محنة المثقف العربي وتجلياتها في تجربة الثورة

Libyans celebrate the fourth anniversary of the revolution against Muammar Gaddafi at Martyrs' Square in Tripoli, February 17, 2015. REUTERS/Ismail Zitouny (LIBYA - Tags: POLITICS CIVIL UNREST ANNIVERSARY)

خلل في الأولويات
غياب الرؤية الإستراتيجية
ضعف الوازع الديمقراطي

ظن كثيرون -ونحن من بينهم- أن ثورة الحرية والكرامة المنطلقة من تونس كانت صورة لتحوّل عميق داخل النخبة المثقفة والطبقة السياسية، وهو تحول تاريخي لا رجعة فيه عنوانه: تأسيس الحرية مقدّم على الفرز الأيدولوجي.

وتجلى هذا النضج في ظواهر نضالية في مقاومة الاستبداد بغاية كسر هيمنته، وتمكين الناس من الاختيار الحر. وعلى هذا المعنى اجتمع المناهضون للاستبداد وفي مقدمتهم المثقفون، رغم اختلاف مشاربهم الفكرية وتنوع تجاربهم السياسية. فكان ربيع دمشق  في سوريا والحراك الجنوبي في اليمن وكانت حركة كفاية في مصر وحركة 18 أكتوبر في تونس، ثم كان تفجر الانتفاض الشعبي قويا محملا بوعود جامحة في الحرية والكرامة. غير أن من جمعتهم مقاومة الاستبداد فرّقتهم أجواء الحرية، بعد زوال رموز الاستبداد وما لحق بالمنظومة القديمة من زلزلة وما ارتسم من منسوب عال للحرية.

خلل في الأولويات
يعلم المتتبعون لمسار الثورة في المجال العربي أنها مرت فقط بالأقطار التي شهدت التحول المذكور بما هو التقاء تاريخي حول مطلب الحرية والكرامة، في حين كانت الأقطار التي لم تشهد مثل هذا التحول أقرب إلى أن تكون أرضية مواتية لما سيسمى فيما بعد بالثورة المضادة.

يستدعي سياق الحديث أنظمة خليجية بعينها مثلت عبر تاريخها الطويل كيانات سياسية عائلية ترى في الديمقراطية تهديدا جديا لمستقبلها، وترى في القوى السياسية -التي تُعتبر من شروط تأسيس الديمقراطية- عدوا فعليا وإن تقاطعت مع بعضها مرجعيا، ومن بينها تيار الإسلام السياسي الذي كان في مقدمة القوى المفوضة ديمقراطيا لتسيير المرحلة الانتقالية في ثورات الربيع العربي.

كان أمام قوى الثورة -على تباين مرجعياتها- مهمة أساسية تتمثل في محاسبة المنظومة القديمة على قاعدة العدالة الانتقالية، ولكن عودة الاستقطاب الأيدولوجي القوية واحتدام الصراع السياسي أخلا بهذه الأولوية وأغرقا التجربة الغضة في مشاكل جديدة

كانت إزاحة الاستبداد مقدمة لانتخابات حرة وديمقراطية شهدتها بعض أقطار الربيع العربي مثل تونس وليبيا ومصر. ولكن هذه الانتخابات وما انجر عنها من تفويض قوى وطنية وديمقراطية واجتماعية -في مقدمتها الإسلام السياسي- كانت سببا قويا لعودة الاستقطاب الأيدولوجي بقوة. وكان هذا الاستقطاب كافيا لإجهاض أولى محاولات تأسيس الحرية في مجتمعات كسر الاستبداد شوكتها وهدد التفقير تعففها وحال التهميش دون اندماجها.

كان أمام قوى الصف الثوري -على تباين مرجعياتها واختلاف صلتها بالثورة- مهمة أساسية تتمثل في محاسبة المنظومة القديمة على قاعدة العدالة الانتقالية. ولكن عودة الاستقطاب الأيدولوجي القوية واحتدام الصراع السياسي أخلا بهذه الأولوية وأغرقا التجربة الغضة في مشاكل جديدة، وألهياها عن الاهتمام الفعلي باستحقاقات الانتفاضة التأسيسية والاجتماعية.

كان هذا الخلل فادحا، ومنه تسربت المنظومة القديمة. وكان المثقف يدرك هذا الأمر جيدا، ولكن الهوى الأيدولوجي كان أغلب، فاستُعيدت معركة الهوية بكل مفرداتها وبسائر تشنجاتها قبل الانتخابات وعلى إثرها. لذلك لم يكن منتظرا من نتائج الانتخابات غير تأجيج هذا الاستقطاب ليصبح قاعدة جديدة للفرز، وهذا ما أغرى الفائز فيها بأن يتقمص دور الحاكم دون اجتماع أدوات الحكم الفعلية بين يديه، ودفع الخاسر إلى إصرار عجيب على صفة المعارض، وهي صفة كان كثيرون يتحاشونها زمن الاستبداد.

