رسائل متباينة من طهران

Iranian President Hassan Rowhani (R), Revolutionary Armed Forces chief Hassan Firouzabadi (C), Revolutionary Guard commander Mohammad Ali Jafari (2-L), attend the annual military parade marking the Iraqi invasion in 1980, which led to a eight-year-long war (1980-1988) in Tehran, Iran, 22 September 2014. Rowhani said that Iran would not get back even one step of its right about a peaceful nuclear programm.
وكالة الأنباء الأوروبية


عكست المواقف المتباينة التي أعلنتها القيادة الإيرانية، بعيد التوقيع على الاتفاق النووي، والتي جمعت النقيضين: ثباتا في المواقف السياسية ودعوة للحوار والتهدئة والاستعداد للعب دور في محاربة الإرهاب وحل الملفات الإقليمية العالقة، ارتباكا سياسيا واضحا.

نتحدث هنا عن مواقف بدأت من إعلان المرشد الأعلى تمسكه بمواقف بلاده وتشكيكه بنوايا الإدارة الأميركية وبفرص تطبيق الاتفاق، إلى تهديد جنرالات الحرس الثوري برد صاعق على أي تحرش أميركي، مرورا بتصريحات الرئيس الإيراني وأركان حكومته (وزير الخارجية محمد جواد ظريف ومساعده لشؤون أفريقيا والشرق الأوسط حسين عبد الأمير عبد اللهيان).

في كلمة ألقاها بمناسبة عيد الفطر وبثها التلفزيون الرسمي مباشرة، وتخللتها الهتافات التقليدية "الموت لأميركا" و"الموت لـ إسرائيل"، أعلن المرشد الأعلى علي خامنئي أن الاتفاق النووي مع القوى العظمى لن يغير سياسة إيران في مواجهة "الحكومة الأميركية المتغطرسة". وقال إن إيران لن تتخلى عن دعم أصدقائها في المنطقة، وأن سياسات الولايات المتحدة في المنطقة متعارضة بنسبة 180% مع مواقف إيران".

من المعلوم أنه يوجد في السلطة بإيران تياران، تيار متشدد بالبرلمان والحرس الثوري، وآخر معتدل بالرئاسة والحكومة، وبينهما يلعب المرشد الأعلى لضبط التوازنات الداخلية والإمساك بالقرار السياسي

وأضاف "كررنا مرات عديدة، أننا لا نجري أي حوار مع الولايات المتحدة حول المسائل الدولية والإقليمية أو الثنائية. لقد تفاوضنا في بعض الأحيان، كما في الموضوع النووي، مع الولايات المتحدة على أساس مصالحنا".

بينما أعلن الرئيس حسن روحاني أن "المفاوضات النووية لم تغير ثوابت إيران لكن الاتفاق النووي خلق أجواء جديدة من شأنها أن تسرّع الحلول السياسية للأزمات الإقليمية في اليمن وسوريا"، وكتب على حسابه الرسمي على تويتر "لا شك أن الاتفاق سيؤدي إلى علاقات أوثق مع دول الجوار وخاصة قطر".

وأكد خلال لقائه وزير خارجية النظام السوري وليد المعلم في طهران أن "مكافحة الإرهاب، ودعم الشعوب المظلومة والحكومات الصديقة، وكذلك العمل لإرساء الأمن والاستقرار في المنطقة من مبادئ إيران وأهدافها الثابتة التي لا تتغير". وأضاف أن "طريق الحل لمشكلة سوريا هو الحل السياسي فقط لا العمل العسكري، وإننا في المجال السياسي سنستخدم کل طاقاتنا وإمكانياتنا السياسية لمعالجة المشکلات وإرساء الأمن والاستقرار وتحقيق مطالب الشعب السوري".

أما وزير خارجيته محمد جواد ظريف، فطرح رؤية للوضع في ما أسماه "منطقتنا" والعالم الإسلامي، قال في مقالة له تحت عنوان "الجار ثم الدار.. توصية أخلاقية أم ضرورة إستراتيجية" نشرت يوم 3/8/2015 في أربع صحف عربية (السفير اللبنانية، الشروق المصرية، الرأي الكويتية، الشرق القطرية) "إن أولى أولويات إيران منذ البداية، هي أنها تنشد علاقات طيبة ووطيدة مع جيرانها، وهذا ما أُعلن عنه بصراحة وتمت متابعته على الأخص منذ تشكيل الحكومة الإيرانية الجديدة".

