السلطات الروسية علاقات وثيقة مع أحزاب اليمين المتطرف الأوروبي، وتصب الزيت على النار لبقاء أزمة اللاجئين مشتعلة، فمن ناحية تواصل القصف شمال سوريا ما يتسبب في زيادة أعداد اللاجئين، ومن ناحية أخرى تواصل التحريض على اللاجئين بتضخيم أحداث رأس السنة، واختلاق الأكاذيب، والتركيز على تفجيرات باريس الإرهابية، وإثارة المخاوف من "أسلمة" أوروبا وضياع هويتها المسيحية، وانفراط عقد الاتحاد الأوروبي.

استخدام الكنيسة
وفي استحضار لتجربة القياصرة والزعيم السوفيتي نيكيتا خورشوف في استخدام الكنيسة الأرثوذكسية لخدمة السياسات الخارجية، وبعدما أضفت الكنيسة طابعا دينيا على التدخل العسكري الروسي في سوريا ووصفته بـ "الحرب المقدسة"؛ لا بد أن الكرملين أعطى إشارة الموافقة على لقاء زعيم الكنيسة الأرثوذكسية البطريرك كيريل مع بابا الفاتيكان فرنسيس.

تنسج السلطات الروسية علاقات وثيقة مع أحزاب اليمين المتطرف الأوروبي، وتصب الزيت على النار لبقاء أزمة اللاجئين مشتعلة، فمن ناحية تواصل القصف شمال سوريا ما يتسبب في زيادة أعداد اللاجئين، ومن ناحية أخرى تواصل التحريض على اللاجئين

ومما لا شك فيه أن اللقاء التاريخي بعد نحو ألف عام من الشقاق بين الكنيستين يعّد حدثا تاريخيا لروسيا وأوروبا على حد سواء، لكنه لن يسهم في تذليل الخلافات اللاهوتية الكبيرة بين الكنيستين.

ومن الواضح أن بوتين اختار التوقيت المناسب في محاولة لفك العزلة الغربية المتزايدة، وإثبات أن هناك أطرافا فاعلة في العالم الغربي لا تعادي سياساته وقد تتفق معها في قضايا مهمة. وعلى خلاف القادة الغربيين فإن رأس الكنيسة الكاثوليكية لم يوجه انتقادات لسياسات روسيا، وتبنى موقفا محايدا من الأزمة الأوكرانية ووصفها بأنها "اقتتال الأخوة".

ويتضح من التركيز في البيان الختامي للزعيمين الروحيين على مسألة تهجير مسيحيي الشرق وضرورة حمايتهم أن روسيا تريد تسويق تدخلها في سوريا على أنه لحماية مهد المسيحية. كما أن اللقاء يمثل فرصة لتصوير روسيا على أنها حامية القيم المسيحية المحافظة خاصة إذا ما قورن موقفها "المحافظ" في عدد من القضايا مع موقف البابا فرنسيس "الليبرالي".

ويبدو أن الرئيس بوتين لم يشغل نفسه بالتفكير طويلا في الإجابة عن السؤال التاريخي "ما العمل"، ولجأ إلى استحضار التجارب القيصرية والسوفيتية، واستخدام الوسائل العصرية في درء خطر التظاهرات وتوطيد أركان حكمه، لكن "حاكم الكرملين" يغفل أن الأنظمة السابقة في روسيا آلت إلى السقوط عندما بلغت أوج قوتها الخارجية على حساب بؤس مواطنيها.

ومن المؤكد أن بوتين يستغل مزاج الروس الرافضين للتغير الثوري بعد تجربتين فاشلتين في القرن الأخير، لكن عدم وجود حلول سحرية للأزمات الاقتصادية والاجتماعية بيد الكرملين تحول روسيا من "قاعة انتظار" لما يمكن أن تؤول إليه الأمور إلى "مرجل" تزداد حرارته والضغط الداخلي فيه ما قد يتسبب في انفجار الأوضاع في أي لحظة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.