دائرة الخداع.. قصة مخبر القاعدة

برومو "مخبر القاعدة"


اختار هاني مجاهد أن يروي قصته للجزيرة بعد أن وجد نفسه في مأزق: حينما حاول عنصر القاعدة الذي تحول إلى مخبر للحكومة اليمنية أن يطلع المخابرات الأميركية على ما لديه من مزاعم بأن اليمن كان يمارس لعبة مزدوجة في الحرب على القاعدة، وجد نفسه معتقلا ويتعرض للضرب المبرح على أيدي عناصر الأمن اليمني. فلما لم يعد بإمكانه الثقة بأي من الجهات المعنية، تحوّل إلى الإعلام ليروي قصته.

إذا ثبتت صحة مزاعمه فإنها ستكون بلا شك محرجة جدا لواشنطن. ومع ذلك تعتبر شهادة شخص مثل هاني مجاهد الذي كان في السابق جنديا من جنود القاعدة، قيمة بحد ذاتها، لأنها تسلط الضوء على تجربة رجل استجاب لنداء أسامة بن لادن فالتحق به وأصبح واحدا من جنوده.

وبحسب ما يرويه مجاهد، فقد أصبح واحدا من الشخصيات النافذة المقربة من أعلى مستويات صناعة القرار داخل تنظيم القاعدة في جزيرة العرب وداخل الأجهزة الأمنية اليمنية في نفس الوقت، وخلص في النهاية إلى أن هذين الكيانين يشتركان فيما بينهما في أكثر بكثير مما هو معلوم في العادة لدى العامة.

* * * * *

أصبح مجاهد من الشخصيات النافذة المقربة من أعلى مستويات صناعة القرار داخل تنظيم القاعدة في جزيرة العرب وداخل الأجهزة الأمنية اليمنية في نفس الوقت، وخلص في النهاية إلى أن هذين الكيانين يشتركان فيما بينهما في أكثر بكثير مما هو معلوم في العادة لدى العامة

بدأت قصة مقابلة شبكة الجزيرة مع هاني مجاهد يوم 5 ديسمبر/كانون الأول ٢٠١٣ حينما تمكن مقاتلون من تنظيم القاعدة في جزيرة العرب يرتدون زي الجيش اليمني من تجاوز الحراسات الأمنية واقتحموا المجمع التابع لوزارة الدفاع اليمنية، فشنوا هجوما استغرق عدة ساعات تمخض عنه دمار شامل وأدى إلى مقتل ٥٢ شخصا معظمهم من المدنيين العزل ومن طواقم الإسعاف الطبية التابعة لمستشفى المجمع.

نجم عن ذلك الهجوم إجماع غير مسبوق في صفوف جميع الفصائل السياسية والدينية اليمنية على التنديد بتنظيم القاعدة في جزيرة العرب، وقد هال هذه الفصائل وأغضبها استهداف التنظيم للمسلمين الأبرياء داخل المستشفى، ويبدو أن هذا الحدث هو الذي دفع هاني مجاهد إلى التواصل مع المحامي عبد الرحمن برمان (٤٢ عاما).

لم يكن برمان قد تولى بعدُ أي قضية لهاني مجاهد، إلا أنه كان قد التقى من قبل بكثير من الرجال من أمثال هاني بحكم أنه مدير "هود"، المنظمة اليمنية غير الحكومية الوحيدة المتخصصة في مساعدة ضحايا التجاوزات التي تمارسها أجهزة الأمن الحكومية. وقد عرف عن برمان استعداده لنجدة الشباب الذين ينحدرون من عائلات فقيرة، والذين ربما حفزتهم المضايقات التي يتعرضون لها على أيدي الأجهزة الأمنية على الانضمام إلى صفوف القاعدة.

وأمام حالات الاضطهاد التي تمارسها السلطات اليمنية ضد عائلات بأكملها، وما تتعرض له هذه العائلات من اقتحامات ليلية لبيوتها يتمخض عنها اعتقال رجالها وسجنهم سنوات طويلة دون توجيه تهم أو تقديمهم إلى محاكمات، شعر المحامي برمان أنه يتوجب عليه التدخل. ويقول في ذلك "أدركت أن ثمة خطورة بالغة في أن يفكر ضحايا مثل هذه الإجراءات التعسفية القمعية في الانضمام إلى صفوف القاعدة، ولذلك بدأت في تولي قضاياهم وتطوعت للدفاع عن هذه العائلات التي لم تجد من المحامين من يوافق على الدفاع عنها".

