أوروبا واللاجئون.. هواجس الاندماج وإشكالات الهوية

epa04927251 People take part in a demonstration in support of migrants and refugees in front of the Mikolaj Kopernik's statue in Warsaw, Poland, 12 September 2015. EPA
وكالة الأنباء الأوروبية

الهوية والثقافة بأوروبا
الدين والعلمانية
اللاجئون والمسألة الثقافية

فجرت مأساة الشعب السوري عشرات الإشكاليات والمسائل الأخلاقية والثقافية والسياسية، ولا تزال مفاعيل الإبادة التي يتعرض لها السوريون تقدح القضايا والتساؤلات، ومنها في الأيام الراهنة قضية اللاجئين التي استعر أوار نقاشها في الآونة الأخيرة، خاصة مع ردود الفعل الأوروبية الرسمية على موضوع استقبالهم.

وسنتناول في هذا المقال جانبا متعينا وهو المسألة الثقافية التي تنطوي عليها أزمة اللاجئين، أي موضوع هوية المجتمعات الأوروبية وموضوع البعد الديني في المركب الهوياتي الأوروبي.

الهوية والثقافة بأوروبا
فقد نقلت صحيفة واشنطن بوست عن مسؤول سلوفاكي قوله إن بلاده ستستقبل عددا محدودا من اللاجئين السوريين بشرط أن يكونوا "مسيحيين". وقد مثل هذا التصريح صدمة لبعض المراقبين والمثقفين العرب، وفرصة للبعض لكي يؤكد تنميطاته غير التاريخية للمجتمعات الأوروبية.

وتصلح هذه الحادثة ونقد نموذج "الأوروبي" في وعي بعض المثقفين العرب كمدخل لتكثيف نقاش نقدي حول موضوع الهوية الأوروبية ومركب الدين فيها وعلاقتها بمسألة اللاجئين.

ليس من السليم التعميم وطرح عبارات توصيفية تشمل جغرافيات مثل الهوية الغربية، أو الهوية الأوروبية، فهناك تمايزات مهمة بين أميركا الشمالية وأوروبا في السياق التاريخي لتشكل مفهوم الأمة والدولة الوطنية، وهناك حتى تمايزات أوروبية في التاريخ السياسي

هناك تصور مكرس أن الهوية الأوروبية قد أنجزت تشكيل ذاتها، وقد اتضح أن هذا أمر غير صحيح ابتداء، فعمليات إنتاج الهوية مستمرة ولا تعرف الاكتمال، ويكمن "عتو" ومتانة تمثل الذات في مرونة ومقدرة الثقافة والوعي الجمعي على استيعاب المتغيرات المستجدة واحتوائها في عمليات إنتاج الهوية الوطنية.

من جانب آخر، ليس من السليم التعميم وطرح عبارات توصيفية تشمل جغرافيات مثل الهوية الغربية، أو الهوية الأوروبية، فهناك تمايزات مهمة بين أميركا الشمالية وأوروبا في السياق التاريخي لتشكل مفهوم الأمة والدولة الوطنية، كما أن هناك تمايزات بين شرق وجنوب أوروبا من جهة ووسط وغرب أوروبا من جهة أخرى في التاريخ السياسي، تجعل الأوصاف التعميمية غير دقيقة.

في ستينيات القرن العشرين، بدأ مصطلح "التعددية الثقافية" في الظهور، وقد كرسته المفوضية الملكية الكندية وجعلته جزءا من تصورها للمجتمع الكندي ومستقبله. ولكن كان هذا في مجتمع مهاجرين وجيب استيطاني سابق في الأساس، وبالتالي فهو مجتمع لديه الإمكانية لتقبل تصورات مرنة للأمة والهوية. وينطبق ذات الأمر على الولايات المتحدة من منظور تاريخي، مع التذكير بتأثير البعد الديني وأهميته في الخطاب العام وتشكيل الهوية.

