الانتخابات المحلية والجهوية بالمغرب.. الدلالات والرهانات

The secretary general of the Authenticity and Modernity Party (PAM), Mustapha Bakkoury (R) gives a speech during a meeting of his party to launch the campaign ahead of the municipal and regional elections on August 22, 2015 in the Moroccan capital Rabat. The campaign starts officially and will run until the eve of the elections to be held on September 4, 2015. AFP PHOTO / STR

يتوجه المغاربة (الكتلة الناخبة منهم على وجه التحديد) في الرابع من سبتمبر/أيلول الجاري لمكاتب الاقتراع لاختيار من سيمثلهم في المجالس الجماعية (المحلية والجهوية)، في سياق حملة انتخابية لا يكاد المرء يعثر على خيط ناظم لها، اللهم إلا كثرة وعود الأحزاب، واشتداد نبرة الوعيد (من قبل وزارتي الداخلية والعدل) ضد من تسوّل له نفسه إفساد هذا "العرس السياسي الكبير"، من خلال استعمال المال الحرام، أو الاستقطاب على أساس من الترغيب أو الترهيب أو الابتزاز.

وعلى الرغم من أن الانتخابات المحلية والجهوية لعام 2015 ليست هي الأولى في تاريخ المغرب المستقل، فإنها تحمل في ثناياها فرادة في الخصائص لا نعثر على مثيل لها في الاستحقاقات السابقة:

– فهي تأتي في سياق دستور جديد (دستور 2011)، صيغ في ظل ظروف ربيع عربي ناهض ضمن مطالبه الكبرى، ومركزية القرار، واستئثار الجزء بخيرات الكل، وانسداد الآفاق أمام أغلبية عظمى أنهكها الفساد والظلم، وأثقلت كاهلها عقود من السياسات العمومية لم يخضع الحاكم خلالها لا لتأنيب الضمير ولا لمحاسبة الجماهير.

على الرغم من أن الانتخابات المحلية والجهوية لعام 2015 ليست الأولى في تاريخ المغرب المستقل، فإنها تحمل في ثناياها فرادة في الخصائص لا نعثر على مثيل لها في الاستحقاقات السابقة

ومع أن دستور عام 2011 لم ينص جهارة على مكامن ضعف النظام، فإنه قد أفاض في جوانب ربط المسؤولية بالمحاسبة في تدبير الشأن العام، ونص بالواضح الصريح على أن التنمية لا يمكن أن تقوم -فما بالك أن تستقيم- إذا لم يكن المواطن في المناطق والجهات رافدها وحاملها، لا بل ورافع لوائها في الجوهر والمظهر.

– وهذه الاستحقاقات تأتي في إطار -أو لنقل تدقيقا- تكريس مشروع الجهوية الموسعة التي ألح عليها دستور عام 2011، بعدما ألح عليها من قبل العديد من خطب الملك، بوصفها التجسيد الحقيقي لتنوع جهات ومناطق المغرب، وتباين أعراقه ولهجاته وثقافاته وتطلعاته للتميز داخل التنوع والاختلاف.

ومع أن المشروع (مشروع الجهوية الموسعة) قد صيغ في طبعته الأولى بوصفه طرحا بديلا تم تقديمه من قبل المغرب لمنح الحكم الذاتي لساكني الصحراء في الجنوب، فإنه سرعان ما تم الاعتداد به وتطويره والأخذ به في كل مناطق البلاد، لتغدو الجهات الـ12 بالمغرب ذات حكم ذاتي قائم على غرار الصحراء، مع فارق أن تكون لهذه الأخيرة صلاحيات أكبر وسلطات أقوى من الحكم الذاتي لباقي الجهات، بحكم الوضعية الاستثنائية للمنطقة.

– ثم إن هذه الاستحقاقات تأتي في ظل إشراف حكومة حزب ذي مرجعية إسلامية، وصل لسدة الحكم في ظل دستور عام 2011، ولم يتسن للجماهير أن تقول كلمتها في طرق وأساليب تصريف سياساته على مستوى المناطق والجهات، ولا أن تعطي رأيها في الذين كانوا خلف تدبير الشأن المحلي بإشرافها وتوجيهها ومراقبتها.