لقد حفز الهجوم على المستشفى هاني مجاهد على التواصل مع المحامي عبد الرحمن برمان ليعرض عليه أمرا ما كان ليخطر على باله.

كانت وسيلة التواصل الأولى رسالة نصية وجهها هاني إلى المحامي وقال له فيها "أخي عبد الرحمن اعتبرني مهاجما انتحاريا من نوع آخر.. ستكون قنبلتي هي المعلومات التي سأكشف عنها". أغلق المحامي هاتفه غير متأكد مما إذا كان صاحب هذه الرسالة مجرد إنسان يعاني من إرهاق يوم شديد أم لا.

* * * * *

كان هاني مجاهد قد قابل برمان من قبل، وكان ذلك عبر بعض موكليه الذين تعرضوا للتضييق من قبل الأجهزة الأمنية التابعة للرئيس السابق علي عبد الله صالح.

يقول مجاهد إنه عندما كان محتجزا في وضع مزر داخل سجن صنعاء، عُرض عليه العمل مخبرا لدى أقوى جهازين من أجهزة الأمن في اليمن: مكتب الأمن القومي وجهاز الأمن السياسي، وإن الذي بادر بعرض ذلك عليه هو خاله الذي كان ضابطا في الأمن السياسي

لم تكن قصة مجاهد بالنسبة للمحامي فريدة من نوعها، وذلك أن إعلان بن لادن النفير العام ودعوته إلى الجهاد العالمي لمعالجة المشاكل التي يعاني منها العالم الإسلامي كانا قد وجدا آذانا صاغية واستجابة كبيرة في صفوف كثير من الشباب في اليمن، وكان هاني مجاهد واحدا من هؤلاء، حينما قرر عام 1998 الاستجابة للنداء، وكان حينها في العشرين من عمره، عاطلا عن العمل، ولا يحمل من المؤهلات سوى شهادة الثانوية العامة.

سافر مجاهد إلى أفغانستان، وتلقى التدريب في معسكري الفاروق وآيناك التابعين للقاعدة، حيث أصبح فيما بعد مدربا يعلم الآخرين ما تعلمه هو من قبل.

إثر الغزو الأميركي لأفغانستان بعد هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001 اضطر هاني مجاهد وإخوانه في القاعدة عام 2002 للانسحاب إلى المناطق القبلية في باكستان، ومن هناك بدؤوا يشنون هجماتهم على الولايات المتحدة وحلفائها قبل أن يُلقى القبض عليهم في كويتا في سبتمبر/أيلول 2004 على أيدي عناصر من المخابرات الباكستانية.

بعد أسابيع من جلسات التحقيق المنفصلة التي كان يجريها معه تارة عملاء المخابرات الباكستانية وتارة أخرى عملاء المخابرات الأميركية، وبعد اعتقال استمر أربعة أشهر، رُحّل هاني مجاهد جوا إلى اليمن حيث سجن حتى العام 2006.

يقول مجاهد إنه عندما كان محتجزا في وضع مزر داخل سجن صنعاء، عُرض عليه العمل مخبرا لدى أقوى جهازين من أجهزة الأمن في اليمن: مكتب الأمن القومي وجهاز الأمن السياسي، وإن الذي بادر بعرض ذلك عليه هو خاله الذي كان ضابطا في الأمن السياسي، والذي تمكن في نهاية المطاف من إقناع رجل القاعدة بالانتقال إلى الجانب الآخر، انطلاقا من الإحساس بالواجب الوطني.

ما من شك في أن مجاهد كان صيدا ثمينا لأي مسؤول أمن يتطلع إلى اختراق تنظيم القاعدة، فالرجل كان معروفا وموضع ثقة لدى كبار القياديين في فرع التنظيم الناشئ في اليمن، والذي أصبح يعرف باسم القاعدة في جزيرة العرب، فهؤلاء القياديون هم الذين رافقهم وعمل معهم في أفغانستان. ولكنه بمجرد ما بدأ يزود عملاء الأجهزة الأمنية اليمنية بالمعلومات حتى أدرك -كما يقول- أنهم أبعد ما يكونون عن الجدية في مكافحة القاعدة.