في أوروبا الغربية الوضع مختلف، فالمجتمعات الأوروبية في العموم ليست مجتمعات مهاجرين، وفي حالة فرنسا، كانت هناك هجرة أبناء المستعمرات إلى المركز، وهذه الهجرات أجهزت بشكل كبير على أي نموذج عرقي "للفرنسي". ولكن بسبب تاريخ فرنسا القومي المتشدد في مسألة الهوية الوطنية، فإن الخطاب الرائج في مواجهة مسألة المهاجرين واللاجئين هو خطاب الاندماج لا خطاب التعددية الثقافية.

أما الحالة الألمانية فأكثر تعقيدا، فتاريخها الاستعماري قصير، كما أن مجالها الإمبريالي كان أوروبا ذاتها، ولهذا بقيت ألمانيا إلى حد كبير بعيدة عن تهجين مركبها الاجتماعي من مجتمعات أفريقيا وآسياز وهكذا فإن مسألة الضغط الهوياتي والثقافي الذي يشكله المهاجرون واللاجئون، تشكل تحديا جديدا نسبيا بالنسبة لها، باعتبار أن الهجرات التركية في النصف الثاني من القرن العشرين إلى ألمانيا الغربية هي البداية الفعلية لتاريخ الهجرات في التاريخ الألماني الحديث.

الحالة الأكثر لفتا للنظر في صراحتها ونفورها في التعامل مع مسألة اللاجئين السوريين هي دول أوروبا الشرقية، فتصريحات المسؤول السلوفاكي المشار إليها آنفا -بالمناسبة، يمكن اعتبار تلك التصريحات قسرا وابتزازا دينيا غير مباشر- وشروع المجر في بناء "جدار" لمنع تدفق اللاجئين، وحتى مشهد المصورة المجرية وهي ترفس لاجئين على الحدود الصربية، وهو مشهد رمزي ليست له أي قيمة تعميمية بالطبع.. كل هذه الممارسات تحتاج إلى وقفة.

أوروبا الشرقية ظلت قرابة نصف قرن تحت نفوذ نظام الاتحاد السوفياتي الشمولي، وواحدة من كوارث تلك الحقبة تمثلت في استغلال السوفيات لقضايا التحرر بالعالم الثالث في عمليات الدعاية السياسية أثناء الحرب الباردة، بالإضافة إلى القمع المنظم للمظاهر الدينية المختلفة في مجتمعات كان الدين -ولا يزال- يلعب دورا كبيرا في مجالها العام، بل والحيز الخاص للفرد، بسبب تعثر عمليات التحديث فيها في نهاية القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين.

كانت نتائج هذه الممارسات بعد انهيار المعسكر الشرقي أن عادت الكنيسة إلى أداء دورها الطبيعي المتوافق مع الثقافة الاجتماعية، بالإضافة إلى نفور جمعي شائع من "مظالم" العالم الثالث، وهذه نتيجة طبيعية لابتزاز النظام القمعي المجتمع من خلال قضايا عادلة.

وما يزيد الأمر تعقيدا هو العامل الاقتصادي، فدول أوروبا الشرقية تقع في ذيل قائمة الإنتاج المحلي الإجمالي بالمقارنة مع المتوسط العام للاتحاد الأوروبي، وتترجم ضفيرة العوامل الدينية/الاجتماعية والتاريخ السياسي والاقتصاد إلى صراحة في التعبير عن النفور من اللاجئين وإلى ممارسات فظة تجاههم والتعبير الواضح عن مكانة الدين في مركب الهوية الوطنية والهواجس بشأنها.

الدين والعلمانية
بالإضافة إلى هذا العامل التاريخي الاجتماعي، يتوجب علينا الإشارة إلى "تاريخية" الفكرة العلمانية -بأوضح وأدق تعريفاتها المتعددة- بعيدا عن الاختزالات الخلاصية التي أشاعها كثير من المثقفين والمسيسين في العالم العربي، فالقول إن أوروبا تتبنى العلمانية لا يعني أن مركب الدين منزوع من التصور الكلي للذات الجمعية في مجتمعاتها، بل وفي حالات كثيرة -خاصة في شرق أوروبا- لا تزال الكنيسة تلعب دورا مهما في يوميات المجال العام، ونذكر هنا الكنيسة الكاثوليكية في بولندا ودورها في الانتفاضات الشعبية ضد الحكم الشيوعي في الثمانينيات كمثال.

