حطام الشرق والإعلان العالمي لإدوارد سعيد

Palestinian-born intellectual Edward W. Said-إدوارد سعيد ـــــــــ فلسطين

إن ربط المصير السياسي والإنساني وآثار الحروب بفكر المعرفة الموجهة، ومقدمات الفهم للأطراف المختلفة التي ساهمت في الوصول إلى هذه النتائج، يمثل لحظة من أهم منعطفات الوعي العالمي لمسارات التأسيس الثقافي.

ويتعلق الأمر خاصة بتقييم الفكر المهيمن على الأمم، ومدى مصداقية شروطه وعقوده الحقوقية وميثاقه الأخلاقي، وهو هنا بطبيعة المشهد ودلائله المشهورة، مؤسسة التفكير الغربي، ودراساته خاصة من مطلع القرن العشرين، والتي اتخذت إعلان الاستشراق الغربي طبيعة لفهمه التنظيري، ثم مساحة تأسيس الموقف السياسي بناء عليه نسبيا، أو كليا.

وهذه المراجعة النقدية لجذور سلطة المعرفة، عبر الإعلان العالمي الذي اشتغل به إدوارد سعيد، قبل أن يعيش هذه اللحظة التي نبصرها اليوم، في احتمالية سقوط كامل الشرق، في سلسلة حروب أخرى، أو كارثة كبرى لا حدود للدم والكراهية فيها، ويبقى السؤال مفتوحا للمؤيدين والمحتجين على إدوارد سعيد.
أين تقف مسؤولية الاستشراق، عن مآلات النتائج الكارثية للشرق، ولماذا تُحمل المسؤولية لهذا الاستشراق ولم نقل هنا الإعلام الغربي، لكون دلائل تسييسه جلية واضحة. وإنما الإشكال الذي فككه د. سعيد، هو أين يقع استقلال المعرفة، في جمهورية هذا الاستشراق؟

وتبدو مسافة تناول خطابه في واقع اليوم مهمة جدا للباحثين، ولعل الكتاب الحديث (إدوارد سعيد من تفكيك المركزية الغربية إلى فضاء الهجنة والاختلاف) وهو جمع لعدد من الدراسات المتخصصة من طرف الباحث المغربي محمد الجرطي، أحد أهم هذه المصادر التي جمعت شرحا موضوعيا لتوجهات إدوارد سعيد الفكرية، وتدليلاته على سقوط الاستقلال المعرفي، في حركة الاستشراق، وتضمن الكتاب بحثا نقديا عنيفا ضده للدكتورة رابعة عبد الكافي اتهمته بالانغماس الأيديولوجي، واستغلال الأصولية الإسلامية له، والتعميم غير الصحيح على الاستشراق.

رغم أن إدوارد سعيد كتب ونُقل عنه ما يكفي لنبذ هذه التهمة، واحترامه المادة المعرفية المستقلة للغرب، إضافة لجوانب النجاح في المهنية الأكاديمية التي شملت عددا من المؤسسات في الغرب، وكان منها جامعة كولمبيا التي تضامنت معه ضد حملات الاستهداف التي حركتها الحركة الصهيونية ضده، لكفاحه الفكري والفلسفي لصالح فلسطين، وهذه التدليلات موجودة في الكتاب المشار اليه، ومنها دراسة الباحث توماس بريسون، كما أن دراسة سونيا دايان هرزبرون يمكن أن تكون مقالة رد على هجوم رابعة عبد الكافي.

من المهم هنا أن نصل إلى أن مقولة فرانز فانون الذي أثّر طرحه في فكر إدوارد سعيد من خلال معادلة إسقاط قدسية النمط الثقافي الذي يروج له الاستعمار من منابر مؤسسات المعرفة الغربية، واعتباره جناية أخلاقية صُنع عبره عهد حروب وتدخلات بشعة ضد الإنسانية الأخرى، هي قاعدة مدللة تاريخيا.
كما أن مستوى التورط في حركة الاستشراق ومعاهد الدراسات الغربية فيها كاف جدا لتحقيق هذه الإدانة التي لا يُلزم منها نبذ أو إنكار أو تهوين من أي جهد معرفي منصف سعت حركة الفكر الغربي والاستشراق إلى الوصول إليه فيما يتعلق بعالم الشرق الكبير.

يقول فرانز فانون: لقد تم بناء رفاه أوروبا وتقدمها بعرق الزنوج والعرب والهنود والجنس الأصفر وجثثهم، فأوروبا هي تماما صنيعة العالم الثالث.

والعبارة الأخيرة لفانون تشير إلى اتجاهين في أزمة الموقف المعرفي بين الغرب والشرق، الأول أنه تقدم حداثي بني على عصف استعماري متوحش، والثاني أن هذا الشرق شارك بدمه مرغما في حداثة الغرب.

ومع اهتمام إدوارد سعيد المركزي بفكرة فرانز فانون، نحتاج أن نأخذ بالاعتبار خيبته من لقاء جان بول سارتر، وسيمون دي بفوار وميشيل فوكو 1979 في باريس، حيث لم يحدد سعيد اتجاها فكريا معينا من سارتر، يوضح خيبته منه في حديثه الذي نشر في مقال، سوى تأثره بشخصية يهودية تأثرا سلبيا، مع إقراره بتأثير سارتر الثقافي البالغ على كل جيله، وبقي وكأنّ هناك أمرا آخر لم يذكره عن سارتر.

