بيئة ومستقبل الحركة الاحتجاجية في لبنان

مظاهرات بيروت
الجزيرة

عند اندلاع المظاهرات في بيروت احتجاجا على مشكلة تكدس النفايات، سارع البعض لوصف هذه الاحتجاجات بأنها إرهاصات الثورة اللبنانية القادمة، وذلك تحت تأثير النموذج المكرس منذ 2011، خاصة أن أجهزة الأمن مارست القمع في التعامل مع المتظاهرين، ومن المهم نقد هذا التوصيف والاستشراف لأنه سيعيننا على تحليل هذه الاحتجاجات ومستقبلها.

لا يمكن هنا نحت نظرية صلبة للثورة، فالمجتمعات والسياق التاريخي لها أعقد من ذلك، ولكن هناك بعض الاشتراطات التي تجعل من تصورنا لثورة مجتمعية -بمفهومها الحديث- ممكنا، وأغلب هذه الشروط معدومة في الحالة اللبنانية، وعلى رأسها بنية الدولة.

فـجهاز الدولة اللبنانية هش وضعيف، وليس نظاما مركزيا قمعيا يحمل في بنيته إمكانية ثورة شعبية ضده، بالإضافة إلى وجود رأسمال مكون في جهاز الدولة، أي في صلب بنيته، وليس فقط ذا علاقات متداخلة به كما باقي الحالات العربية، ورأس المال والنظام مرتبطان بالمجتمع عبر تسييس الطوائف.

اللبناني يتخيل ذاته لبنانيا من الطائفة الفلانية والمنطقة الفلانية، وهذه الملحقات التعريفية ليست هامشية، بل هي متن التعريف، وعليه فإن المخيال الجمعي لا يستطيع أن يرفد المجتمع بتصورات مواطنية إلا في حالات محددة وذات شروط نادرة

الأمر الثاني هو المخيال الجمعي، فـالثورة الشعبية تستلزم قدرة الفرد على تخيل المرء نفسه "مواطنا"، بعيدا عن دوائره الهوياتية المغلقة مثل المنطقة والطائفة، فالتونسي في 2011 كان يتخيل نفسه "تونسيا" عربيا فقط، وهذا فارق مهم بين المفهوم الحديث للثورة ومفهومها في التاريخ العربي القديم، حيث كان يطلق على انتفاضات الفئات الاجتماعية تسمية الثورات.

الإشكال الرئيس هنا هو أن "اللبناني" منفي من وعي الفرد والمخيال الجمعي، إلا في حالات الأعلام ربما، فجبران وفيروز وسعيد عقل "لبنانيون"، وإن لم يسلموا دوما من مشاكل الوعي الجمعي، حيث كانت تظهر هذه المشاكل في ألقاب الأدباء والكتاب، فميخائيل نعيمة لقب بـ"ناسك الشخروب"، وأمين الريحاني بفيلسوف الفريكة!، وهذه الإحالات المناطقية ذات دلالة مهمة.

أما على المستوى الاجتماعي فالأمر واضح ومباشر، فاللبناني يتخيل ذاته لبنانيا من الطائفة الفلانية والمنطقة الفلانية، وهذه الملحقات التعريفية ليست هامشية، بل هي متن التعريف، وعليه فإن المخيال الجمعي لا يستطيع أن يرفد المجتمع بتصورات مواطنية إلا في حالات محددة وذات شروط نادرة.

في الجانب المقابل للاجتماعي، أي جانب الطبقة السياسية، هناك إشكاليات النخبة التاريخية في لبنان، وهي بالمناسبة المثل الأعلى لكل الطبقات السياسية الطائفية الناشئة حديثا في المشرق العربي، مثل سياسيي العراق، فالطبقة السياسية اللبنانية ذات بنية عجائبية في الحقيقة، فهي تجمع متناقضات وكوارث متصادمة يصعب تفهمها للوهلة الأولى.

فهي نخبة ذات وعي قروي رجعي رغم أناقة الملبس واللغات الأجنبية، وفي لبنان فقط، يمكن للمرء أن يسمع حديثا لسياسي كبير ومؤسس لتيار "قومي عروبي" يبارك ويشجع فيه قرار الطائفة الفلانية بتشكيل قوة سياسية لدخول معترك الفضاء العام.

