لماذا يرفع الإعلام العمومي عصا التمرد بوجه بنكيران؟

صور لصحف ومجلات مغربية

عندما وصل عبد الإله بنكيران وحزبه للسلطة بالمغرب (منذ نحو أربع سنوات) في أعقاب انتفاضات "ربيع عربي" عارمة، فإنه كان يدرك جيدا -وبالقطع- حجم الرهانات وطبيعة التحديات التي كانت تنتظره.

خصوصا أن الرجل وحزبه وصلا للسلطة في ظل مناخ عام لم يتردد المغاربة -في سياقه- في رفع شعار قطع دابر الفساد والمفسدين الذين نجحوا لأكثر من خمسة عقود من الزمن في تحويل البلاد إلى مزرعة خاصة، ثم إلى رهينة بين أيديهم وأيدي أبنائهم وأبناء أحزابهم أو قبائلهم أو عشائرهم أو طوائفهم أو ما سواها.

-1-

عندما بدأ بنكيران مباشرة مهامه الرسمية بعد شهور فقط على ولوجه مصالح رئاسة الحكومة بردهات القصر الملكي بالرباط، تأكد لديه بالملموس القاطع وبالوقائع الحية على الأرض أن الفساد متغلغل بكل مفاصل الدولة، من قمة رأسها إلى أخمص قدميها كما تقول العرب، وأنه متمكن من آليات الإدارة ومكامن الاقتصاد والسياسة، تمكن شبكة العنكبوت من جناحي حشرة شاردة، وأنه بنيان متراص الأطراف، لا يستطيع المرء مهما أوتي من قوة وعزم أن يحلحل أركانه أو يهز عرشه، فما بالك أن يقتلع نبتته من الجذور.

نحن إزاء مرفق (الإعلام العمومي) يجتبي جزءا من مداخيله من الميزانية العامة للدولة، ويؤدي لموظفيه من الميزانية ذاتها، لكنه لا يتوانى -في المقابل- عن رفع عصا التمرد بوجه من لهم الوصاية عليه، بمنطوق الدستور وبالنظر إلى اللوائح القانونية المعمول بها

ولما تأكد لديه، مع مرور الزمن أن شعار "محاربة الفساد" الذي رفعه طيلة حملته الانتخابية السابقة على فوزه برئاسة الحكومة، ركب ناصية البراغماتية، ورفع بالواضح الصريح لواء "عفا الله عما سلف"، في إشارة مباشرة إلى استحالة القضاء على ظاهرة هي أقرب إلى السراب غير المتناهي منها إلى الواقع المادي المحصور.

لن يستطيع المرء الادعاء بأن الرجل (رئيس الحكومة المغربية أقصد) قد أصبح من حينه عنصرا مطواعا لدى الثاوين خلف منظومة الفساد، لكنه يستطيع الجزم حقا بأنه بات مهادنا لها، متساكنا معها، غير متحامل عليها، كما كان الأمر من ذي قبل، أي قبل ما يتأكد لديه بما يقطع الشك باليقين، بأنه بإزاء أخطبوط حقيقي، لا يكترث بقطع رأس له، ما دام متيقنا بأن عملية القطع هاته ستفرخ من تلقاء نفسها، رؤوسا أكثر بأسا وأقوى عدوانية وجلدا.

بيد أن الذي ربما لم يخلد بحسبان الرجل أن الأخطبوط لا يتحكم فقط في مفاصل الثروة والسلطة والقرار، بل يتعدى ذلك إلى تحكمه في شتى مصادر السلطة الناعمة، والإعلام العمومي أحد أعمدتها الكبرى، لم يكن معتادا في تاريخ المغرب الحديث أن يخرج عن طوع السلطة، أو عن منطوق الخطاب الرسمي الذي كان (الإعلام العمومي أعني) مجرد عاكس له أو مروج لمضامينه، أو مشرع لروحه ومظهره.

