ترامب.. معانيه الأميركية وتداعياته الشرق أوسطية

دونالد تـرامــب والشرق الأوسط

أميركا في مواجهة أميركا
حدود التغيير الأميركي داخليا
في احتمالات السياسة الخارجية
التغيير حصل قبل ترامب

يأتي فوز دونالد ترامب في الانتخابات الأميركية، مع خطابه العنصري والأهوج، ضد المرأة والأقليات والملونين والمسلمين واللاجئين، لتكتمل فضيحة هذا العالم الذي يسود فيه الفساد والتعصب والغطرسة القومية والليبرالية المتوحشة.

هذا الكلام لا يتضمن نوعا من مراهنة على هيلاري كلينتون لسبب بسيط مفاده أن السياسة الخارجية الأميركية لا يقررها الرئيس لوحده وإنما مجمع صناع القرار في الولايات المتحدة، في البنتاغون والخارجية ومراكز الأبحاث والشركات وجماعات الضغط والكونغرس.

أميركا في مواجهة أميركا
على أية حال ما حدث بمثابة انقلاب سياسي، أو مفاجأة كبيرة من خارج التوقعات، عبر من خلاله أغلبية الأميركيين عن توقهم للتغيير، وعن ضيقهم وإحباطهم من النظام السائد، أو من المؤسسة الحاكمة، باعتبار أن الرئيس المنتخب من خارج طبقتها أو نخبتها السياسية.

بيد أن هذا الانقلاب يكشف أيضا عن الفجوات في مجتمع الأميركيين بين الذين تحت والذين فوق، بين الأغلبية والنخبة، بين أميركا الفقيرة والفوضوية والمتعصبة وأميركا الغنية والمخططة والمنفتحة، هذا على الرغم من أن ترامب من فوق ومن النخبة المالية، إلا أنه استطاع مخاطبة مشاعر الذين تحت وإثارة حنقهم وغضبهم ونزوعهم للتمرد على النظام السائد.

انتخاب ترامب كان  بمثابة انقلاب سياسي، أو مفاجأة كبيرة من خارج التوقعات، عبر من خلالها أغلبية الأميركيين عن توقهم للتغيير، وعن ضيقهم وإحباطهم من النظام السائد، أو من المؤسسة الحاكمة، باعتبار أن الرئيس المنتخب من خارج طبقتها أو نخبتها السياسية

من ناحية أخرى فقد كشف انتخاب ترامب عيوب النظام الديمقراطي الأميركي، فعلى رغم قوة هذا النظام المتأسس على المواطنة المتساوية، والحرية الفردية، واحترام الاستقلالية، وحرية الرأي والتعبير، والقائم أيضا على الدولة الفدرالية (نقيض الدولة المركزية)، والفصل بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية؛ فإن ما يفترض الانتباه إليه أيضا هو أن هذا النظام يتضمن نقاط ضعف كبيرة، ناجمة عن:

أولا، طريقة التصويت، حيث لا ينتخب الأميركيون رئيسهم بشكل مباشر. ثانيا، تحكم قطاعات الشركات والإعلام والخدمات بصياغة الرأي العام، وتوجيه أمزجة الناخبين. ثالثا، اعتماد نظام الحزبين الكبيرين وهذا يحد من التنافس ويضعف المشاركة السياسية. رابعا، فترة عضوية مجلس النواب (435) هي سنتين بينما فترة عضوية مجلس الشيوخ (100) هي ستة أعوام، وهذا يضعف استقرار الهيئة الشرعية (الكونغرس). خامسا، وأخيرا فإن عيوب النظام الديمقراطي هي ذاتها عيوب النظام الديمقراطي الأميركي الذي تتحكم فيه وسائل السيطرة والهيمنة المالية والإعلامية والحزبية.

ومعلوم أن كثيرا من المفكرين الأميركيين انتقدوا طريقة عمل النظام السياسي الأميركي باعتباره بات متقادما ومستهلكا، وينبغي تجاوزه، أو إدخال تعديلات عليه؛ فقد سبق مثلا أن حذر المؤرخ السياسي بول كندي، وقبل عقدين، في كتابه: "صعود وهبوط القوى العظمى"، من احتمال تراجع مكانة الولايات المتحدة بسبب الثغرات في نظامها السياسي وفي نظامها التعليمي، وبسبب الفجوات في مجتمعها.

