مؤتمر فتح السابع.. مقدمات ونهايات

فلسطين رام الله 29 نوفمبر 2016 حركة فتح تعقد مؤتمرها السابع لتنتخب قيادة جديدة.jpg

نهاية حركة تحرر وطني
تجليات صراع الإخوة
مسؤولية المقاومة

لم يكن لمؤتمر فتح السابع، الذي ختم أعماله الأحد الماضي 4 ديسمبر/كانون أول في المقاطعة مقر قيادة السلطة برام الله، أن يخرج بغير النتائج التي خرج بها وترتبت عليه، إن من حيث الشكل أو من حيث المضمون، لتأسيسه على اعتبارين مركزيين.

نهاية حركة تحرر وطني
الاعتبار الأول تكريس فتح حزبا للسلطة، يرتبط بها عضويا، ويعكس صورتها، ويستمد كينونته من الشروط الموضوعية لوجدوها، ويصوغ ذاته وفق مصالحها وضروراتها وإكراهاتها، والاعتبار الثاني حسم الصراع ذي الطابع الشخصي بين الرئيس محمود عباس ومحمد دحلان، وما يرتبط به من ضرورات لتجديد الشرعية، وتغذية السلطة بما يمنح محض وجودها شيئا من المعنى.

ولم يكن هذا التكريس إلا تأكيدا على حقيقة بدأت بالتبلور مع تشكيل السلطة الفلسطينية، واستيعاب كوادر فتح داخل الأرض المحتلة في أجهزتها، بينما عاد كوادرها من الخارج مفرغين على جهازها البيروقراطي بشكل طبيعي، إن على الشق المدني منه أو الشق العسكري، وقد ظلت فتح بعد ذلك متماهية مع السلطة، وكأنها مفردة أخرى تُعبر عن ذات المعنى الذي تُعبر عن السلطة، تماما كأي نظام رسمي عربي آخر.

لم تعد السلطة الفلسطينية مرحلة مؤقتة تنتهي بانتهاء الاتفاقية المرحلية والتي مضى على انتهائها أكثر من ستة عشر عاما، ومع الابتعاد الزماني عن مرحلة الكفاح، وامتزاج فتح بالسلطة ممارسة ومصالح وضرورات وجود، ووجود قيادة على رأس السلطة لا تؤمن بأي مقاومة جدية للاحتلال؛ جرى ترسيم الشكل الحالي لفتح

غير أن فتح حين قدوم السلطة كانت قريبة عهد بالنضال، فقد جاءت بالسلطة على رافعة الانتفاضة الفلسطينية الأولى، وعلى إرث الثورة الفلسطينية، ثم كانت رؤيتها السياسية مرتبطة بمشروع التسوية الذي حظي بدفع إقليمي ودولي ضخم، وقد أَدرج الوعي الفتحاوي مشروع التسوية في الحالة الكفاحية التي قادها، فلم ينفك عنها.

وذلك رغم ما تضمنه من تنازلات هائلة، وتحويله الكادر المناضل إلى كادر بيروقراطي يلتزم بتنفيذ الشروط الموضوعية التي أوجدت السلطة الفلسطينية، ولكن تماهي فتح مع السلطة حينها ارتبط بكون السلطة مرحلة مؤقتة في سياق نضال فتح على طريق إقامة الدولة الفلسطينية على حدود يونيو/حزيران 1967.

وكانت ثمة سمة أخرى ميزت فتح حينها، عنها الآن، رغم تماهيها مع السلطة منذ البداية؛ تجسدت في طبيعة القيادة، فحتى الدور المقاوم الذي نهضت به قطاعات من فتح في انتفاضة الأقصى لم يكن منفصلا عن دور السلطة الفلسطينية، التي اشتركت قطاعات من أجهزتها الأمنية والعسكرية حينها في الانتفاضة، وذلك لأن الأمر كله قد تعلق بشخص الرئيس ياسر عرفات في سياق الظرف الموضوعي المُبين في الحديث أعلاه.

فالتغير الحالي في الدور الفتحاوي والذي جرى ترسيمه في المؤتمر السادس الماضي، وتأكيده في المؤتمر الحالي، ناتج عن التحولات السياسية التي جعلت السلطة الفلسطينية غاية في ذاتها، وبما أن حركة فتح هي حزبها، وقد كفت عن تقديم ممارسة نضالية متقدمة وجاذبة، فإن شرط استمرارها وقدرتها على ربط الجماهير بها، قائم حصرا على علاقتها العضوية بالسلطة، وهي علاقة زبائنية تتعارض بالضرورة مع أي محاولة كفاحية تصطدم بالاحتلال.