كانت المرحلة تأسيسية بامتياز لا فضل فيها للفائز بالانتخابات إلا بما سيتحمله من مهمة التسيير في سياق عواصف السياسة العاتية وجحيم المطلبية الاجتماعية اللجوجة وسقف عال من الانتظارات المؤجلة.

الأصل أن الجميع معنيّ بالتأسيس، وكان تفويض البعض ضرورة إجرائية لتسيير المرحلة الانتقالية، وهي مرحلة التأسيس الدستوري تمهيدا لمرحلة البناء الإستراتيجي بما هي إعادة لبناء الدولة وهيكلة جديدة للمجتمع.

غياب الرؤية الإستراتيجية
لئن كان هناك ترحيب واسع بالثورتين التونسية والمصرية، فإن اختلافا مبدئيا حولهما كان منذ الوهلة الأولى، غير أنه بقي في حالة كمون، وكان اندلاع الثورة في سوريا كافيا ليظهره إلى السطح ويدفعه إلى أقصاه، وهو اختلاف في ظاهره سياسي وفي حقيقته مبدئي مداره على قضية الحرية. لذلك مثّل السياق السوري محطة مهمة في مسيرة الثورة في المجال العربي، ومن خلاله أمكن تبين مستويين مهمين في محنة المثقف: ونعني إغفال البعد العربي في الثورة، وما كان من تعارض بين المقاومة والثورة في السياق السوري.

كان البعد العربي غير واضح عند المثقفين، ومن المفارقة أن يكون أكثر غيابا عند القوميين منهم. ذلك أن كثيرا منهم لم يرتح للثورة حينما امتدت إلى أنظمة الاستبداد المحسوبة على المرجعية القومية في ليبيا وسوريا، وهو ما قوّى عندهم الميل إلى اعتبار الثورة في مجملها مؤامرة صهيونية أميركية لتجزيء المجزأ. وفي حقيقة الأمر كان الفكر القومي بتياراته المختلفة مهيأ أكثر من غيره للتفسير التآمري للأحداث بسبب ما عاشه من خيبات مريرة حتى صار هذا الضرب من التفسير جزءا من بنية التفكير عنده.

ارتبطت الثورة بالمجال العربي ولم تَفِضْ على ما سواه من المجالات المجاورة رغم أثرها القوي عليها، ورغم صداها الذي طال ضفاف الأطلسي فتردد شعارها المركزي في وول ستريت رمز العولمة الاقتصادية ومركز المال والأعمال في العالم: الشعب يريد إسقاط النظام

كانت الثورة تعبر بطريقتها عن بعدها العربي، وقد سرت في مواجهة الاستبداد ولم تفرق بين "الرجعي" و"التقدمي" من أنظمته. ولعل هذا الموقف الجذري من الاستبداد هو الذي سيسهل الالتقاء بين النخب الليبرالية واليسارية في مواجهة النتائج السياسية لأول انتخابات شفافة وديمقراطية وحرة في تاريخ العرب المعاصر. وتجلى هذا الأمر في تونس ومصر خاصة، ونسبيا في ليبيا واليمن. وانقلبت المعركة من معركة تأسيس إلى معركة أيدوولوجية بعنوان حماية قيم الحداثة التي أرستها الدولة الوطنية مما يتهددها من ثقافة ماضوية.

يظهر البعد العربي لثورة الحرية والكرامة في خريطة الثورة نفسها، فقد ارتبطت بالمجال العربي ولم تَفِضْ على ما سواه من المجالات المجاورة رغم أثرها القوي عليها، ورغم صداها الذي طال ضفاف الأطلسي فتردد شعارها المركزي في وول ستريت رمز العولمة الاقتصادية ومركز المال والأعمال في العالم: الشعب يريد إسقاط النظام.

ويعود الأمر في تقديرنا إلى أن المجال العربي الذي يمثل وحدة لسانية وجغرافية وثقافية لم يبن كيانه السياسي الجامع على غرار المجالين الجارين الإيراني والتركي، فبقي منطقة فراغ سياسي لم تتمكن "الدولة الوطنية" من ملئه. وصار هذا المجال موضوعا للتدخل الإقليمي والدولي، ولم تتوقف محاولات بنائه قوة سياسية واقتصادية، إلا أن الاستبداد والاحتلال كانا المانعين الأساسيين من اجتماعه، ليثبتا أنهما وجهان لحقيقة واحدة.