ليست طبيعة السلطة "الجديدة" التي بشرت بها حكومة بنكيران هي التي فجرت الانتفاضة في وجهه من هنا كما من هناك، بل "تصميمها" على أن تمارس السلطة ذاتها إذا لم يكن بقطيعة نسبية مع ما كان سائدا، فعلى الأقل من خلال تطعيمها بآليات وقواعد جديدة (أخلاقية في جزء منها)، تكرس قولا وفعلا منطوق الدستور بأن كل مرافق الإدارة هي رهن إشارة الحكومة، أي أداتها العملية لتطبيق سياستها، وتنفيذ ما يصدر عنها من قرارات وتوجيهات. حتى بعدم اتفاق هذا المرفق أو ذاك، مع فلسفة السياسة ذاتها، أو اعتراضه الضمني على ما يترتب عليها من آثار وتبعات.

وإذا تسنى لنا اليوم أن نسلم بأن حكومة بنكيران قد استطاعت -وإلى حد بعيد- "استمالة" المتحكمين في أدوات الإنتاج وأصحاب الرساميل، ثم ضبط بعض مظاهر تسيب هذه المصلحة الإدارية أو تلك، فإنها لم تستطع حتى كتابة هذه السطور أن تخضع الإعلام العمومي (لا سيما شقه المرئي والمسموع) لتصورات الحكومة في هذا القطاع، ولا للسياسة القطاعية العامة التي ترتبت عن التصورات ذاتها.

إننا بهذه الحالة إنما إزاء مرفق عمومي، يجتبي جزءا من مداخيله من الميزانية العامة للدولة، ويؤدي لموظفيه من الميزانية ذاتها، لكنه لا يتوانى -في المقابل- عن رفع عصا التمرد بوجه من لهم الوصاية عليه، بمنطوق الدستور وبالنظر إلى اللوائح القانونية الجاري العمل بها.

-2-

لم تبدأ عملية شد الحبل بين حكومة بنكيران وقنوات القطب العمومي كحالة عرضية عابرة، قد تكون مجرد تعبير عن سوء فهم هنا أو سوء تقدير هناك، إنها عملية لازمت سلوك الطرفين منذ اليوم الأول، وبقيت ملازمة لسلوكهما، تتأجج نيرانها تارة، ويخف وهجها حسب الظروف ومستجدات واقع الحال.

ولعل أول "حادثة" دشنت عملية شد الحبل هاته هي إقدام وزارة الاتصال (الوصي الحكومي المباشر على قنوات القطب العمومي) على صياغة دفاتر تحملات عمدت الوزارة إياها على تضمينها منظورها في إصلاح القطاع، في حين بدت للمشرفين المباشرين على القطاع ذاته بداية توجه من لدنها للهيمنة التدريجية على وسائل الإعلام العمومي، وتحويلها إلى ناطق رسمي باسمها، يأتمر بأوامرها وينتهي إن صدرت له أوامر النهي من لدنها.

لم تبدأ عملية شد الحبل بين حكومة بنكيران وقنوات القطب العمومي كحالة عرضية عابرة، قد تكون مجرد تعبير عن سوء فهم هنا أو سوء تقدير هناك. إنها عملية لازمت سلوك الطرفين منذ اليوم الأول، وبقيت ملازمة لسلوكهما، تتأجج نيرانها تارة، ويخف وهجها حسب الظروف

إن "السابقة" في هذه الواقعة لم تقتصر على التعبير عن رفض الدفاتر بالطرق الإدارية الرسمية بين رؤساء ومرؤوسين، بل تعدتها لدرجة خروج المرؤوسين إياهم للمنابر المكتوبة، والجهر بأنهم لن يقبلوا بها بأي شكل من الأشكال، ولن ينفذوا مضامينها وتوجيهاتها، وإن "قيمتها" -في ما صدر عن البعض- لا تتعدى قيمة الحبر الذي كتبت به.

