الثورة السورية ومصير "المقاومة"

تشييع أحد قتلى حزب الله في القلمون
الجزيرة


من الواضح أنني أقصد بـ "المقاومة" حزب الله خصوصا، ثم كل الأطراف والنخب "الممانعة" التي تتكئ عليه. وإذا كانت الثورات في تونس ومصر قد وضعت في خانة "الثورات الإسلامية" كما وصفتها إيران، فإن الثورة السورية وُضعت في خانة "المؤامرة".

ولهذا انخرط الحزب في الحرب ضد الشعب السوري بعد ادعاءات بأن لدى النظام قوى عسكرية كبيرة وقادرة، وأنه ليس بحاجة لدعم "أخوي"، رغم أن الاستشارات والخبرات قُدمت منذ البدء، وحتى قبيل اندلاع الثورة.

منظور المؤامرة انبنى على أن "الهدف الأميركي" هو إسقاط النظام وحصار "المقاومة". وبالتالي كانت الثورة السورية هي مؤامرة أميركية من أجل إنهاء المقاومة. هذا هو المنظور الذي حكم سياسة الحزب، ليظهر تدخله وكأنه دفاع عن الذات، رغم أن كل المبررات التي ساقها للتدخل كانت مبررات طائفية (الدفاع عن مقام السيدة زينب).

انطلق حزب الله من فرضية أن الثورة السورية مؤامرة أميركية من أجل إنهاء المقاومة، ليظهر تدخله وكأنه دفاع عن الذات، رغم أن كل المبررات التي ساقها للتدخل كانت طائفية (الدفاع عن مقام السيدة زينب مثلا)

لكن لا بد أولا من إبداء ملاحظة صغيرة هي أن الحزب وافق بعد حرب يوليو/تموز سنة 2006 على القرار 1701 الذي يفرض إنهاء الاشتباك في الجنوب، ووضع قوات دولية بعد انسحاب الحزب ثلاثين كيلومترا إلى الشمال. بمعنى أن الحزب قد أنهى المقاومة رغم تحججه لبعض الوقت بـ مزارع شبعا.

وقد انتقل بعدها إلى سياسة دفاعية جعلت الأمين العام حسن نصر الله يكرر مرارا أنه إذا وجهت الدولة الصهيونية أي ضربة للحزب فـ "سيدمر نصف إسرائيل"، لأن لديه القدرة على ذلك، حيث كان يزيد من ترسانته الصاروخية لتحقيق "سياسة ردعية" كما فعل قبله النظام السوري، الذي اعتمد الصواريخ البالستية كسياسة ردع فقط.

لهذا، ومنذ إذ، بات تعبير المقاومة فضفاضا، ولا يعبّر عن الحقيقة، بالضبط لأن المقاومة فعل صراعي مع محتل، وقد أنهى القرار 1701 هذا الفعل الصراعي، ومن ثم أصبح الحزب جزءا من تركيبة النظام الطائفي اللبناني، ومن تكوينه الليبرالي.

رغم كل ذلك يمكن أن نلمس بأن سوريا كانت هي الممر الضروري للحزب، حيث إنه قائم بالتأكيد على الرابط القوي مع النظام الإيراني، وبالتالي فإن موقف النظام السوري الإيجابي ضرورة له. ولهذا من الحتمي أن يكون له موقف مما يجري في سوريا، وأن يكون حريصا على أن يظل النظام في دمشق "حليفا" لكي يبقى "شريان الحياة" الموصل إلى طهران مفتوحا.

ومن هنا نظر إلى الثورة من هذا المنظور، منطلقا من أن هذا النظام القائم هو الذي يقدم له التسهيلات الضرورية التي ساعدت على استمراره، وحين انسحب النظام السوري من لبنان سنة 2005 دخل حزب الله بكل قوته لكي يسيطر على الأرض التي كانت خاضعة لسيطرة الجيش السوري. وحين انفجرت الثورة السورية وجد أن الأمر يتعلق بمؤامرة أميركية تريد إسقاط النظام لتدمير المقاومة، وهو الأمر الذي جعله يتدخل بالشكل الذي أفضى إلى انهاكه، وربما فتح الطريق لنهايته.