لم تعد السلطة الفلسطينية مرحلة مؤقتة تنتهي بانتهاء الاتفاقية المرحلية والتي مضى على انتهائها أكثر من ستة عشر عاما، وبهذا لم تعد السلطة خطوة مؤقتة في سياق مشروع كفاحي، ومع الابتعاد الزماني عن مرحلة الكفاح، وامتزاج فتح بالسلطة ممارسة ومصالح وضرورات وجود، ووجود قيادة على رأس السلطة لا تؤمن بأي مقاومة جدية مع الاحتلال؛ جرى ترسيم الشكل الحالي لفتح.

فالخطوة الأولى في تحويل فتح من حركة تحرر وطني إلى نظام سياسي عربي إضافي، كانت مع تأسيس السلطة، ومن لحظتها ارتبطت أدوار فتح وسياساتها، بأدوار السلطة وسياساتها، فلما تحولت السلطة من خطوة مؤقتة في سياق مشروع كفاحي إلى غاية قائمة في ذاتها، تحولت فتح في كينونتها وأدوارها في الوقت نفسه وبالقدر نفسه.

من ناحية الشكل، كان كل شيء سلطويا، من مكان انعقاد المؤتمر في مقر قيادة السلطة، إلى تسخير أجهزة السلطة المدنية والأمنية لخدمة المؤتمر ورعايته، إلى فرض مظاهر الهيبة والقوة بنشر القوات العسكرية والشرطية للسلطة داخل مدينة رام الله وعلى مداخلها، إلى توظيف مؤسسات السلطة الإعلامية كلها منبرا لفتح ومؤتمرها.

وتداخل الشكل والمضمون السلطويان في حالة فصام عبرت عنها رقصات المؤتمرين على أهازيج الثورة الفلسطينية بالرغم من الخطاب السياسي المنبت تماما عن مرحلة تلك الأهازيج، فقد كان برنامج المؤتمر السياسي إعلان قطيعة فعلية عن مرحلة المقاومة والكفاح المسلح، وإعادة توظيف لحركة فتح لتمنح السلطة شرعية اجترار سياساتها التفاوضية في عملية تبرير لاستمرار الأمر الواقع على ما هو عليه.

والحاصل أن المؤتمر السابع لم يبتدع تحويل فتح إلى حزب للسلطة، فهي قد صارت كذلك فعلا منذ تأسيس السلطة، ولكنه أعلن انتهاء مهمتها حركة للتحرر الوطني، وصيرورتَها نظاما رسميا عربيا لا يمكن فصله عن بنية السلطة القائمة بما أنها قد صارت كيانا دائما وغير متصل بالمواجهة مع الاحتلال، وإنما يستمد أساس استمراره ووظيفته من شرط الاحتلال.

تجليات صراع الإخوة
من جهة الاعتبار الثاني الذي تأسس عليه المؤتمر، أي توظيف المؤتمر لحسم الصراع مع العضو السابق محمد دحلان، فقد كان المؤتمر خطوة ضرورية لقطع الطريق على ضغوطات بعض الدول العربية التي أرادت فرض مصالحة دحلان على الرئيس عباس، والمؤتمر هو الخطوة الأكبر في هذا الاتجاه، بما هو أعلى الهيئات التي تتشكل منها الهياكل القيادية، وتنبثق عنها البرامج السياسية.

صحيح أن المؤتمر هو مؤتمر القيادة التي أشرفت على فحص عضويته، وعينت القسم الأكبر منه، وأدارته في مقر قيادتها، وباستخدام أدوات السلطة، وتحققت من نتائجه، وقد أعاد المؤتمر المُعين من قبلها انتخابها على نحو احتفالي في مفتتحه دون أي مراجعة لسياساتها وإدارتها، وتبنى برنامجها بالكامل، إلا أنه في النهاية مؤسسة تنظيمية شرعية، تظل مسألة الشفافية فيها مسألة تخص فتح وحدها.

