بعد أن رحل هيكل

Mohamed Hassanein Heikal - محمد حسنين هيكل - الموسوعة

فرص ومخاطر
من عبد الناصر إلى السادات
هيكل وثورة يناير

عاصر الكاتب الصحفي المصري الأشهر محمد حسنين هيكل ثمانية من حكام مصر الملكية والجمهورية، واقترب كثيرا من بعضهم، وشارك في صنع سياسات مصر، وشغل مناصب إعلامية وسياسية كبيرة، وحصد شهرة وجوائز محلية وعالمية كثيرة؛ حتى يمكن عده أحد أهم الصحافيين العرب الذين بلغوا بأقلامهم مستوى العالمية.

وقد مر الرجل في المرحلة الأخيرة بظروف صحية صعبة، زادت وطأتها عليه مع ضعف الشيخوخة والتقدم في السن حتى توفي صباح الأربعاء الفائت، وفي هذه الظروف إن كان له علينا حق الدعاء، فلنا كذلك -وقد صار الرجل تاريخا يروى- حق تقييم هذه المسيرة الطويلة التي قطعها، وصنع خلالها مجدا شخصيا كبيرا، وكان فيها شريكا مباشرا في مجموعة من الأحداث المهمة التي مرت بمصر منذ أوائل الخمسينيات من القرن الماضي إلى عام وفاته.

اتفق هيكل مع الأنظمة التي عاصرها واختلف، فكان الإعلاميَّ الأكبر في دولة عبد الناصر بلا منازع، بل أحد صناع السياسة في مصر والعالم العربي آنذاك من مقعد إعلامي قوي، وقد أغضبته حملة السادات الشهيرة على عبد الناصر حتى كانت أحد الأسباب التي جعلته يرفض الانخراط في المناصب السياسية في عهد السادات

يقول مايلز كوبلاند في "لعبة الأمم": "زادت العلاقات قوة بين ليكلاند (المسئول السياسي في السفارة الأميركية بالقاهرة) والضباط الأحرار عن طريق حسنين هيكل الذي كان صلة الوصل بينهم. وقد أصبح هيكل فيما بعد من أقرب المقربين لعبد الناصر، في حين لم يكن آنئذ أكثر من محرر في صحيفة يملكها مصطفى أمين أحد أصدقاء عبد الناصر. وقد هيأ هيكل الجو للعديد من المقابلات بين ليكلاند وقادة الضباط الأحرار بمن فيهم عبد الناصر نفسه، واعتاد ليكلاند أن يستقبلهم في شقته المطلة على النيل بترحاب وإكرام زائدين" (ص 96).

فرص ومخاطر
والحق أن القيم والمبادئ التي يحملها الإنسان قد تبقى ثابتة في الظروف المتناقضة، وقد تتبدل تبعا للأجواء المسيطرة، وليس للسن اعتبار خاص في هذا الأمر، بل قد يراعي الكبير توازنات وتوافقات لا يراها أبناء الأجيال التالية إلا من قبيل التجارة بالمبادئ، وقد يتصلب الكبير في مواقفه بناء على بصيرة ما لا يدركها شاب ضعيف الخبرة.

والإعلام بقدر ما يمنح صُنَّاعه الظاهرين من فرص وامتيازات، فإنه يفرض عليهم شروطه القاسية، ويضعهم ضمن حسابات الآخرين بامتياز؛ لأنهم -وفقا لطبيعة الإعلام- يضعون الآخرين في حسابهم، فإن كان الإعلام يمنح صاحبه الشهرة الواسعة والمال الكثير أحيانا، فإن سحر الكلمة -المقروءة والمنطوقة- وتأثيرها الواسع يضع في طريقه مخاطر كثيرة تتهدد حريته وحياته نفسها حين يشعر طرف ما بأن نفوذه أو صورته أو مصالحه مهددة.

وبسبب هذا التقاطع بين وظيفة الإعلامي وحركة المجتمع، وفي القلب منها حركة أصحاب النفوذ، كان لابد أن تقوم قاعدة التعامل بينهما -من قبل السلطة تحديدا- على المساومة ومحاولة الاستقطاب والتهديد إن لزم الأمر، بل صناعة إعلام موال يتحدث باسم السلطة؛ يروج لأفكارها، ويدافع عن مواقفها، ويبين وجهات نظرها في مختلف المواقف والقضايا.

وإذا كان الصحفي عرضة للقتل أثناء تغطية المعارك في ساحات الحرب كما حدث مئات المرات، فإن الرصاصات تطارده أكثر من ذلك في مكتبه وبيته وحيث كان؛ فكم من صحفيين اغتيلوا في مكاتبهم، أو على أعتاب بيوتهم، أو وهم يعبرون الطريق، أو يسيرون في الشارع، أو في داخل سياراتهم.

والمشكلة أن الخصوم المفترضين للإعلامي لا يتمثلون فقط في الحكومات، ولكن يتجاوزونها إلى جماعات المعارضة وأصحاب المصالح في عمومهم، بل لا يقتصر الأمر على أخطار تمثلها أطراف داخلية، وإنما يتعدى الخطر هذا حتى يشمل أطرافا خارجية أيضا، وكل خطر على الصحفي يمثل خطرا مؤكدا على رسالته الإعلامية.