وعلى الرغم من التدخل المباشر للملك للحد من "فتنة الدفاتر" (باعتماد أخرى "معتدلة وملينة")، و"تنبيه" الحكومة إلى ضرورة اعتماد مسلك التشاركية والتوافق في صياغة القوانين، فإن ذلك لم يقلص من سعة انعدام الثقة بين الطرفين، وتنابزهما بالألفاظ تارة بالمنابر المكتوبة بالنسبة للقائمين على الإعلام العمومي، وتارة بين ردهات البرلمان، حينما يشتكي رئيس الحكومة من تجاوز القناة التلفزيونية الثانية تحديدا، ورفع موظفيها (لا سيما مديرة أخبار القناة نفسها) عصا التمرد والتحدي بوجهه وبوجه حكومته.

تقول مديرة أخبار القناة الثانية إن "بنكيران يريد إعلاما شبيها بإعلام القذافي وكوبا.. إن الذي يوجد في المغرب هو الملك وأمير المؤمنين، والباقي غير مهم".

وتقول في سياق آخر "لو كان بمقدور بنكيران أن يقيلني من منصبي ومهامي لفعل ذلك من وقت طويل.. فليس له الحق والصلاحيات لإقالتي".

ولما كان الأمر كذلك (ولربما أكثر) فإن القناة الثانية لم تمل من حينه من استفزاز رئيس الحكومة، لدرجة اعتراف هذا الأخير بأن تلك القناة تجاوزت مرحلة التحامل والاستهداف، وشرعت في تنفيذ مسلسل من التشويش على تجربته، "باختلاق" مواقف محرجة له، أو بتمرير مواد برامجية تدرك القناة جيدا أنها لن تترك الرئيس إياه على الحياد.

ثمة نموذجان اثنان يشهدان على هذا السلوك، ويترجمان بقوة للحرب، الخفية والمعلنة، الجارية أطوارها بين الطرفين:

– الحدث الأول يتمثل في إقدام القناة الثانية (وعلى النقيض من الموقف الرسمي الجاري) على بث تقرير إخباري تروج من خلاله على أن ما جرى بمصر منذ الثلاثين من يونيو/حزيران، إنما هو انقلاب عسكري متكامل الأركان والأوصاف، وأن ما وقع بميدان رابعة إنما هو مذبحة حقيقية راح ضحيتها أناس ذنبهم الوحيد أنهم اعتصموا للتعبير عن رفضهم الانقلاب.

ومع أن التقرير قد عبر حقا عما يضمره بنكيران في قرارة نفسه مما جرى ويجري بمصر، فإنه استغرب -كما استغرب باقي المواطنين- من تغير لهجة القناة المفاجئ، تماما كما تساءل -شأنه في ذلك شأن باقي المواطنين- عن الجهة الثاوية خلف توقيت بث هذا التقرير، والآية من اعتبار القناة لذلك في ما بعد مجرد "خطأ مهني"، لا يجب تحميله أكثر مما يحتمل.

– أما الحدث الثاني فيكمن في نقل القناة سهرة أقامتها المغنية الأميركية جنيفر لوبيز في إطار "مهرجان موازين" المثير للجدل، وتخللتها مشاهد وإيحاءات اعتبرتها الحكومة خادشة للحياء العام، ومخلة بالأخلاق ومظاهر الحشمة التي "حرمت" دفاتر التحملات المعدلة مجرد الاقتراب منها.

لم يستطع رئيس الحكومة معاقبة القناة على ما أقدمت عليه، ولم يفلح في استصدار استفسارات للقائمين عليها، بل اكتفى مصغرا بمراسلة هيئة (الهيئة العليا للاتصال السمعي/البصري" صاحبة تنفيذ بنود دفاتر التحملات، ومراقبة البرامج) يدرك جيدا أنها "لا تهش ولا تنش" كما يقال، بدليل التزامها الصمت حتى الساعة، إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا.