صحيح أن وزارة الداخلية (وهي مؤسسة سيادية تابعة مباشرة للقصر) هي من سيتولى الإشراف التقني على العملية الانتخابية، وصحيح أن ولاتها ومحافظيها هم من سيسهر على السير السليم والنزيه لهذه الاستحقاقات، لكن ذلك لا يعفي حكومة العدالة والتنمية من المسؤولية السياسية

ليس هذا فحسب، بل إن حكومة العدالة والتنمية ستوضع على المحك في هذه الاستحقاقات، كونها هي التي تقف خلف تسطير قوانينها التنظيمية، وهي التي ستشرف على مجريات أطوارها، لا بل هي التي ستعلن نتائجها النهائية عندما تغلق مكاتب التصويت وتقدم الحصيلة وترفع الطعون للمحاكم.

صحيح أن وزارة الداخلية (وهي مؤسسة سيادية تابعة مباشرة للقصر) هي من سيتولى الإشراف التقني على العملية الانتخابية، وصحيح أن ولاتها ومحافظيها هم من سيسهر على السير السليم والنزيه لهذه الاستحقاقات، لكن ذلك لا يعفي حكومة العدالة والتنمية من المسؤولية السياسية، إذا لم يكن من ناحية المبدأ العام، فعلى الأقل نزولا عند توجيهات الملك المباشرة لرئيس الحكومة بأن يتكفل هو لا غيره بالعملية وأن يتحمل مسؤوليته فيها أمامه. هذه مسألة لا يمكن للمرء أن ينكر قوتها ورمزيتها، لا بل وتبعاتها الآنية والمستقبلية.

كل هذا في أسباب النزول، ومن أسباب النزول هذه تتأتى أهمية الانتخابات المحلية والجهوية لمغرب عام 2015، بوصفها محكا حقيقيا للنظام والمنظومة السياسية التي ارتضت ركوب رهان ذات المحك والذهاب به إلى أقصى مدى ممكن. ولعلنا لا نبالغ كثيرا إذا قلنا إن أهمية ذات الرهان إنما تبدو لنا متباينة وفق مكانة هذا الفاعل وتموقع ذاك:

– فهي ذات أهمية كبرى بالنسبة للأحزاب السياسية -لا سيما الكبيرة منها- كونها ستؤشر لا محالة على منسوب شعبية هذا الحزب أو ذاك، ومدى قدرته على استمالة أصوات الناخبين بالمدن والبوادي، ومن ثم حصوله على تفويض لتدبير الشأن المحلي والجهوي، في إطار لامركزية إدارية متقدمة، ستكون الجهة بموجبها دولة داخل الدولة: تقريرا وتسييرا وتصريف سياسات.

إن الاختصاصات الجديدة التي باتت تتمتع بها الجهات قانونيا، لم تعمد فقط إلى استبعاد الوصاية الإدارية التي كانت تثقل كاهلها (كاهل الجهات أقصد) وتحول دون انسيابية مشاريعها، بل عمدت أيضا إلى تضمين قانون الجهات بنودا تجعل من هذه الأخيرة -وبامتياز- "سيدة قرارها" في المجال الجغرافي الذي تعمل فيه وتتفاعل عبره مع الفاعلين الآخرين، أفرادا كانوا أو مؤسسات وسيطة أو تنظيمات جمعوية ذات وظيفة مدنية خالصة.

– وهي ذات أهمية كبرى بالنسبة للسكان في المناطق والجهات المختلفة، إذ سيصبح بمقدورهم الإفادة مباشرة من ثروات فضائهم الجغرافي دون انتظار تأشيرة السلطة المركزية، أو تلكؤ الإدارات الوظيفية في منح هذا التفويض أو ذاك. بالتالي، فسيكون لمجلس الجهة أن يعالج اختلالات منطقته ويعيد توزيع الخيرات عن قرب وبمحض اختياراته. ثم إن عليه -فضلا عن ذلك- تقديم الحساب بانصرام مدة الانتداب.