من عبد الناصر إلى السادات
وقد اتفق هيكل مع الأنظمة التي عاصرها واختلف، فكان الإعلاميَّ الأكبر في دولة عبد الناصر بلا منازع، بل أحد صناع السياسة في مصر والعالم العربي آنذاك من مقعد إعلامي قوي، وقد أغضبته -كما عبر في العديد من كتبه- حملة السادات الشهيرة على عبد الناصر في منتصف السبعينيات من القرن الماضي، حتى كانت سببا من الأسباب التي جعلته يرفض الانخراط في المناصب السياسية في عهد السادات، وألف دفاعا عن رئيسه الأثير كتابه "لمصر لا لعبد الناصر"، فكان كتابه لعبد الناصر أكثر مما هو لمصر كما يمكن أن يتبينه القارئ بنفسه.

كان هيكل في مرحلة مبارك جزء من الأصوات المعارضة التي لا يستريح إليها النظام كثيرا، ولا نبتعد كثيرا عن الحقيقة إن قلنا إن صوته كان جزء -صغيرا أو كبيرا- من المعارضة التي تصاعدت منذ التسعينيات في البيئة السياسية المصرية وكان لها دورها التراكمي في الانتفاضة الكبيرة التي أطاحت بمبارك

وقد ذهب الكاتب صلاح منتصر إلى "أن من أهم أسباب المكانة الخاصة التي اكتسبها هيكل لدى عبد الناصر، منذ أول سنوات الثورة، أنه كان يزود زعيم الثورة بقدر هائل من المعلومات التي تتجمع لديه من قراءاته الواسعة، والتي كان عبد الناصر -وهو لا يزال ضابطا حديث العهد بالحكم- في أشد الحاجة إليها. وهكذا بدأ هيكل بالعطاء، وفيما بعد سُدِّدت له هذه الديون أضعافا مضاعفة عن طريق فتح خزائن الأسرار كلها له" (نقلا عن: فؤاد زكريا: كم عمر الغضب؟ هيكل وأزمة العقل العربي ص 17).

ووقف هيكل من السادات موقفا يستحق التنويه حين قرر الرئيس إخراجه من الأهرام بسبب آرائه المعارضة لخطوات ما بعد حرب 1973، وعدم توظيف السادات للظرف التاريخي الذي أتاحته الحرب في صالح القضايا العربية.

وحاول السادات أن يزين موقف العزل بترشيح هيكل لبعض المناصب السياسية، لكن هيكل قال كلمته المعروفة: "إن الرئيس يملك أن يقرر إخراجي من الأهرام، وأما أين أذهب بعد ذلك، فقراري وحدي، وقراري هو أن أتفرغ لكتابة كتبي وفقط"! (لمصر لا لعبد الناصر ص 11).

إلا أن هيكل في تقييمه للسادات بعد وفاته لم يكن ذلك المحايد الموضوعي، فقد وصف تجربة الرجل السياسية بكل نقيصة، واعتبر انضمامه إلى الضباط الأحرار محاولة من عبد الناصر للاطلاع على ما كان يجري في القصر الملكي الذي كان السادات على علاقة قوية ببعض رجالاته، وأكد أن بقاء السادات إلى جانب عبد الناصر حتى النهاية راجع إلى طبيعته المداهنة التي تميل إلى العيش والبقاء في ظل الأقوياء، بل رأى هيكل أن السادات كان يعاني من عقدة نقص ترجع إلى الأصول الأفريقية لأمه التي حولها أبوه إلى خادمة عند بقية زوجاته وأولادهن!

ومع أنه لا أحد من المنصفين يؤمن بأن التجربة السياسية للسادات قد خلت من الأخطاء، والأخطاء القاتلة أحيانا، فإن انتزاع كل ميزة من الرجل على المستوى الشخصي وعلى مستوى القرار السياسي معا، ووصمه بكل نقيصة، ليس إلا عنصرية مقيتة تجاه شخص راحل لا يملك الدفاع عن نفسه، خاصة حين نرى في المقابل أن عبد الناصر قد وُصف بقلم هيكل ولسانه بكل الصفات الممتازة، ووصفت تجربته التي تجاورت فيها السلبيات الكارثية مع الإيجابيات بقول هيكل: "إن جمال عبد الناصر كان تجربة هائلة في حياة هذه الأمة العربية، وفي زماننا المعاصر كله" (لمصر لا لعبد الناصر ص 189).

وفي شهادة لأحد من عاصروا حكم السادات بوعي واضح يقول: "كل من عاش هذه الفترة وتابعها بوعي، ولم يفقد ذاكرته تحت وطأة الدعايات المتلاحقة التي تتخذ كل يوم موقفا مناقضا لليوم السابق، يعلم حق العلم أن هيكل كان جزءا لا يتجزأ من معظم الأخطاء التي يعيبها على السادات، وأن دوره قد بلغ ذروة التأثير في سنوات التكوين الأولى التي تشكلت فيها معالم السياسة الساداتية الجديدة، والتي يرجع إليها معظم التطورات اللاحقة" (كم عمر الغضب؟ ص 15).