فكانت الثورة، وكانت الغاية البعيدة التي تجري إليها، وهي جمع المجال العربي وتوحيده الأدنى في قوة سياسية وثقافية واقتصادية وازنة.

وأما البعد الثاني فقد تمثل في ما قام من تعارض بين المقاومة والثورة ولا سيما في السياق السوري، وصرنا أمام فرز جديد شتت المشتت من المثقفين والسياسيين.

وكانت الثورة حدثا مهمًّا كشف أن المقاومة صنفان: "مقاومة عضوية" تستمد شروطها من بيئتها، وهي المقاومة التي كانت مع الثورة في كل سياقاتها ومثلت حماس مثالها الأنصع، رغم ما عرفته وتعرفه هذه المقاومة من حصار. و"مقاومة وظيفية" تستمد شروطها من خارج المجال العربي، ولذلك لم تكن مع الثورة في كل سياقاتها، ومثّل حزب الله في لبنان نموذجها الأوفى، وإن أعلن مساندته للربيع العربي. وتأكد أن من يعادي ثورة المجال العربي في موضع واحد من مواضعها، لن يكون إلا خصيمها في كل مواضعها، وإنْ أعلن مساندته للربيع. فالحق لا يُضاد الحق بل يوافقه ويشهد له.

وكانت النتيجة أن تحولت قِبلة المقاومة من جبهة "بنت جبيل" و"مارون الراس" إلى "القصير" و"يبرود"، وهي في كل ذلك صدى للإستراتيجيات الإيرانية في المنطقة. والمثير للدهشة ليس تغير قبلة المقاومة، وإنما غفلة المثقف عما يمكن أن تشهده مآلات المقاومة الوظيفية باتجاهات لا تنسجم مع ما كان لها من بلاء في تحرير لبنان وكسر شوكة العدو.

ضعف الوازع الديمقراطي
تجلى هذا الضعف في مساهمة المثقف في إفساد نتائج الاختيار الشعبي الحر، في السياقات التي توفٰرت فيها شروط الاختيار الحر. وقد ساهم في الإفساد من "انتصر" ومن "انهزم"، فمن تم تفويضه غَره هذا التشريف بقيادة المرحلة التأسيسية وظهرت عليه بوادر من اغتر "بالانتصار" وظن أنه يحكم. وهذا ما حدا بمن آلمه "الانكسار" وخشي الاستهداف إلى أن ينتصب معارضا في مرحلة لم تتوفر فيها شروط المعارضة لأن الجهد كان منصبّا على توفير هذه الجهود نفسها، وهي شروط الحياة الديمقراطية بما هي تداول سلمي على السلطة.

وظهر ضعف الوازع الديمقراطي أكثر في عدم الالتزام بقواعد اللعبة المتفق عليها والعمل على تغييرها، فصار الصراع بين شرعيتين انتخابية وتوافقية. والأصل أن تتكامل الشرعيتان منذ البداية بتأثير من الثقافة الديمقراطية والوعي بخصوصية المرحلة. وإن مرجعية الثقافة الديمقراطية تجعل من الشرعية الانتخابية منطلقا، ومن الشرعية التوافقية ضامنا.

وإذا كان الوازع الديمقراطي حصانة المثقف في عالم تطغى فيه المصلحة على القيمة، فإن ضعفه يجعل منه عرضة لتقلبات السياسة. ويتوضح هذا الأمر في السياقات الشديدة التوتر وفي الأزمات الكبرى. ولقد كانت الأزمة اليمنية سياقا مكن من اختبار طبقة المثقفين. وأمكن أن نلمح لهم ثلاثة مواقف منها:

تمثل الموقف الأول في اصطفاف فئة واسعة من المثقفين وراء عاصفة الحزم في محاولة غير موفقة لتأسيس هذا الموقف العسكري "الخليجي" غير المسبوق في ثورة الحرية والكرامة. واستند كثير منهم إلى فكرة التدخل الخارجي الإيراني والتركيز على تحالف الحوثيين/صالح، مع تسليط ضوء قوي على البعد الطائفي في المكون الحوثي والتذكير بأن صالح صورة يمنية من نظام الاستبداد والفساد العائد.