-3-

لو كان للمرء أن يسائل الخلفية التي على أساسها يرفع الإعلام العمومي (والقناة الثانية تحديدا) عصا التمرد في وجه بنكيران وحكومته، لاستوقفته بالتأكيد حقيقتان اثنتان طالما أشرنا إلى أنهما العقبة الكأداء بوجه أي إصلاح فعلي لهذا القطاع:

الإعلام العمومي (القنوات التلفزيونية والمحطات الإذاعية العامة) بقي من ضمن القطاعات الإستراتيجية التي كانت تاريخيا من صلاحيات الملك ومن مجال نفوذه، لا سيما بعدما تم تسطير الصلاحيات وفق قاعدة "ما للملك وما لرئيس الحكومة"

– الحقيقة الأولى ومفادها أن الإعلام العمومي (القنوات التلفزيونية والمحطات الإذاعية العامة) بقي من ضمن القطاعات الإستراتيجية التي كانت تاريخيا من صلاحيات الملك ومن مجال نفوذه، لا سيما بعدما تم تسطير الصلاحيات وفق قاعدة "ما للملك وما لرئيس الحكومة".

ولذلك، فعندما ترفع مديرة الأخبار بالقناة الثانية عصا الطاعة في وجه رئيس الحكومة، وتتحداه إن كان بمقدوره إزاحتها من منصبها، فلأنها تدرك جيدا أن الأمر يتجاوزه، وأن رئيسها المباشر هو مدير عام القناة، ثم المدير العام للقطب العمومي، اللذان يختارهما الملك ويعينهما دون اقتراح من رئيس الحكومة، أو استشارته حتى، إنه منطق الاختصاص الذي لا يعلى عليه، كما يقول رجال القانون.

– أما الحقيقة الثانية فمؤداها أن الإعلام العمومي وبكل روافده (لا سيما المرئية منها) كانت طيلة تاريخ المغرب المستقل، من ضمن قطاعات السيادة المرتبطة مباشرة (بوجود نص أو بدونه) بالبلاط الملكي وبالدوائر الضيقة المقربة منه، لا سيما وزارة الاتصال ووزارة الداخلية.

بالتالي، فقد كان الإعلام العمومي -على امتداد تاريخه- جزءا من منظومة وليس منظومة قائمة الذات، أي كان جزءا من جهاز مادي ورمزي وليس جهازا قائما، دع عنك أن يكون خاضعا للتموجات السياسية وفق طبيعة هذه الحكومة أو تلك، أو طبيعة توجهاتها.

ولهذا السبب، فإننا مستعدون لأن نجزم بأنه إذا بقيت الأمور على هذا النحو، فلن تستطيع أية حكومة تصريف مشروع لها بالقطاع، إذا لم يكن يتساوق بالجملة والتفصيل مع ما ترضاه المنظومة وترتضيه. والشاهد على ذلك أن حكومة بنكيران لم تستطع تمرير مشروعها، ولا إقناع المنظومة لثني القناة الثانية مثلا -على الأقل- عن المواجهة مع الحكومة إياها، أو دفعها إلى عدم تمرير ما قد يكون من شأنه أن يمثل إحراجا لها.

هل يمكن -والحالة هاته- اعتبار الإعلام العمومي جزءا من منظومة الدولة العميقة، التي لا تخشى أو تخجل من إعلان مناهضتها الإصلاح، الذي وعد بنكيران بمباشرته ضمن أولوياته؟

قد لا نعدم الأمثلة لإثبات ذلك حقا، وقد لا نعدم بعضا منها لإثبات العكس أيضا، لكن الذي يبدو لنا أكثر بداهة هنا إنما حقيقة أنه ليس ثمة حتى الساعة حدّ أدنى من الإرادة السياسية لمباشرة إصلاح قطاع بات بسلوكه دولة داخل الدولة، بل قل بات في حالة حكومة بنكيران دولة ضد الدولة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.