الحالة الألمانية أكثر تعقيدا، فتاريخها الاستعماري قصير ومجالها الإمبريالي كان أوروبا ذاتها، ولذا بقيت بعيدة عن تهجين مركبها الاجتماعي من أفريقيا وآسيا، وعليه فإن الضغط الهوياتي والثقافي الذي يشكله اللاجئون يشكل إلى حد ما تحديا جديدا بالنسبة لها

من جانب آخر، يتوجب علينا وضع "الدين" في سياق سوسيولوجي حتى نتمكن من فهم هواجس وممارسات الحكومات الأوروبية مع اللاجئين بعيدا عن المقابلات الخاطئة مع السياق العربي، فأبحاث علم الاجتماع الديني منذ أربعين عاما وحتى الآن ترجح أن "الإيمان" و"التدين" في ازدياد مطرد في العالم، ولكن الإيمان والتدين هنا يتخذان أشكالا تقليدية وغير تقليدية، ولا تصح مقارنتها مع الحالة العربية لأن سياقها مختلف.

فعلمانية الدولة في أوروبا لا تتناقض مع ازدياد أصحاب "التجارب الدينية"، ولا تزال الثقافات الاجتماعية الغربية تنتج جماعات وجمعيات دينية مسيحية مختلفة ومتنوعة وتجد أتباعا ومريدين، كما أن بعض السوسيولوجيين لاحظوا منذ الثمانينيات أن هناك نمط تدين تشكّل في بعض المجتمعات الأوروبية -والمجتمع الأميركي- يرتكز على اعتبار الدين والمشاركة في النشاطات الدينية المنظمة، مدخلا لولوج المجال العام وفضاء السياسة.. وهذا كله يجعلنا نبتعد عن الاختزال السطحي للعلمانية باعتبارها فكرة تجهز على مركب الدين في تمثل الذات الجمعية.

فالواضح لنا الآن أن الدين باعتباره تراثا وليس بالضرورة باعتباره قائما على الإيمان، يدخل في عمليات بناء النماذج عن الذات وهويتها عند المؤمنين أو الملحدين، فهناك وظائف اجتماعية للدين -أشير إليها منذ أعمال دور كهايم- تتجاوز الفكرة المكرسة عن علاقة الإيمان به، وهناك كذلك وظائف "هوياتية" معقدة له أيضا كما هو واضح.

اللاجئون والمسألة الثقافية
أهم ما أكدته هواجس أوروبا الثقافية من اللاجئين السوريين أن وعي أجهزة الدولة والسياسيين الأوروبيين قاصر بمراحل عن إنتاجات الثقافة الأوروبية/الأميركية، فمفاهيم مثل حق الاختلاف، والتعددية الثقافية، والمدن الكوزموبوليتانية، والهوية الإنسانية، والأمة المواطنية، وحقوق الإنسان وغيرها، مفاهيم مستبطنة فعلا في وعي الساسة، ولكن إلى حدود واضحة و"آمنة" تخص الداخل وأحيانا المحيط الحضاري.

ولكن يظهر القلق وتنبعث مشاكل التراكمات التاريخية عند تجاوز هذه الحدود، ومن هذه الزاوية يصبح قلق الأوروبيين الهوياتي مفهوما وليس محض مبالغات، ولكن ينبغي السؤال هنا عن مدى التغيرات الهوياتية التي تحدثها موجات اللاجئين في المجتمعات الأوروبية المضيفة.