حدود التغيير الأميركي داخليا
رغم كل الاعتبارات السابقة فإنه لا ينبغي الاستنتاج من ذلك أن انتخاب ترامب سيغير كثيرا من طبيعة النظام الأميركي فنحن إزاء دولة تديرها الشركات الكبرى، وهذه موازناتها بحجم موازنات دول متوسطة الحال، مع أننا لا نتحدث عن شركات أهلية (عائلية)، إذ هي بمثابة مؤسسات بمعنى الكلمة، أي تشتغل وفق قواعد الانتاج والربحية والأهلية والكفاءة وإتاحة الفرص في الوقت ذاته، وأي تغيير في السياسة الداخلية سيواجه من قبل ما يمكن تسميته بـ"المؤسسة"، أو بحسب تعبيراتنا "الدولة العميقة"، وهذه تتألف من الطبقة السياسية في الكونغرس ومراكز الأبحاث وقوى الضغط. كما يجب أن لا ننسى أننا إزاء دولة فيدرالية وهذا أيضا يحد من سلطة الرئيس، أو من قدرته كفرد على فرض إرادته على الآخرين، إذ لكل ولاية حاكمها ونظامها الخاص.

على الصعيد الخارجي سيحدث ذات الأمر، بل إن التغيير السياسي هنا يغدو أكثر صعوبة، سيما إذا علمنا أن الرئيس في هذا المجال بالذات أقل قدرة على فرض رأيه، بالقياس للشؤون الداخلية، فهنا سيكون للدولة العميقة رأيها أولا وأخيرا، وهذه تشمل البنتاغون والخارجية، والشركات الكبرى وجماعات الضغط. وقد شهدنا مثلا أن الرؤساء السابقين من مثل جيمي كارتر وجورج بوش (الأب) وبيل كلينتون والحالي باراك أوباما لم يستطيعوا فعل شيء إزاء إسرائيل، ولا حتى تحريك ورقة من محلها، وكل ما استطاعه كلينتون هو عقد اتفاق أوسلو (1993) الذي كان مجرد فخ للفلسطينيين، حيث لم تنفذ إسرائيل حتى الآن الاستحقاقات المطلوبة منها.

في هذا السياق ربما من المفيد التذكير أن الناخب الأميركي يهتم تحديدا بالشؤون الداخلية، التي تهم معاشه ونمط حياته، أي الصحة والتعليم والتوظيف والضرائب، ولا تهمه الشؤون الخارجية إلا بقدر ما تمس أمنه ودخله واستقراره الاقتصادي والاجتماعي، خاصة أننا نتحدث عن بلد كبير تفصله عن مناطق الحروب والتوتر في آسيا وأفريقيا وأوروبا محيطات، أي أن الرئيس أو الطبقة الحاكمة متحررة من الاعتبارات الداخلية في تحديد سياساتها الخارجية (خاصة بعد الاكتشافات النفطية فيها)، بمعنى أنها تستطيع صوغ السياسة التي تتناسب مع رؤيتها لكيفية الحفاظ على مكانة الولايات المتحدة كقطب مهيمن في العالم.

في احتمالات السياسة الخارجية
سيواجه الرئيس الأميركي الجديد دونالد ترامب في سياسته الخارجية العديد من الملفات، ما يهمنا منها الموقف من القضية الفلسطينية والصراع السوري، وصعود النفوذ الإيراني في الشرق الأوسط، والتدخل الروسي العسكري في سوريا، وطبيعة العلاقة مع الدول الخليجية أو النفطية.