– ثم هي ذات أهمية قصوى بالنسبة للدولة في حد ذاتها، إذ ستخفف عن مصالحها عبء التدبير ومحك المحاسبة، حيث إن المواطن سيكون وجها لوجه مع ممثليه بمجلس الجهة لا مع الدولة كسلطة مركزية، وفي الغالب يتم التخفي خلفها أو الإشارة إليها بالأصبع.

وعلى هذا الأساس، فإن دلالات هذه الانتخابات لا تخرج عن منطوق قانون الجهة الذي رأى في هذه الأخيرة مكمنا جديدا للتنمية المستدامة، كونها ستتحول إلى مؤسسة تنموية قائمة الذات، لها مداخيلها ومخصصاتها ومبالغها المدفوعة لاستغلال وتدبير المشاريع ونفقات التسيير، ولها أيضا صلاحياتها في تدبير مشاريع الاستثمار وإنعاش اقتصاد الجهة تثمينا للثروة ورفعا من مستويات التشغيل.

وعلى هذا الأساس أيضا، فإن برامج الأحزاب المتبارية في هذه الانتخابات لا تختلف كثيرا عن بعضها البعض، اللهم إلا في بعض التفاصيل والجزئيات؛ فكلها تعد بتنمية الجهة، عبر وعود لاستجلاب الاستثمار وتطوير البنيات التحتية والدفع بالمشاريع المدرة للثروة وفرص الشغل، وهكذا. إنها لا تستطيع غير ذلك في الوقت الراهن كونها لم "تضع يدها بعد في العجين".

بيد أنها -على الرغم من ذلك- لا تحيل إلا نادرا على الخطط العملية لبلوغ ذلك، كما لو أن لسان حالها يقول: لنتحصل أولا على الأصوات أو على التحالفات التي تضمن الوصول لهذا المجلس أو ذاك، وعندها (وعندها فقط) نرى أمر برامج العمل وسبل الإنجاز على الأرض.

لا غرابة أن تكون معظم البرامج مصاغة بلغة فضفاضة ومدثرة بوعود قد يتساءل المرء عن سبل ترجمتها عمليا، لا سيما أن العديد من الجهات تعدم بين ظهرانيها المقومات الطبيعية والإمكانات الاقتصادية والبشرية التي من شأن المجالس المرتقبة أن تبني برامجها على أساسها

ولذلك، فلا غرابة في أن تكون معظم البرامج مصاغة بلغة فضفاضة ومدثرة بوعود قد يتساءل المرء عن سبل ترجمتها عمليا، لا سيما أن العديد من الجهات تعدم بين ظهرانيها المقومات الطبيعية والإمكانات الاقتصادية والبشرية التي من شأن المجالس المرتقبة أن تبني برامجها على أساسها أو باستحضارها.

ولذلك أيضا، فلا غرابة في أن يلحظ المرء أن معظم هذه البرامج لا تعدو كونها شعارات مكرورة، غالبا ما يدفع بها هذا الحزب أو ذاك عقب كل استحقاق انتخابي. والشاهد على ذلك أن جل هذه الشعارات تتمحور حول مفاهيم الإصلاح والتغيير ومحاربة الفساد، فيختلط على المرء حقا التمييز بين من يراهن على ذلك حقيقة وبين من يضمر الخداع وخلط الأوراق ليس إلا.

وإذا كان واقع حال الحملة الانتخابية لا يخرج كثيرا عن التوصيف إياه، فإن السلوك الانتخابي الذي سيترتب عنه (عن ذات الواقع أعني) لا يمكن أن يخرج كثيرا هو الآخر عن أحد أمرين:

– سلوك المقاطعة الذي غالبا ما يعبر عن حقيقة عدم الثقة القائم بين المواطنين والأحزاب السياسية، وهو أمر يدفع الناخب للتبرم عن الحزب لفائدة الشخص، حتى وإن كان انتماء هذا الأخير لحزب "فاسد".

