التقوى الوجدانية.. إعادة تعريف العلمانية

مليونية تطبيق الشريعة في ميدان التحرير 9 نوفمبر 2012

عاشت مساحة الفكر الإسلامي المعاصر حالة انقطاع حادة ومواجهة شرسة مع فهم المنهج الثقافي العلماني وتناوله فكريا بعمق، وليس عبر نماذج صُنعت لمواجهته كأداة استبدادية أو صراع مع الفرقاء الإسلاميين في أجواء مشحونة لا تخلو من التداخل الأمني، أو الكيد غير الأخلاقي بين الطرفين.

ثم توسّع التفكير بالمنهج والمسلك بعد إعلان حزب العدالة ذي التوجه الإسلامي التركي، تبنيه لمفهوم جديد للعلمانية خاض عبره تجربته السياسية التي كسبت دعما كبيرا، وتأييدا منقطع النظير في صفوف الإسلاميين.

وقبل أن نغادر هذه النقطة، يجدر بنا أن نؤكد على أن المعنى هنا تناول المركز الفكري في تجربة حزب العدالة من عهد التأسيس لعبد الله غل وأردوغان ورفاقهم، وليس تقييم كامل التجربة التي تتجدد تحدياتها الإقليمية والداخلية اليوم، بعد فشل الانقلاب ومواجهة كامل الحركة الشعبية المدنية له، وبالذات من خلال العهد الأخير الذي اعتمده حزب العدالة في تفعيل الجانب الأمني مع الحياة السياسية، وتقليص مساحة الحريات والديمقراطية، وهو ما يبرره بضرورة تأمين خيار الشعب، بينما تخالفه أحزاب المعارضة وبعض مسارات الفكر الإصلاحي.

ساهمت تجربة حزب العدالة الأولى (ما قبل الانتخابات الأخيرة) في إعادة طرح الأسئلة حول العلمانية ما هي، ومن هم العلمانيون، وهل العلمانية مضادة للإسلام ومقتضياته الفكرية، وهل هي قواعد أيديولوجية للفكر الغربي، وماذا عن الفكر اليساري وعلمانيته، وماذا يعني فصل الدين عن الحياة؟

ولكن عهد الإسلاميين مع العلمانية لم يبدأ بالتجربة التركية، وإنما كان هناك فضاء من التواصل الإنساني والوطني مع الفكرة ومفهوم شراكة الإسلاميين فيها، منذ مطلع القرن العشرين، فضلا عن بعض التناول النهضوي المشترك الذي لم يكن يكترث بإضفاء المصطلح وتكلّفُه، وتعميمه على كل حوار إنساني فكري في المحيط العربي، يبحث عن مسار النهضة والتقدم للمسلم المعاصر.

وإنما كانت مساحة التعاطي القديمة على قلتها، تتحاور مع الفكرة، لا مع تفويج الصراع مع المصطلح ومنابذة حامله عليه، وهو ما هيمن مؤخرا على جدلية الساحة الإسلامية المعاصرة، حتى خُيّل للبعض أن كل مالا يفقهه من مقاصد الشريعة، هو آراء علمانية ومؤامرات غربية، حتى وإن كانت ميول العالم أو المثقف الذي يطرحها إسلامية في مقصدها الواسع.

ساهمت تجربة حزب العدالة الأولى -التي يمكن أن نعتبر أنها استمرت حتى انتخابات الرئاسة الأخيرة- في إعادة أسئلة الفكرة، ماهي العلمانية ومن هم العلمانيون، وهل العلمانية مضادة للإسلام ومقتضياته الفكرية، وهل هي قواعد أيديولوجية للفكر الغربي، وماذا عن الفكر اليساري وعلمانيته، وماذا يعني فصل الدين عن الحياة، هل هو فصل تشريعي مطلق، أم فصل تقنيني بمقتضيات الشريعة، أي أن الشريعة لا تجعل الهوية الدينية فاصلا بين العدل والظلم، ولا تجعل مناسكها شعيرة للحياة الدنيوية لكل فرد، وإن تعبّد بها من يشاء، نية لا سلوكا تفصيليا، فيما لا نص فيه.

وماذا تعني مساحة الخيار في التشريع، ومفاهيم ما يُصلح الرعية المسؤولة، والشعب المحترم في وطنه، في تقنينات الدستور وأحكام القانون، فيما تركه الشارع رحمة بالناس، وضمانا لتجديد مواثيقهم القانونية وحياتهم الدستورية، وهل كل ما يُفضي إلى ذلك من اجتهاد عدلي أو إقرار دستوري قضائي، يعني أنه علمانية مصادمة للشريعة، أم علمية قانونية تُصلح شؤون الحياة دون مصادمة الشارع، أو الافتئات بإسقاط الشريعة أو ذمها، في النص القانوني.

لا يمكن أبدا تحرير كل مثل هذه المسائل في مقالة ولا ندوة محدودة، وإنما المقصود أن هناك مساحة كبرى مما أضيف للفكر العلماني، هو مجهود نهضة بشرية، مطلوب من المسلم تحصيله، بقواعد الحكمة المفضية للعدالة الاجتماعية، والإحسان للأسرة البشرية المشتركة معه، آمنت بالدين أو لم تؤمن.