ودعا إلى تشكيل ما أسماه "مجمع للحوار الإقليمي" في منطقتنا (في مقالته في نيويورك تايمز تحت عنوان "رسالة من إيران" نشرت بتاريخ 21/4/2015 استخدم تعبير "منتدى جماعي لمنطقة الخليج الفارسي الموسع" بدل "منطقتنا" في المقالة بالعربية، موقف تكرر وهو متسق مع مبدأ "التقية" الشيعية) ومن ثم بين جميع الدول الإسلامية في الشرق الأوسط، لغرض تسهيل التعامل، ولكونه حاجة ماسة كان ينبغي المبادرة إليه قبل هذا بكثير، ولا بد أن يكون الحوار الإقليمي وفق أهداف مشتركة ومبادئ عامة تعترف بها دول المنطقة، وأهمها:

ـ احترام سيادة ووحدة تراب جميع الدول واستقلالها السياسي وعدم انتهاك حدودها، الامتناع عن التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، تسوية الخلافات سلميا، منع التهديد أو استخدام القوة، والسعي لإحلال السلام والاستقرار وتحقيق التقدم والسعادة في المنطقة.

وقدم "جزرة" للمدعوين إلى هذا "المجمع" بقوله "الإفادة من إمكانيات التخصيب، على شكل مركز إقليمي لتوليد الوقود النووي عبر تعاون الدول الإسلامية بالمنطقة في الجانب التقني، وفي الجانب السياسي تكثيف الجهود الدولية لإقامة منطقة منزوعة أسلحة الدمار الشامل في الشرق الأوسط".

واعتبر "أهمية ممارسة هذه الآليات في منطقتنا، ثم في الشرق الأوسط عامة، تفوق أهميتها في أية منطقة في العالم. ولا يمكن إنكار الحاجة إلى إجراء تقويم ذكي للتعقيدات القائمة في المنطقة بهدف انتهاج سياسات مستديمة لمعالجتها، ومحاربة الإرهاب واحد من هذه المواضيع. فلا أحد بمستطاعه أن يحارب الجماعات المتطرفة، كالتي تسمى "الدولة الإسلامية" -التي لا هي بدولة ولا هي بإسلامية- في العراق، في حين تنتشر في اليمن وسوريا".

التيار المعتدل يريد استثمار الاتفاق النووي ورفع العقوبات في تكريس مرونة سياسية وانفتاح خارجي من أجل تثبيت حضوره هو في المعادلة الوطنية، لكن حرصه على احتواء ردود أفعال التيار المتشدد دفعه إلى تبني مواقف متشددة

وختم قائلا "إننا، بلدان هذه المنطقة والشرق الأوسط، الذين تشدنا قواسم مشتركة كثيرة ومتنوعة في الدين والثقافة والسياسة والجغرافيا، نملك جميع المستلزمات لإقامة تعاون بناء ومفيد لجميع شعوبنا وشعوب العالم. فالتحديات الكثيرة القائمة في منطقتنا، مهمة وخطيرة إلى درجة لا ينبغي لنا معها أن ننشغل بمجادلات مذهبية وخلافات شخصية، بل أن نقدِم بشجاعة وبصيرة على مثل هذا التعاون الحيوي لمعالجة جذور الأزمات في منطقتنا، وألا نعقد الآمال على أن يحل مشاكلنا من كان لهم الدور الأساس في خلقها". في حين جدد جنرالات في الحرس الثوري تهديد أميركا برد صاعق في حال استهدفت إيران وحلفاءها.

من المعلوم أنه يوجد في السلطة بإيران تياران، تيار متشدد في البرلمان والحرس الثوري، وتيار معتدل في الرئاسة والحكومة وبينهما يلعب المرشد الأعلى لضبط التوازنات الداخلية والإمساك بالقرار السياسي.

التيار الأول يريد المحافظة على السياسة التقليدية، التي تعتمد التدخل في شؤون دول الجوار والعمل على زعزعة الاستقرار فيها لفرض شروط إيران وتحقيق مصالحها، للمحافظة على دوره هو وحصته في النفوذ والمصالح الاقتصادية، وقد عبر عن ذلك بصراحة وغطرسة.

أما التيار الثاني -يدعمه في ذلك التيار الإصلاحي- فيريد استثمار الاتفاق حول البرنامج النووي ورفع العقوبات في تكريس مرونة سياسية وفتح الأبواب للتعاون مع الغرب والعالم من أجل تثبيت حضوره هو ودوره في المعادلة الوطنية، لكن حرصه على احتواء ردود أفعال التيار المتشدد دفعه إلى تبني مواقف متشددة في الملفات الإقليمية (الموقف من الملفين السوري واليمني).