موقف دونالد ترامب من القضية الفلسطينية لن يتغير، بل قد يزداد سوءا، لاسيما مع تراجع مكانة القضية الفلسطينية في الأجندة الدولية والإقليمية والمحلية، ومع وجود نوع من الانسجام هذه المرة بين الحكومة الإسرائيلية بقيادة بنيامين نتنياهو والإدارة الأميركية برئاسة دونالد ترامب

في هذا الإطار، وبغض النظر عن الشعارات أو الخطابات التي تشدق بها الرئيس الفائز إبان حملته الانتخابية، إلا أنه من المرجح أن يستمر في السياسة المتبعة من عهد سلفه في البيت الأبيض في الملفات المذكورة، لأن تصميم هذه السياسات لم يأت من الرئيس أوباما وحده، وإنما من "المؤسسة" (الدولة العميقة)، وفقط في حينه فقد كان موقف الرئيس ينسجم مع موقف تلك المؤسسة ولا يتعارض معه، بما يعنيه ذلك من أن اتخاذ الرئيس الجديد أية سياسة مغايرة سيجعله في مواجهة المؤسسة، وهذا لن يكون في مقدوره، سيما مع وجود سلطة الكونغرس.

القصد هنا أن موقف دونالد ترامب من القضية الفلسطينية لن يتغير، بل قد يزداد سوءا، لاسيما مع تراجع مكانة القضية الفلسطينية في الأجندة الدولية والإقليمية والمحلية، ومع وجود نوع من الانسجام هذه المرة بين الحكومة الإسرائيلية بقيادة بنيامين نتنياهو والإدارة الأميركية برئاسة دونالد ترامب، ويستنتج من ذلك أن الوضع بالنسبة للفلسطينيين لن يكون مريحا البتة، ولا على أي صعيد، وأن إسرائيل في الغضون ستعزز مكانتها وعلاقتها مع الإدارة الجديدة، سياسيا واقتصادية وعسكريا.

أما فيما يخص الصراع السوري، فعلى الأرجح أن السياسة الأميركية المتبعة والقائمة على الاستثمار في هذا الصراع من خلال الحفاظ على ديمومته، والقائم على صيغة لا غالب ولا مغلوب، لا رابح ولا خاسر، لا النظام ولا المعارضة، كما من خلال وضع الأطراف المتصارعة، أي روسيا وإيران وتركيا والسعودية وغيرها في مواجهة بعضها، بغرض استنزافها وإنهاكها، ستبقى قائمة إلى حين استنفاذ هذه الإستراتيجية لأغراضها.

وقد شهدنا أن إدارة أوباما اتبعت هذه السياسة عن سابق تصميم غير مبالية بمعاناة السوريين، وعذاباتهم، سيما أنها استدرجت أو شجعت كل الدول التي تناكفها على الانخراط في الصراع السوري، والتصارع مع بعضها، في حين ظلت هي تتفرج غير مبالية، بل لم تبد أي استعداد لمقايضة روسيا بوتين، التي تضغط في سوريا توخيا منها لدفع الإدارة الأميركية للتراجع عن الضغوط التي تبذلها ضدها في قضايا أوكرانيا والدرع الصاروخي وأسعار النفط ورفع الحظر التكنولوجي.

القصد من ذلك أن أي تغيير في السياسة الأميركية، في شأن الصراع السوري، سيسير وفقا لهذا المعادلة، أو وفقا لهذا الاستثمار، الذي يراد منه أيضا أن يحفظ أمن إسرائيل لعقود. وهذا يفيد بأن أي تغيير إذا حصل كان سيحصل سواء مع ترامب أو مع كلينتون، وفقط مع استنفاذ هذه المعادلة، أي في اللحظة التي تقتنع فيها "المؤسسة" بأن الوضع نضج للتغيير والحسم سياسيا أو عسكريا، لفرض التسوية السورية التي تناسب تصوراتها، وهذا ما تدركه كل الأطراف، وهذا هو سر الضغط الروسي الدائم على الولايات المتحدة للتدخل والتعاون معها.

التغيير حصل قبل ترامب
ربما يجدر بنا هنا لفت الانتباه إلى أن التغيير في السياسات الخارجية التقليدية للولايات المتحدة حصل من قبل ومنذ مطلع التسعينيات، بنتيجة مؤثرات كبرى ضمنها انهيار الاتحاد السوفييتي السابق، وانتهاء عالم القطبين، ودخول عصر العولمة، والتحول نحو الهيمنة بواسطة "القوة الناعمة"، أي عبر الوسائل الاقتصادية وبالتجارة وامتلاك التفوق في العلوم والتكنولوجيا ووسائل الإعلام والبنوك والمؤسسات الدولية.