– أو سلوك التصويت العقابي الموجه لتركة الأحزاب التي سبق لها أن أدارت مناطق وجهات، ولم يترتب على ذلك مخرجات يعتد بها بمقياس المنجزات الفعلية على الأرض.

ولما كان الأمر كذلك، أو هكذا يبدو لنا، فإنه من المتعذر حقا استشراف مآلات العملية الانتخابية بدقة، أو التنبؤ بتركيبة وطبيعة المجالس التي ستتمخض عنها. بيد أن ما سبق لا يعفي المتتبع من التقاط بعض التوجهات العميقة لما قد تؤول إليه هذه العملية:

– التوجه الأول: على الرغم من العدد الكبير من الأحزاب المتبارية في هذه الانتخابات، فإن المبارزة الأقوى تبدو قائمة بين الأحزاب الكبرى المتواجدة على الساحة، لا سيما حزب العدالة والتنمية وحزب الاستقلال وحزب الأصالة والمعاصرة، وإلى حد ما حزب الأحرار وحزب الحركة الشعبية، بينما تأتي أحزاب "اليسار" في مؤخرة السباق.

إذا كانت أحزاب المعارضة الحالية لحكومة العدالة والتنمية تدير حملتها بقليل من الضغط النفسي، كونها أقل عرضة للتصويت العقابي -حتى بتدبيرها أكثر من جماعة محلية- فإن حزب العدالة والتنمية يواجه تحدي هذا التصويت وإن جزئيا، كونه سيؤخذ محليا وجهويا بجريرة ما أنجزه أو لم ينجزه وطنيا

وإذا كانت أحزاب المعارضة الحالية لحكومة العدالة والتنمية تدير حملتها بقليل من الضغط النفسي، كونها أقل عرضة للتصويت العقابي -حتى بتدبيرها أكثر من جماعة محلية- فإن حزب العدالة والتنمية يواجه تحدي هذا التصويت وإن جزئيا، كونه سيؤخذ محليا وجهويا بجريرة ما أنجزه أو لم ينجزه وطنيا خلال سنوات حكمه الأربع الماضية.

بالتالي، فقد ينجح في حصد العديد من المقاعد بالجماعات المحلية، لكنه قد لا يستطيع حصد غير مجموع أقل من المجالس الجهوية، اللهم إلا إذا دخل في تحالفات مع أحزاب أخرى "قريبة منه"، قد تضمن له إمكانات رئاسة هذه الجهة أو تلك.

في المقابل، يبدو لنا أن الأحزاب المعارضة -وبعضها ذو تجذر محلي وجهوي قوي- ستحصل على مقاعد معتبرة بالجماعات المحلية، ومن ثم بمجالس الجهات، لا سيما لو استحضرنا حقيقة أنها لا تتوانى -كما لم تتوان من قبل- في توظيف الأعيان وركوب ناصية المال الحرام بهذا الشكل أو ذاك.

– التوجه الثاني: لو كان لنا أن نستحضر حسابات السلطة بالمركز وترتيباتها الخفية لضمان توازنات على الأرض من نوع ما، فإن خريطة ما بعد الرابع من سبتمبر/أيلول قد تختلف نسبيا هنا، وجوهريا هناك. إذ لو سلمنا بسلامة الانتخابات على مستوى المجالس المحلية -وهو أمر محتمل- فإنها قد لا تكون كذلك على مستوى مجالس الجهات، إذ ستعمد السلطة لا محالة إلى إعمال ترتيبات تضمن التوازن في تموقعات الفاعلين السياسيين.

صحيح أن الدولة المركزية لا تستطيع اللجوء اليوم إلى وسائل التزوير التي كانت تلجأ إليها من قبل لرسم الخارطة السياسية التي تريد، لكنها لن تعدم الوسائل الكفيلة بضبط التوازنات على الأرض. إنه منطق الدولة العميقة الذي نحسه من حولنا حتى وإن لم ندركه بالمعاينة المباشرة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.