كما أن النموذج الغريب وهو نموذج المثقف العلماني الذي يعرف ذاته طائفيا -وكما هو واضح فإن هذا أمر لا يستقيم حتى في التعبير- وينافح عن "مصالح الطائفة" هو منتج أصيل من منتجات النخبة اللبنانية، وكل هذا تحتويه بيروت منارة الأدب وموئل الثقافة في المشرق العربي.

بالإضافة إلى ذلك، هناك إشكالية رأس المال والقطاع الخاص وعلاقته بالنظام، فرأس المال يرادف الطبقة السياسية اللبنانية، ويندر أن تجد "زعيما" سياسيا لبنانيا بغير نشاطات تجارية وإقطاعيات وتربح ممأسس وارتباطات خارجية واضحة معبر عنها علنا، وهذا هو العامل الأهم في ضخامة الإمبراطوريات الإعلامية، وتأثيرها الهائل، وهي تعطي وهما جميلا بوجود حرية تعبير في المجال العام.

ونقول المجال العام تجوزا، ولكنها في الحقيقة حرية ظاهرية لا تستبطن تصورات ديمقراطية، فهي حرية تعبير (أطراف) ضد بعضها، وليست حرية مواطنين، ومن المفارقات أن مسألة النسيج الاجتماعي التي يمكن للمثقف الديمقراطي أن ينظر لإبعاد الديمقراطية عنها ووضعها تحت طائلة ممارسات قانونية صارمة، هي التي تشهد "دمقرطة" منفلتة في لبنان بسبب البنية الطائفية/الرأسمالية للنخبة السياسية.

لا إمكانية لثورة شعبية في لبنان، فالطرف الذي تقوم الثورة ضده -وهو النظام السياسي- هلامي، غير صلب، ولا يمكن تعيينه بسهولة، وإذا قام المجتمع بتعيينه فإنه للأسف سيثور على نفسه، وهذه إحدى الكوارث غير الأخلاقية التي تسببها الطائفية السياسية

نخلص من هذا التحليل إلى أن لا إمكانية لثورة شعبية في لبنان، فالطرف الذي تقوم الثورة ضده -وهو النظام السياسي- هلامي، غير صلب، ولا يمكن تعيينه بسهولة، وإذا قام المجتمع بتعيينه فإنه للأسف سيثور على نفسه، وهذه إحدى الكوارث غير الأخلاقية التي تسببها الطائفية السياسية، فهي تربط النظام السياسي بالمجتمع عضويا وتقسمه رأسيا، أي إنها تجهز على الفضاء العمومي.

بعد هذا التحليل المقتضب، نصل إلى الاستنتاجات الخاصة بالاحتجاجات الراهنة ومستقبلها، وأولها أن أي تسييس لهذه الاحتجاجات يعني القضاء عليها وإدخالها في أتون الاصطراع الطائفي/السياسي اليومي في لبنان، خاصة وأن الاحتجاجات لم تشهد تمددا جغرافيا، وعليه فإن بقاء الاحتجاجات في سقفها المطلبي هو التوجه الأصوب.

الأمر الآخر أن أقصى وأهم ما يمكن لهذه الحركة الاحتجاجية أن تقوم به هي أن تحمي ذاتها من عدوى الطائفية، وأن تركز على أهدافها المطلبية، وهذا أمر صعب في بلد كلبنان، ويمكن أن تحتوى من خلال تطييفها، وهكذا ستصبح ترسا في الماكينة الطائفية المحركة للحياة السياسية اللبنانية.

وأقصى ما نأمله هو أن هذه الاحتجاجات "قد" تنجب طلائع قوة سياسية في المستقبل يمكنها إحداث اختراق في الفضاء العمومي الممسوخ، قوة سياسية يمكنها أن تتخيل "اللبناني" كمواطن وكعربي فقط، هذا ما نتمناه ويمكن لهذه الحركات الاحتجاجية، نظريا على الأقل، أن تنجزه مع الوقت إذا استطاعت إنجاز المهمة الصعبة وحققت إنجازا مرحليا بتحقيق أهدافها المحدودة والموضعية.

إذا استطاعت ذلك فحينها ستكون مثالا مقنعا لإمكانية تحقيق المطالب عبر ضغط من "مواطنين" بغير حاجة إلى استحضار الطائفة باعتبارها الأداة الكلاسيكية لكل تحرك في الحياة العامة اللبنانية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.