وأول حادثة أقلقته من هذا الجانب كما يشرح مجاهد، كانت الهجوم الذي شنه تنظيم القاعدة يوم 2 يوليو/تموز 2007 وتمخض عنه مقتل عشرة أشخاص كان منهم ثمانية سياح إسبان. يقول مجاهد إنه حذر ضباط الأمن الذين يتواصلون معه من أن ترتيبات تجري لشن الهجوم قبل أسبوع من العملية، ثم حذرهم تارة أخرى في صباح يوم الهجوم، إلا أن تحذيراته ذهبت أدراج الرياح ولم تتدخل السلطات بتاتا لإحباط العملية.

ثم ما لبث أن تكرر ذلك يوم 17 سبتمبر/أيلول 2008 حينما وقع هجوم على السفارة الأميركية في صنعاء أودى بحياة 19 شخصا، كان معظمهم من المواطنين اليمنيين.

 
يدعي هاني مجاهد في الفيلم الوثائقي الذي أعدته شبكة الجزيرة بأن العقيد عمار محمد صالح، ابن شقيق الرئيس اليمني في ذلك الوقت -والذي كان الرجل الثاني في مكتب الأمن القومي- قد زود تنظيم القاعدة في جزيرة العرب بالمال وبالإجراءات اللازمة للحصول على المتفجرات التي استخدمت في الهجوم.

* * * * *

يقول مجاهد إنه حاول في نوفمبر/تشرين الثاني 2010 أن يوصل ما لديه من معلومات إلى المخابرات الأميركية، وذلك عبر التواصل المباشر مع السفارة الأميركية في صنعاء.

كان أول تواصل لمجاهد مع المحامي برمان عبر رسالة نصية قال له فيها: أخي عبد الرحمن اعتبرني مهاجما انتحاريا من نوع آخر.. ستكون قنبلتي هي المعلومات التي سأكشف عنها

وكانت المخابرات الأميركية قد وافقت هاتفيا على الالتقاء به منفردا في فندق موفنبيك، ولكنهم فيما يبدو أحالوا أمره إلى السلطات اليمنية، فلم يتم اللقاء في الفندق لأن ما جرى -حسب قول مجاهد- أنه اختطف من الشارع من قبل عناصر من مكتب الأمن القومي بينما كان يسير باتجاه الفندق لحضور الموعد الذي جرى الاتفاق عليه. ألقى به رجال المخابرات داخل العربة وضربوه وعصبوا عينيه، ثم نقلوه إلى حيث احتجز في العزل الانفرادي لمدة أسبوع. يقول مجاهد إن هذه التجربة حطمته تماما.

بعد ذلك زاره العقيد عمار في المستشفى كما يقول، ووافق فيما بعد على إطلاق سراحه، بل ورتب له لقاء مع المخابرات الأميركية بعد مغادرته المستشفى. إلا أن هاني مجاهد لم يعد بعدما جرى له يثق بالسلطات اليمنية ولا بالمخابرات الأميركية.

يقول مجاهد إنه بعد الخروج مما كان فيه سعى لبدء حياة جديدة، إلا أنه وجد نفسه رهين لعبة مزدوجة تمارسها أجهزة الأمن اليمنية ضد حلفائها الأميركيين. ويعبر عن ذلك محاميه عبد الرحمن برمان بالقول "لقد كان النظام السابق يستخدم القاعدة كفزاعة يستهدف من خلالها الأميركيين والأوروبيين للحصول على الدعم بحجة مواجهة القاعدة، بينما كان النظام نفسه هو الذي يوجه بعض عملياتها".

في نهاية المطاف، وبعد مشاورات مكثفة مع محاميه، لم يجد هاني مجاهد مخرجا من هذا المأزق سوى اللجوء بقضيته إلى الإعلام.

في مطلع العام 2014 كان المحامي برمان قد اجتمع مع مجاهد وعدد من زملائه الحاليين والسابقين في تنظيم القاعدة للتداول بشأن خطة للكشف عن كل ما لديهم أمام وسائل الإعلام، إلا أن مجاهد كان الوحيد الذي مضى قدما في هذا الأمر.

* * * * *

في موقع خارج منطقة الخليج العربي، انضم عبد الرحمن برمان إلى هاني مجاهد على مدى ثلاثة أيام أجرت الجزيرة خلالها مع مجاهد المقابلة في خريف العام ٢٠١٤. وفي وقت لاحق، وافق المحامي على إجراء مقابلة منفصلة معه للقناة.