فأولا لم يظهر أن أميركا تقود مؤامرة لإسقاط النظام، بل ظهر أن أميركا كانت تعمل طيلة الفترة الماضية على شل القوى التي تريد إسقاط النظام، وأنها أصلا لم تعد تريد سوريا كما كانت تطمح بُعَيْد احتلال العراق وفي ظل حكم بوش الابن، ولذا ظهرت وكأنها حليفة لإيران. ولكن أيضا ظهر أن تدخلها المباشر في الملف السوري بدأ فقط منذ صيف 2014 بعد تشكيلها التحالف ضد داعش (تنظيم الدولة الإسلامية)، وأنها "تحارب" داعش فقط، ولا تريد الاشتباك مع النظام، بالضبط كما يدعي النظام بمحاربته لداعش.

إن التزام الحزب بولاية الفقيه في "قم" ربما أسهم في هذا الغرق في المتاهة، حيث صممت إيران على ألا يتحقق حل في سوريا، وراهنت على أن قوات حزب الله وقواتها وكل دعمها العسكري والمالي سوف يقود إلى "إفشال المؤامرة"

وبهذا سقطت "نظرية المؤامرة"، رغم أن سوريا قد تدمرت وقتل مئات الآلاف، وانهار الاقتصاد، وباتت المجموعات الأصولية (التي أطلقتها السلطة) مسيطرة على مناطق واسعة، وهي تسحق الشعب كما تفعل السلطة، وبالتالي فإن المؤامرة كانت على الشعب السوري وعلى الثورة السورية وليس على النظام الذي تعلن أميركا أنها لا تريد انهياره، وأنها متمسكة بمؤسسات الدولة ذاتها. وأن في سوريا الآن جيشا منهارا، ومؤسسات مشلولة، واقتصادا كارثيا.

وبعد سنوات من الصراع، ظهر واضحا كذلك أن بشار الأسد لن يبقى في السلطة، وأن إيران يجب أن تخرج من سوريا، وهذا ما يقتضيه "الحل السياسي"، الذي سيدعم من قبل أميركا وروسيا، وحتى إيران سوف تقبل به، وهي التي تعاملت مع سوريا ولبنان، وحتى المقاومة والصراع ضد الدولة الصهيونية كورقة في إطار صراعاتها الدولية من أجل تعزيز مواقعها، رغم ما يظهر على السطح من "منظور عقائدي" متشدد وميل لفرض سيطرة إمبراطورية على المنطقة.

كل ذلك يعني بالضرورة "نهاية المقاومة"، فـ إيران سوف تقبل بمعادلة التحالف مع أميركا مقابل تخليها عن طموحها الإمبراطوري بعد أن اضطرت للتنازل تحت ضغط الحصار الاقتصادي الذي أوصلها إلى شفير الانهيار، وروسيا التي تتحضر لكي تهيمن على سوريا بدعم أميركي سوف تكون معنية بنهاية "المقاومة" نتيجة علاقتها الحسنة مع الدولة الصهيونية، وميلها لتحقيق تسويات في الجبهة الشمالية.

وعليه ستكون "المقاومة" قد خسرت قواها في الصراع ضد الشعب السوري، وخلقت مشكلات في بيئتها نتيجة هذا التدخل، وسوف تنفجر بعد إغلاق قناة الدعم الإيرانية. بمعنى أن خيار التدخل أفضى إلى نهاية المقاومة وليس ضمان استمرارها، فقد تورطت في حرب أنهكتها وشوهت صورتها، وقتلت كوادرها.