تبدو الفكرة هنا جزء من أساسيات التنظير الفكري العميق للعلّامة ابن خلدون الذي أكّب الغرب على علمه، لكنه مارس نوعا من التسلط على النص والوصاية عليه، بفصل النص الخلدوني، عن جذور الفكر الإسلامي المقاصدي، لنزعة تأويل شرسة لدى غالب الحركة الثقافية الغربية التي حددت مفهوم العلمانية رغبويا، وجردت أي منحى علمي مفيد من جذور الرؤية الكونية التوحيدية، بين الدين كشريعة مقاصد، وبين الكون كمسار فهم وتأويل، أسس عبره الإمام ابن خلدون بوابة علم الاجتماع الكبير.

ولقد اعتنى بتفنيد هذه المسألة الباحث الجزائري صالح بن طاهر مشوش، في كتابه علم العمران الخلدوني، وإشكالية علماء الاجتماع الغربيين مع أصول الفكرة الإسلامية لابن خلدون، وهو القاضي والفقيه المالكي.

ومأزق محاولة نزع جذور الأصل المقاصدي من فكر ابن خلدون، يتوافق كثيرا مع فكرة إدوارد السعيد، عن الرؤية الكوليانية أي الاستعمار الثقافي في كتابات المستشرقين الغربيين، مع تأكيدنا أن هذه الظاهرة، لا تُلغي أبدا أحقية جهود منصفة، وعميقة للبعض الآخر، من أساتذة الاستشراق في الفكر الغربي.

لكن إدوارد سعيد استخدم مصطلحا، من المهم للغاية أن يُعاد طرحه وشرحه وإنتاجه كمسار يفصل عطاء وفكر النهضة، عن النزعة الذاتية للاستعمار الثقافي المنغمسة في عقيدة التفوق الغربي المطلق، دون معيار صحيح ودقيق يبرر هذا التفوق، وهو ما أطلق عليه سعيد "التقوى الوجدانية".

إن التقوى الوجدانية في خطاب إدوارد سعيد هي ذلك العطاء والتحليل الفكري المنطلق من أنسنه مجردة، أو تحاول أن تتجرد لصالح مشتركات البشرية وقيمها الأخلاقية، فتقف معها بإنصاف، وتشرح مبادئ وتاريخ وعطاء الشرق الاجتماعي الثقافي بناء عليها

إن التقوى الوجدانية في خطاب إدوارد سعيد هي ذلك العطاء والتحليل الفكري المنطلق من أنسنه مجردة، أو تحاول أن تتجرد لصالح مشتركات البشرية وقيمها الأخلاقية، فتقف معها بإنصاف، وتشرح مبادئ وتاريخ وعطاء الشرق الاجتماعي الثقافي بناء عليها، وهي نزعة أخلاق فلسفية، من يتدثر بها يرتفع على القوميات، ومن ثم يحرر مسألة النهضة بعالمية توحيدية.

من الصعب أن نُطبّق هذا المعيار على المنتج الفكري للغرب أو الشرق، فنزعة الإنسان القومية والدينية تؤثر كثيرا، كما أن مؤسسات الرعاية المادية الموجهة سياسيا تُفسد كثيرا من استقلال المثقف، وقليلٌ منهم، من يَعبُر بصعوبة إلى مساحته الحرة، مستفيدا من هذا التقاطع، ولعلي أُضيف هنا أمرا آخر، ولا أزعم حصري لنماذج بحثية فيه، لكنه ظاهرٌ في بعض نماذج الخطاب الفلسفي، والتحرير الاجتماعي السياسي.

إن التقوى الوجدانية تبدو متحركة وفاعلة في نفس المفكر، مع مجمل الإيمان بالله الخالق، حتى ولو كانت دون دين محدّد، فهو في مرحلة طمأنينة وقناعة في فهم المعادلة الإنسانية الكونية، وفي تراض موضوعي مع دلالات الحياة، وهذا لا يُناقضه وجود جرائم تاريخية لمتدينين منحرفين من أديان متعددة، فالله العدل غاب عن وجدانهم، في حين أشرق في ذات المفكر العلماني المؤمن به، فتوازَنَ في حياته أخلاقيا، وفي منظومته الفكرية، بينما يؤدي الإلحاد المطلق غالبا إلى نهاية عبثية، بانتحار أو فوضى فكرية أو سلوك شاذ، لفقدان هذه التقوى الوجدانية.

إن مصطلح العلمانية الجزئية التي ذكرها المفكر الكبير د. المسيري رحمه الله، لم تُتح لها الفرصة للفهم والتشريح، بسبب الخلل الذي يسبقها، من فهم ذات المصطلح العلماني في الوعي الإسلامي المعاصر، الذي لا يُفرّق بين علمانية جورج بوش وعلمانية مارتن لوثر كينغ، وبين علمانية القذافي وعلمانية إدوارد سعيد.

وبالتالي لن يكون ممكنا فهم الخلاف الفكري الجذري في المقاصد الإسلامية، للعلمانية الجزئية في الحياة الاجتماعية، وهو ما يستدعي الدعوة لتدشين مسار تفكير جديد لتحالف فلسفي فكري فوق التيارات، يعيد تعريف العلمانية من جديد، وفرزها من العلمانية الاستئصالية إلى علمانية التقوى الوجدانية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.