فعلى الرغم من المرونة الشكلية مع دول الجوار العربي، التي أعلنها الرئيس وأركان حكومته، فإن المحتوى الحقيقي لمواقفه لا يكاد يختلف عن موقف التيار المتشدد، فبالإضافة إلى الإعلان عن تمسكهم بالحلفاء ومواصلة دعمهم كما في السابق فإن ما طرحوه لحل الملفين اليمني والسوري لا ينطوي على مرونة أو اعتدال.

فعودة الوزير ظريف في مقالته المذكورة أعلاه إلى التمسك بالحل الذي سبق طرحه للصراع اليمني (حل قائم على وقف إطلاق النار فورا، وإرسال مساعدات إنسانية إلى المدنيين اليمنيين، وتسهيل الحوار بين المجموعات اليمنية داخل البلاد، وفي نهاية الأمر توجيههم إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية شاملة)، حل يكاد يكون تكرارا لما طرحه قبل عامين للصراع في سوريا، والذي رفضته دول التحالف العربي، لا يشي بالكثير.

وموقفه من ملف الصراع السوري ليس أفضل حالا، فقد سلم قبل عامين خطة للحل إلى الأمم المتحدة قائمة على: وقف إطلاق النار من قِبل كل الأطراف، وفرض سيطرة ورقابة على الحدود لمنع مرور ودخول أي مسلحين أو أي دعم للتنظيمات في الداخل، فضلا عن فتح الممرات لعبور المساعدات الإنسانية والطبية والغذائية للمدنيين في المناطق المنكوبة، تشكيل حكومة وحدة وطنية تقتصر على ممثلين عن النظام ومعارضة الداخل، والمباشرة في وضع أسس نظام جديد لنقل صلاحيات رئاسية إلى الحكومة، بحيث تصبح هذه الحكومة مع مرور السنوات متمتعة بصلاحيات واسعة، وإعداد انتخابات برلمانية ورئاسية".

على الدول العربية ألا تفوت فرصة حالة الارتباك التي يعيشها النظام الإيراني وتلقي له طوق النجاة برفض الحوار، دخول الحوار فرصة وضرورة لكن على قاعدة واضحة وحسابات جادة ودقيقة

وقد تحدث مساعد وزير الخارجية عبد اللهيان عن تعديل لها، ونقلت وسائل الإعلام صيغة التعديل المقترح "وقف فوري لإطلاق النار، وتشكيل حكومة وحدة وطنية، وتعديل الدستور السوري (في بند تعديل الدستور خرق للاءات النظام الأربعة: لا مساس بموقع الرئاسة، لا مساس بالجيش، لا مساس بأجهزة الأمن، لا مساس بالدستور) بما يتوافق وطمأنة المجموعات الإثنية والطائفية في سوريا، وإجراء انتخابات برلمانية ورئاسية بإشراف مراقبين دوليين".

وهو ما يعني القفز على بند "هيئة حكم كاملة الصلاحيات" في بيان جنيف، والانزلاق إلى نظام محاصصة عرقية وطائفية، وإقامة كيان سياسي هش يسهل عليها اللعب داخله من خلال العلاقة مع المكونين العلوي والشيعي.

واضح أن هدف التيارين المتشدد والمعتدل، كل بطريقته، الرد على التنازل الذي قدمته إيران في الاتفاق النووي، وهو ما اعتبره البروفسور الإيراني والي نصر، منسق عمل اللوبي الإيراني في أميركا "تقويضا للإستراتيجية الإيرانية" بتحقيق مكاسب إقليمية على حساب دول المنطقة وتكريس إيران لاعبا إقليميا قويا في اليمن والعراق وسوريا ولبنان.

وهذا ما دفع وزير الخارجية البريطاني فيليب هاموند في حديثه لصحيفة الشرق الأوسط يوم 5/8/2015 إلى التشكيك في النوايا الإيرانية ووصف إيران بـ "الدولة المارقة" على خلفية فرض نفوذها عبر دعم الجماعات "الإرهابية"، وتأكيد واشنطن المتكرر على أن "ملاحقة نشاطات إيران المشبوهة ستستمر بعد الاتفاق النووي"، واعتبار الدكتور رغيد الصلح تشكيل "مجمع للحوار الإقليمي" بمثابة تشكيل شرق أوسط جديد بقيادة إيرانية وتنفيذ غير مباشر لهدف استعادة دور ومكانة الإمبراطورية الفارسية.

يبقى أن على الدول العربية ألا تفوت فرصة حالة الارتباك التي يعيشها النظام الإيراني وتلقي له طوق النجاة برفض الحوار. دخول الحوار مع إيران فرصة وضرورة لكن على قاعدة واضحة وحسابات جادة ودقيقة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.