هيكل وثورة يناير
وأما في عصر مبارك، فقد تفرغ هيكل للكتابة، وأنجز كثيرا من الأعمال الكبيرة مثل: حرب الثلاثين سنة بأجزائه، والمفاوضات السرية بين العرب وإسرائيل بأجزائه، وغيرها. وكان يبدي في مواقفه الفكرية كثيرا من الاعتراض على سياسة مبارك الخارجية التي لا تراعي العمق الإستراتيجي العربي والأفريقي، وتتخلى عن الدور الأصيل لمصر في محيطها العربي والإقليمي؛ خاصة في العلاقة بإسرائيل والموقف من تطورات القضية الفلسطينية، وبدا ذلك واضحا في أحاديثه المهمة لقناة الجزيرة.

ظهرت أشياء عديدة تدل على أن الكاتب الراحل كان يقف في صف الحلف المعادي للربيع العربي برمته، فانتقد السعودية بشدة عقب التغيير النسبي في موقفها تجاه الانقلاب المصري، وأثنى في المقابل على إيران وحزب الله، كما وجه نقدا لاذعا لشن التحالف العربي حربه في اليمن على ميليشيات الحوثي

كان هيكل في هذه المرحلة جزء من الأصوات المعارضة التي لا يستريح إليها النظام كثيرا، ولا نبتعد كثيرا عن الحقيقة إن قلنا إن صوته كان جزء -صغيرا أو كبيرا- من المعارضة التي تصاعدت منذ التسعينيات في البيئة السياسية المصرية وكان لها دورها التراكمي في الانتفاضة الكبيرة التي أطاحت بمبارك عام 2011.

انطلق هيكل عقب الثورة في مواويل المديح للشباب الذين صنعوا الواقع الجديد في مصر عقب الإطاحة بمبارك، ووصفهم بأنهم أجمل ما في مصر، وتجنب أن يثني على تيار وطني بعينه أو يذم آخر، واعتبر أنه إنجاز جيل بكامله.

لكن، لما تكشفت الأمور عن سهم وافر للإسلاميين في القيام بالثورة ونصيب كبير لهم من تأييد الشعب في كل انتخابات خاضوها بعدها، لم يعترف لهم هيكل -كما هو مسجل في أحاديثه للفضائيات- بشيء من الأحقية بالتواجد في الساحة السياسية المصرية، ولا المنافسة على إدارة الدولة. ومع أنه دعا مرة إلى إعطاء الإسلاميين فرصتهم في الحكم، فإنه في ذروة صراع الدولة العميقة مع الثورة سحب هذه الدعوة بزعم أنهم لم ينجحوا!

وفي العام الذي حكم فيه الرئيس المنتخب محمد مرسي بدا أن "الأستاذ" هيكل هو أحد الأصوات التي تولت مهمة الهدم الإعلامي للنظام وأنصاره عن طريق تصريحاته وأحاديثه الإعلامية التي يعب بها يوتيوب وغيره من مواقع الإنترنت، ودعم فيها الأساطير التي أشاعها صناع الانقلاب؛ مثل أن أميركا تريد رسم خريطة جديدة للمنطقة، وأن الإخوان أحد أطرافها، وأنهم حلفاء للأميركيين اليوم كما كانوا حلفاء للإنجليز بالأمس، وأنهم تصادموا مع كل العصور التي حكمت مصر وقتلوا، وأنهم شاركوا في ثورة 25 يناير متأخرين وكانوا فيها قلة قليلة استولت بعد ذلك على كامل السلطة، وأن مرسي لا يقبل النقد لأنه يستحضر في نفسه صورة الإمام الديني، وأن خطاباته المحرضة هي السبب في قتل بعض الشيعة في منطقة ريفية من محافظة الجيزة عام 2013.. إلخ!

بل فوق هذا ظهرت أشياء أكثر تدل على أن الكاتب الراحل كان يقف في صف الحلف المعادي للربيع العربي برمته، فانتقد السعودية بشدة عقب التغيير النسبي في موقفها تجاه الانقلاب المصري، وأثنى في المقابل على إيران وحزب الله، كما وجه نقدا لاذعا لشن التحالف العربي حربه في اليمن على ميليشيات الحوثي.

وأما المشاركة في الإعداد لانقلاب الثالث من يوليو/تموز عام 2013 في مصر الذي سعد به هيكل سعادة ضخمة كما تشهد حلقة تلفزيونية له سجلها في اليوم التالي للانقلاب، فالراجح هو أن الرجل قد قدم اقتراحاته الداعمة للعسكر أثناء اللقاءات التي عقدها مع السيسي وأعلن عنها بنفسه فيما بعد، ولم يكن – كما شاع – المهندس الذي خطط للحدث بكامله؛ فهو يمكن أن يقدم نصائح من خلال خبرته، ويقرأ الاحتمالات والمآلات، إلا أن الوسائل والآليات المطلوبة تعلم عنها الأجهزة المحلية والدولية التي رتبت الحدث أكثر منه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.