فيما يخص الصراع السوري، فعلى الأرجح أن السياسة الأميركية القائمة على الاستثمار في هذا الصراع من خلال الحفاظ على ديمومته، وعلى صيغة لا غالب ولا مغلوب، لا رابح ولا خاسر، مع استنزاف جميع الأطراف ستستمر حتى تحقيق أهدافها

فمنذ تلك الفترة لم يعد ثمة تهديدات إستراتيجية تقلق الولايات المتحدة في أي منطقة في العالم، وباتت تعتمد على تفوقها في المباراة الاقتصادية والتكنولوجية والعلمية، وسيطرتها على العمليات المالية والتجارية، وهو ما ميز إدارة كلينتون (1993ـ2001). ولعل هذا التغير دفع الولايات المتحدة للتخلي عن أحد ركائز سياستها التقليدية المتعلقة بالحيلول دون تمكين أي قوة منافسة من السيطرة على منطقة الشرق الأوسط، إذ لم يعد ثمة دولة تنافسها، بمعنى الكلمة، كما أن تطورات العولمة، والفجوة الكبيرة بينها وبين العالم في مجالي العلوم والتكنولوجيا، قللا من فاعلية أية منافسة، أو جعلها شكلية.

بيد أن هذه السياسة خضعت لتغييرات كبيرة في ظل إدارة الرئيس السابق بوش الابن، مع صعود تيار "المحافظين الجدد"، الذين رأوا أنه يفترض تجيير قوة الولايات المتحدة لفرض إملاءاتها في العالم ولاسيما في الشرق الأوسط، وهو ما تم تبريره بالهجوم الإرهابي على نيويورك وواشنطن (2001)، ما نجم عنه تبني هذه الإدارة لعقيدة "الحرب الوقائية"، وقيامها بغزو أفغانستان (2002) ثم العراق (2003). ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد إذ أن إدارة بوش أطاحت بركيزة أخرى، متعلقة بالحفاظ على استقرار الدول الصديقة، بطرحها مشاريع "نشر الديمقراطية" و"الإصلاح السياسي" في البلدان العربية و"الشرق الأوسط الكبير" (2002).

تفاقم هذا الأمر مع مجيء إدارة الرئيس باراك أوباما التي انتهجت سياسة مفادها أن على العالم، وضمنه العالم العربي، أن يتحمل مسؤولياته في السياسة والاقتصاد والأمن، وأن الولايات المتحدة لا ينبغي أن تتحمل هذه المسؤولية لوحدها، ولا أن تدفع الأثمان لوحدها، مع الاحتفاظ بحقها في إدارة العمليات السياسية من الخلف، وقد عبر توماس فريدمان عن السياسة التي ينتهجها أوباما، في مقالة بصحيفة نيويورك تايمز (24/6/2014) تحدث فيها عن ضرورة قيام العرب بما ينبغي عليهم القيام به، وبأيديهم.
بل إن إدارة أوباما أضحت تشتغل بطريقة أكثر ارتياحا مع الركيزتين التقليديتين الأخيرتين، أي المتعلقة بأمن النفط من المنابع إلى الممرات، والمتعلقة بالحفاظ على أمن إسرائيل وتفوقها.

ففيما يتعلق بالأولى فإن الاكتشافات النفطية الهائلة في الولايات المتحدة جعلت الإدارة الأميركية متحررة من نفط الشرق الأوسط، أو غير مرتهنة له، من دون أن يعني ذلك تخليها عن مسؤولياتها إزاء أصدقائها، أو عن هذه الورقة التي تعزز مكانتها كقوة دولية في العالم.

أما فيما يتعلق بالثانية فإن السياسة التي انتهجتها إدارة أوباما قوضت مفهوم العلاقة المبدئية مع إسرائيل، إذ أن هذه لم تعد بمثابة قدس الأقداس، وباتت مجالا للأخذ والرد، مع أن ذلك لم يصل إلى حد التخلي عن دعم هذه الدولة والحفاظ على أمنها، أو حد الضغط عليها لفرض إملاءات سياسية لا تريدها أو لا تناسبها.

جاء ترامب أو غير ترامب فهذه هي الولايات المتحدة بما لها وما عليها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.