في تلك الأثناء كان اليمن في طريقه إلى الحرب.

كان رئيس الولايات المتحدة قد أدلى بتصريح لا ينسى في سبتمبر/أيلول 2014 وصف فيه اليمن بأنه قصة نجاح في مكافحة الإرهاب. ومما قاله الرئيس باراك أوباما حينذاك أن "تصفية الإرهابيين الذين يهددوننا بالتوازي مع الاستمرار في دعم شركائنا على خطوط المواجهة، هي الإستراتيجية التي انتهجناها بنجاح لعدة سنوات في كل من اليمن والصومال".

لكن برمان ومجاهد يرويان قصة مختلفة تماما. يقول المحامي "أعتقد أن السياسة الأميركية لمكافحة الإرهاب في اليمن سياسة فاشلة، حيث لم ينجم عنها سوى تعزيز القاعدة، فكلما بدا أن هذه المنظمة بدأت في التلاشي تعود السياسة الأميركية الخاطئة لتبعث فيها الحياة من جديد، وذلك ببساطة لأن السياسة الأميركية تحرض الشباب على الانضمام إلى القاعدة".

في موقع خارج منطقة الخليج العربي، انضم عبد الرحمن برمان إلى هاني مجاهد على مدى ثلاثة أيام أجرت الجزيرة خلالها مع مجاهد المقابلة في خريف العام ٢٠١٤. وفي وقت لاحق وافق المحامي برمان على إجراء مقابلة منفصلة معه للقناة

ويشير برمان في هذا الصدد إلى النتائج العكسية التي تنجم عن الهجمات التي تشنها الولايات المتحدة على مواقع داخل اليمن باستخدام طائرات بلا طيار.

وبحسب التقديرات المتحفظة لمكتب التحقيقات الصحفية الذي يتخذ من المملكة المتحدة مقرا له، بلغ عدد المدنيين الذين قتلوا في أكثر من 97 هجمة شنتها طائرات بلا طيار في اليمن ما بين 65 و97 شخصا.

يعلق برمان على ذلك بالقول إن الهجمات التي تشنها هذه الطائرات الأميركية "حفزت الكثير من المواطنين العاديين على القول إن الأميركيين يستهدفون كل الناس (بشكل عشوائي) وإن الأميركيين إنما يقتلوننا لأننا مسلمون فقط، وبناء عليه فإن كل من يقاتل أميركا فهو على الصراط المستقيم. ولقد انضم كثير من الشباب فعلا إلى القاعدة بسبب هذه السياسة".

لم يتردد هاني مجاهد في التعبير عن رأيه بصراحة ودون مواربة بشأن الأميركيين وبشأن القاعدة، تلك المنظمة التي كان في يوم من الأيام يعشقها وكان على استعداد لأن يضحي بحياته من أجلها. سألته كيف كان أسامة بن لادن سينظر إلى تنظيم القاعدة في جزيرة العرب اليوم وقد أضحى حال هذا التنظيم كحال الأميركيين تماما إذ يشن الهجمات داخل اليمن، موطنه الأصلي، فقال "لم يكن الشيخ أسامة بن لادن يرى مطلقا (الحاجة إلى) ممارسة الجهاد في اليمن.. لقد كان يؤمن بذلك، وكان يعتقد بأن شباب اليمن والناس في اليمن إنما هم شعب المؤازرة والمساندة لمشروعه الجهادي في الأقطار الأخرى من العالم. أما فيما يتعلق باليمن، فلم يكن يرى ذلك بتاتا".

تسلط شهادة هاني مجاهد الضوء على ما يجول بخاطر الشباب الذين اختاروا الانخراط في صفوف القاعدة، وتقدم وجهة نظر في غاية الأهمية علها تسهم في الجهود الدولية التي تبذل لفهم ومواجهة هذه المنظمة.

كما أن من شأن وجهات النظر تلك أن تكشف عن حقائق غير مريحة فيما يتعلق بشعار "الحرب الكونية على الإرهاب" الذي ظهر ما بعد هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001، وأن تطرح سؤالا عما إن كان أحد أهم الحلفاء في الحرب ضد القاعدة -في واقع الأمر- منخرطا في لعبة مزدوجة، هدفها التلاعب بصانع القرار في واشنطن.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.