لكن من الواضح أن ميشيل فوكو وإن استفاد منه ووافقه سعيد في فكرة مقاومة هيمنة السلطة على المعرفة؛ إلا أن تأييد فوكو المطلق لإسرائيل يبرز بوضوح ازدواجيته وتناقضه مع فلسفته، لأن تأسيس إسرائيل قام على معادلة متطرفة للسلطة الغربية العالمية، فرضت طرد شعب أصلي من الشرق، وإحلال شعب آخر بناء على مزاعم دينية متطرفة، يؤمن فوكو بأنها أساطير تاريخية لموقفه من كل الأديان، كما أن هذا الظلم للشعب الفلسطيني قام بدعوى تعويض ضحايا النازية اليهود الذين ارتكبت فيهم أوروبا مجازرها.

وهو ما يمثل قمة التناقض مع معالم فكرته عن السلطة والمعرفة، وقد انتهى فوكو في آخر حياته إلى ممارسة مثلية وجنسية سادية، وتوفي بالإيدز، أما سيمون فكانت العلاقات الجنسية محور بعض كتاباتها، لكن الأمر لم يقف عند ذلك، بل مارست الشذوذ مع بعض القاصرات كعمل جنائي أخلاقي.
وحسب حديث إدوارد سعيد، فإن خيبته لم تتطرق لهذا الأمر، لكنه لاحظ أن سيمون وهي إحدى مؤسسات النسوية الراديكالية، باتت قضيتها في هذا اللقاء الذي حضره، تتركز على الشتم والسخرية من حجاب الإيرانيات، وليس قضية حركة التمرد الشعبي بنزعته اليسارية والدينية في إيران ضد الشاه، وقال إنها باتت تثرثر عن الإسلام دون أي استعداد لسماع رأيه الذي أراد التصحيح.

إن هذه الخيبة ليست بالضرورة مبررا لرفض أي مساهمة فكرية للحركة الوجودية، عن الحياة والعدالة الاجتماعية، لكن المشكلة أن مساحة الاستقلال لدى تلك المجموعة الأوربية عن مركز السلطة غير موجودة بنسبة أو أُخرى، وانتهت إلى أن تكون إسرائيل مشروعا مؤيدا 100% لفوكو، وأن قضية الشرق والنفط والغرب توارت في حجاب الإيرانيات، وهو الفرق الذي يُلمس لدى سعيد من أن غالب نزعة الاستشراق الغربية لم تتجاوز هذه الخيبة، ولم تخضع لمعيار أخلاقي ولا معرفي مستقل، وبقيت تتأثر حتى عند بعض رواد الفكر اليساري الراديكالي.

فيما يختلف الواقع مع الشخصيات المعرفية العميقة التي تُدرك تماما أن تقديم أو تفكيك ثقافة الشرق تنبع من الاعتراف به كمنتج محلي حقيقي لهذه الجغرافيا التاريخية البشرية، وليس عبر الشرق الذي هو صنيعة الغرب ومخياله، ثم مشاريعه السياسية، كما يشير إدوارد سعيد لذلك.

وهنا مفصل الخطاب المهم، حين نشير إلى جهد التعقب العلمي والتفكيك النظري الموضوعي لإدوارد سعيد، ووصوله إلى أن هذا المسار صَنع بالفعل عقلية محتلة، ليس فقط في دائرة واسعة من صناعة المعرفة الغربية، وتفسيرها لعالم الشرق وتحديد معالم النهضة والتقدم المدني الإنساني من خلالها، ولكن أيضا من خلال من خضع من العرب كليا لنظرية الاستشراق وفكرة إنسان الشرق الدوني.

وعليه لم يُطرح كم قتل الغرب من الإنسانية وكم قتل الشرق، وهل هناك فرق بين مقاومة الشرق متطرفة أو منصفة، وبين حروب الابتداء لمصالح البهارات الهندية منذ العهد البرتغالي، ومصالح النفط والمعادن، والجيوسياسية في العهد الحديث.

كيف فسّرَت حركة الاستشراق هذا المفصل؟ وكيف يبنى عليه توضيح علمي وميثاق معرفي لمصلحة الإنسان المجرد، وماهي معايير الحكم وتقديرات المعرفة المستقلة والخيرية المدنية، دون أن يُجحد حق أي تقدم معرفي أو فكري غربي، لكن بمعادلة المساواة، لا صناعة السلطة العالمية وعبوديتها.

إننا اليوم -وقد أُسقط في معادلات السياسة والحروب ملايين البشر، بحروب مباشرة أو بالوكالة، ولم تُطرح كظاهرة عالمية تتصدر لدراستها معاهد الاستشراق، فيما انشغل العالم بعدد ضحايا جرائم جماعات العنف الوحشي كداعش (تنظيم الدولة الإسلامية) وغيرها- بحاجة لإشراك صُنّاع المعرفة، ولذلك خاض إدوارد سعيد أهم معاركه، وأعلن ميثاقه العالمي حرب استقلال المعرفة عن السلطة الغربية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.