ابتداء، لا يمكن أن تحدث موجات اللاجئين السوريين هزات هوياتية كبرى خلال جيل واحد، ولكن يتركز "التأثير الآني" للاجئين -قبل استقرارهم النهائي وإنتاج جيل جديد مولود في البلد المضيف- في طريقة الحياة اليومية لا في هوية المجتمع، وهنا علينا التذكير دوما بأن اللاجئين السوريين عينة اجتماعية عشوائية وليسوا نخبة ثقافية قررت الهجرة جماعيا! وبالتالي فهي عينة من مجتمع عالمثالثي هاربة من الإبادة، وستحمل معها كثيرا من مشاكل السيكولوجيا الجمعية وكثيرا من محمولاتها الثقافية، ولن ترميها في البحر لمجرد استقبال الأوروبيين لها.

مستقبل مسألة الهوية الثقافية واللاجئين يرتكز على أمرين هما: مستقبل تعامل أميركا وأوروبا الغربية مع الحرب في سوريا، وسياسات الدول المضيفة وتصوراتها عن التوجهات المثلى بين الاندماج والتعددية الثقافية

ولأن المجتمعات الأوروبية ليست مجتمعات مهاجرين تاريخيا، فإن التكتلات السكانية في الأحياء تعني فعليا "غيتو" من نوع ما داخل المجتمع يرمز إلى "التمايز" الذي لم تتقبله المجتمعات الأوروبية بشكل كامل، وتفضل بدلا عنه الاندماج، وهذه عملية معقدة تحتاج إلى تعديل في سياسات الدولة تجاه توزيع اللاجئين وتشجيع اندماجهم.

هذا مع العلم بأن التجربة التاريخية القصيرة في أوروبا أثبتت أن عمليات الدمج المثالي الذي تحلم به أوروبا لا تحدث غالبا، وأحيانا لا تنجح مطلقا، وتبقى مجموعات سكانية تتحدث اللغة وتدخل وتستفيد من مؤسسات الصهر الاجتماعي (مدارس، جامعات)، ولكنها رغم ذلك تبقى متشبثة بتراثها الأصلي.
 
وتعاني هذه الجماعات نتيجة ذلك من اضطرابات حادة في الهوية -وهنا تقع المسؤولية على المهاجرين لا على الدولة المضيفة فقط- على عكس مجتمع مثل المجتمع الأميركي الذي يتقبل ظواهر كهذه إلى حدود معينة لأسباب اجتماعية وتاريخية.

مستقبل مسألة الهوية الثقافية واللاجئين يرتكز على أمرين هما: مستقبل تعامل أميركا وأوروبا الغربية مع الحرب في سوريا، وسياسات الدول المضيفة وتصوراتها عن التوجهات المثلى بين الاندماج والتعددية الثقافية، وهي سياسات وتوجهات ستلقحها التجربة التاريخية والتوتر بين قطبي المشهد الحاضر: قطب ضرورات النظام والأشياء التي لا مناص منها، فالاقتصاد الرأسمالي وأسواق العمل والعولمة وثنائية المركز والأطراف تفرض على الدول الكبرى استقبال الهجرات الطوعية والقسرية، وقطب التراكم التاريخي وتمثلات الذات الجمعية.

استقبلت ألمانيا أثناء حرب البلقان قرابة 400 ألف لاجئ، ولكن بمجرد إعلان ألمانيا كلا من مقدونيا والبوسنة والهرسك وصربيا "أوطانا آمنة"، كان لديها أساس أخلاقي قامت عليه تشريعات، لتعليق عشرات آلاف طلبات اللجوء من البلقان.

وعلينا ألا ننسى في خضم هذا النقاش العالمي المحموم حول مسألة اللاجئين السوريين بتشابكاتها المختلفة، أن الإشكال يتمثل في أن النظام السوري يشن إبادة جماعية على السوريين، وبالتالي فالواجب لحل جزء كبير من المسألة الراهنة ومنع تفاقماتها، إرساء مرحلة انتقالية وذهاب بشار الأسد وإيقاف الحرب، وليس اختزال المأساة في إيواء اللاجئين.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.