هل كان هذا الطريق حتميا؟
بالتأكيد لا، ولقد أشرت إلى أن "المؤامرة الإمبريالية" كانت ضد الشعب والثورة في سوريا وليس من أجل إسقاط النظام وحصار المقاومة. وبالتالي كان تدخل الحزب استنزافا له، سوف يحدد مصيره. وقد كان النظر الجدي منذ البدء للوضع السوري وللثورة، ولممكنات الحل، يفضي إلى أن أي تغيير في سوريا سوف يكون من داخل السلطة، بالضبط لأن الثورة بلا قيادة، وأن الشعب سوف يعتبر أنه انتصر حين ترحيل الرئيس كما حدث في تونس ومصر. وبالتالي فإن كل تغيير لن يقود إلى تغيير علاقات سوريا الخارجية، أو يفضي إلى تغيير وضعها الإقليمي والعالمي.

هذا ما كان ممكنا منذ بدء الثورة إلى المرحلة التي شهدت تدخل الحزب وإيران، وحتى إلى الآن، لأن كل تغيير سوف يعتمد على بنى السلطة ذاتها، رغم أن الوضع الآن سوف يجعل الموقف من حزب الله وإيران سلبيا، وهو ما لم يكن كذلك في الفترة الأولى من الثورة.

مصير حزب الله هو مصير أي "مقاومة" تقوم على أساس طائفي، وترتبط بدول لها طموحات إقليمية. لقد خسر بعد أن أسهم في إطالة أمد الصراع بسوريا، وتحويله إلى عنف وحشي. ولعب دورا مهما في مقاومة مسار ثوري بدأ عربيا، وسيمتد إلى كثير من بلدان العالم

هذا ما كتبته حينها، حين تناولت مسألة العلاقة بين الثورة والمقاومة، حيث أشرت إلى أن ترحيل بشار الأسد من السلطة -وهو الحل المكن- لن يغيّر من علاقات سوريا، ولكن قادت الرؤية الوهمية للواقع إلى أن ندخل في صراع وحشي، أنتج مجزرة بشعة بحق الشعب السوري، ولم يسمح بالحفاظ على الرئيس، وأيضا وجه ضربة قاصمة للحزب.

كان يجب دعم ترحيل الرئيس وتحقيق انفراج ديمقراطي لكي يبقى وضع سوريا مستقرا، وتحافظ "المقاومة" على "وضعها الطبيعي"، لكن "نظرية المؤامرة" أفضت إلى كارثة في سوريا، وإلى تدمير لرمزية حزب الله، والتأسيس لنهايته، دون أن يستطيع الحفاظ على سلطة الرئيس. ولهذا سيكون حزب الله من الخاسرين في أي حل في سوريا، وسيكتمل انتقاله إلى إستراتيجية دفاعية إلى نهاية لوجوده كحزب كان له دور في المقاومة.

طبعا لا بد من الإشارة هنا إلى أن التزام الحزب بولاية الفقيه في "قم" ربما أسهم في هذا الغرق في المتاهة، حيث صممت إيران على ألا يتحقق حل في سوريا، وراهنت على أن قوات حزب الله وقواتها وكل دعمها العسكري والمالي سوف تقود إلى "إفشال المؤامرة".

ونتيجة لذلك كانت معنية بخوض "الصراع حتى النهاية" وليس تحقيق حل سياسي، وهذا ما ورّط حزب الله، وجعله يغرق أكثر في أوهام المؤامرة، بل أن يكون أداة في تنفيذها كما النظام في إيران بالضبط، حيث كانت المؤامرة على الثورة السورية من أجل إجهاضها، وتحويلها إلى مجزرة تكون "عبرة" لكل الشعوب التي تفكّر في الثورة في عالم مأزوم، ومتراكم الاحتقان إلى حد انفجار الثورات فيه.

هذا هو مصير "المقاومة" التي تقوم على أساس طائفي، وترتبط بدول لها طموحاتها الإقليمية. لقد خسرت بعد أن أسهمت في إطالة أمد الصراع في سوريا، وتحويله إلى عنف وحشي. ولعبت دورا مهما في مقاومة مسار ثوري بدأ في البلدان العربية، وسيمتد إلى كثير من بلدان العالم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.