وأما الموقف الثاني فقد كان داعما للتمدد الحوثي و"عودة" صالح القوية ولكن بعنوان الثورة اليمنية المنتصرة على ما كان من ترتيبات خليجية دولية. ولا تظهر إيران في وجهة النظر هذه إلا باعتبارها داعما سياسيا للشعب اليمني. وفي بعض الأحيان تكون الإشارة إلى الصراع الإيراني الأميركي في المنطقة.

وبقدر ما يتم إظهار الولايات المتحدة بمصالحها التقليدية في الموقف الثاني، يُعمد إلى إبراز إيران في الموقف الأول من خلال التحذير من خطورة البعد الطائفي وما يتهدد أهل السنة من مخاطر "الهلال الشيعي" الذي بدأ يتمدد في فراغ المجال العربي الذي يناظر من يجمع شتاته.

الشروط التي أطلقت ثورة المجال العربي بوعودها في الحرية والكرامة بصدد الاجتماع، ويبدو أن الردح على رماد الثورة لن يطول.. "حذارِ! فتحت الرماد اللهيب"، مثلما صاح أبو القاسم الشابي يوما في وجه فرنسا اليعقوبية المحتلة

وأما الموقف الثالث -وهو موقف أقلية من المثقفين- فيمثل محاولة تجاوز أساسها التفطن إلى أن ما نعيشه اليوم لا يعدو أن يكون "ردحا على رماد الثورة". ولا يمثل الرئيس عبد ربه منصور هادي إلا مرحلة تحول ثورة الميادين والحشود العظيمة إلى "أزمة سياسية" كان الجوار اليمني فاعلا في صياغتها بجعل نظام صالح أحد أهم أطرافها وإضعاف القوى التي كان يمكن أن تمثل قاعدة النظام الجديد. وكان تعطل مسار الانتقال الديمقراطي فراغا تمدد فيه تحالف الحوثي/صالح ومقدمة لتحول الأزمة إلى "احتراب أهلي" "فحرب إقليمية".

وإذا كان اندلاع الاحتراب الأهلي "ردحا محليا" على رماد الثورة، فإن انطلاق عاصفة الحزم يجعل منه "ردحا إقليميا". وبدت عاصفة الحزم أقرب إلى العبث، إذ لا يعقل أن يتم تهميش القوة الشعبية في الثورة قبل العاصفة، وبعد انطلاقها يُكتشف أنه لا نتائج ملموسة على الميدان ما لم تكن هناك مقاومة شعبية على الأرض.

إن المواقف الثلاثة من الأزمة اليمنية تمكننا من تبين منزلتين للمثقف: كاتب ومستكتب.

خلاصة: بدأ بعض المثقفين يدركون أن "الردح" على رماد الثورة ليس حالة يمنية بقدر ما هو مرحلة تمر بها كل أقطار الربيع العربي، وأن الذي يحدث ليس جولة من جولات الصراع بين الثورة والثورة المضادة، وإنما هو رقص على جثة ثورة وُئدت. ومن السهل أن نتبيٰن هذا في مصر وتونس وسوريا.

ففي مصر كان الانقلاب الدموي لإجهاض أخطر عملية تأسيس في أهم قطر عربي. ولم يبق إلا ردحٌ يُشارك فيه من اختلفوا على المغانم بعد تغييب من فُوضوا في غيابات السجون. وفي سوريا هو ردح طائفي تكفيري مسلح على رماد أنبل ثورة قامت في وجه أبشع نظام. وفي تونس كان الانقلاب الديمقراطي بتأثير من المال السياسي الفاسد المحلي والإقليمي، مقدمة لما نحن فيه اليوم من ردح بعنوان التوافق على الرماد بين الائتلاف الرباعي الحاكم ومجاميع أيدولوجية استئصالية داخل حزب الأغلبية وخارجه.

ورغم هذا المشهد الدرامي فإن حراكا مواطنيا انطلق في كل أقطار الربيع العربي، يمثل انحسارُ نظام بشار في مليشيات دموية لا تسيطر على أكثر من ربع مساحة البلد، وتأجيجُ المقاومة الشعبية في اليمن، وجهَه غير التكفيري المقاوم الدامي المفروض. ويمثل تواصلُ المظاهرات السلمية في مصر باسم ثورة 25 يناير المغدورة، وانطلاقُ حراك شعب المواطنين بتونس، وجهه المقاوم المدني الاجتماعي.

إن الشروط التي أطلقت ثورة المجال العربي بوعودها في الحرية والكرامة بصدد الاجتماع. ويبدو أن الردح على رماد الثورة لن يطول.. "حذارِ! فتحت الرماد اللهيب"، مثلما صاح أبو القاسم الشابي يوما في وجه فرنسا اليعقوبية المحتلة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.