ولا يمكن لأحد في هذه الحالة من جهة الشرعية إلا التعامل مع المؤتمر السابع الذي نظمته اللجنة المركزية التي كان دحلان عضوا فيها والتي انبثقت عن المؤتمر السادس الذي سبقه، والذي كان دحلان أحد عرابيه، وهذا يُفسر تعامل حركات المقاومة مع هذا المؤتمر بما هو امتداد طبيعي لنتائج المؤتمر السادس الذي سبقه.

وفي هذا الاعتبار أيضا، حقق خصوم دحلان، وفي طليعتهم اللواء جبريل الرجوب، مكاسب كبرى جعلتهم أكبر المستفيدين منه، الأمر الذي يكشف من ناحية استفادة مراكز القوى من خلاف الرئيس عباس مع دحلان، كما يكشف من ناحية أخرى سيولة حركة القوة داخل فتح صعودا وهبوطا، ويمكن ملاحظة تحولات القوة والضعف في فتح في صورة درامية بمشاهدة الصراع بين اللواءين الرجوب ودحلان منذ العام 2002 وحتى اللحظة.

من غير المتوقع أن يُسَلم دحلان بإقصائه نهائيا بهذه الخطوة الكبيرة التي قادها الرئيس عباس، وإذا كانت فكرة تأسيس جسم مواز مستبعدة فيما مضى، فإنها لم تعد مستبعدة الآن، ولاسيما بعدما دعت إليها شخصيات كبيرة في مجموعة دحلان، ولكن الأمر برمته يظل مرهونا بموقف الإقليم من نتائج المؤتمر السابع

لم يكن دحلان بعيدا عن المؤتمر، فقد شن كبار "محازبيه" حملة على المؤتمر، عبر مواقع التواصل الاجتماعي، ومنابر تبث من دول عربية داعمة لدحلان، ما يدل على أن الأمر لم يسو بعد تماما بين تلك الدول والرئيس عباس، كما حاولت مجموعة دحلان التشويش على المؤتمر بعدد من التسريبات والأخبار، والتي لم تؤثر في النهاية على سير المؤتمر أو على نتائجه.

من غير المتوقع أن يُسَلم دحلان بإقصائه نهائيا بهذه الخطوة الكبيرة التي قادها الرئيس عباس، وإذا كانت فكرة تأسيس جسم مواز مستبعدة فيما مضى، اعتبارا بكل تجارب الانشقاق الفاشلة في فتح، فإنها لم تعد مستبعدة الآن، ولاسيما بعدما دعت إليها شخصيات كبيرة في مجموعة دحلان، ولكن الأمر برمته يظل مرهونا بموقف الإقليم من نتائج المؤتمر السابع.

مسؤولية المقاومة
بالنسبة للاحتلال، فإنه لم يكن ليمنع مؤتمرا يقطع مع الموروث الكفاحي لفتح، ويعزز تحول الأخيرة إلى نظام رسمي، ويهمش القدس وغزة والشتات الفلسطيني، ويكرس برنامجا سياسيا فاقد لأي معنى سوى الحفاظ على الأمر القائم، وإذا كانت الخصومة بين طرفي الخلاف الفتحاوي شخصية لا سياسية، فإن الاحتلال لن يكون معنيا على الأقل في هذه الفترة، بدعم الطرف الخاسر، وإن كان قد يُستخدم لأغراض الابتزاز وفرض التنازلات.

وطنيا، يأتي خطاب الرئيس عباس وبرنامجه الذي أقره المؤتمر، نقيضا لمشروع فصائل المقاومة، ولمبادرة الدكتور شلح، وبما يُعظم من المسافة البرامجية بين الطرفين، ومن غير المستبعد أن يعود التيار المنتصر في هذا المؤتمر إلى فكرة توظيف المجلس الوطني، كما وظف من قبل المحكمة الدستورية التي أسست بمرسوم رئاسي لاصطناع الشرعيات، وفرض البرامج، وترتيب المشهد السلطوي على صعيد المنظمة والسلطة.

إن ذلك كله يلقي بظلال كثيفة على فصائل المقاومة المكبلة بالعداء الإقليمي وبعجز الحلفاء، وبحساباتها الخاصة، فهي تفتقر إلى القدرة على المبادرة، بالنظر إلى ممكناتها بما هي حركات مقاومة تدفع ثمن مقاومتها، قياسا إلى ممكنات حركة تحرر وطني بموروث كفاحي وقد انتهت إلى نظام رسمي لسلطة واقعة تحت الاحتلال.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.