إخوان مصر على مفترق طرق

المركز العام لجماعة الإخوان المسلمين
الجزيرة

جذور الأزمة
بين جيلين ورؤيتين
المواءمة أم المواجهة
أدبيات المحنة وفقه المقاومة

تعيش جماعة "الإخوان المسلمين" في مصر أزمة عميقة نتيجة حالة الانقسام والاستقطاب الداخلي بين القيادات التاريخية للجماعة وشبابها، وهي الأزمة التي خرجت للعلن قبل أيام وأدت إلى حالة غير مسبوقة من التجاذب والتلاسن الإعلامي بين الطرفين.

صحيح أنها ليست المرة الأولى التي تمر فيها الجماعة بأزمات داخلية، لكن الأزمة هذه المرة تأتي في وقت تخوض فيه الجماعة معركة البقاء مع النظام المصري منذ انقلاب الثالث من يوليو/تموز 2013 وهو ما يزيد تعقيداتها.

جذور الأزمة
بدأت الأزمة الحالية قبل حوالي عام ونصف حين تم إجراء انتخابات داخلية على مستوى مجلس الشورى العام للإخوان في فبراير/شباط 2014 من أجل اختيار لجنة لإدارة الأزمة في مرحلة ما بعد مذبحتي رابعة العدوية والنهضة، وقد أسفرت الانتخابات عن اختيار مجموعة من القيادات الجديدة مع الإبقاء على المرشد الحالي للجماعة الدكتور محمد بديع، وتعيين أمين عام جديد للجماعة وانتخاب مكتب خارجي لإدارة شؤون الجماعة في الخارج برئاسة الدكتور أحمد عبد الرحمن، كما تم تصعيد العديد من الرموز الشبابية داخل الهيكل الإداري للجماعة، وتم اختيار متحدث جديد باسم الجماعة.

هذه التغيرات لم تعجب القيادات التاريخية للجماعة، خاصة تلك الموجودة خارج السجون فقامت قبل أيام بعقد اجتماع لأعضاء مكتب الإرشاد القدامى من غير المعتقلين وأصدرت بيانا رفضت فيه التغييرات التي جرت والإستراتيجية التي يتم اتباعها في مواجهة النظام المصري، وأعلنت أنها المسؤولة عن إدارة شؤون الجماعة.

تعكس أزمة "الإخوان" الحالية وجود انقسام عميق بين جيلين أو بالأحرى تيارين ورؤيتين للجماعة، أما الجيلان فهما جيل الشيوخ الذي قاد الجماعة طوال العقدين الماضيين، أما الثاني فهو جيل الثورة الذي تشكل وعيه في ظل الثورة

كما قامت بعض هذه القيادات بنشر مقالات بدا منها أنها لا تتوافق مع المسار الحركي للجماعة الذي وضعته قيادتها الجديدة، كما أصدر الأمين العام السابق للجماعة الدكتور محمود حسين بيانا يؤكد فيه على استمرار مكتب الإرشاد القديم في ممارسة مسؤوليته عن الجماعة، وهو ما دفع المتحدث الرسمي الجديد للجماعة محمد منتصر لإصدار بيان مواز يرفض فيه ما جاء في بيان "حسين" بل ويؤكد أنه كان قد تم عزله من منصبه قبل عام ونصف.

وفي الوقت الذي يرى فيه البعض أن الأزمة قد بدأت بسبب الخلاف حول السلمية والعنف، ورفض قيادات الجماعة للمسار الحركي الذي يتبعه الشباب في مواجهة النظام فإن المسألة تبدو أعمق من ذلك بكثير.

بين جيلين ورؤيتين
تعكس أزمة "الإخوان" الحالية وجود انقسام عميق بين جيلين -أو بالأحرى بين تيارين- ورؤيتين وإستراتيجيتين للجماعة، أما الجيلان فهما جيل (أو تيار) الشيوخ (ويمكن أن نسميه أيضا "جيل التنظيم") الذي قاد الجماعة طوال العقدين الماضيين وتحديدا منذ ولاية المرشد الخامس للجماعة مصطفى مشهور، هذا الجيل أعاد هيكلة الجماعة بشكل جذري، ونجح في خلق "مركز قوة" أحكم سيطرته على التنظيم بشكل كامل وكان يتحكم في كل شيء بدءا من العضوية والتصعيد وانتهاء بوضع الرؤية والإستراتيجية.

هذا الجيل أيضا هو المسؤول الأول والرئيسي عن أزمات الجماعة في مرحلة ما بعد الثورة بدءا من أزمة الشباب الذين تركوا الجماعة اعتراضا على عدم دمجهم وإشراكهم في عملية صنع القرار، مرورا بأزمة الخيارات السياسية (العلاقة مع العسكر، والعلاقة مع رفقاء الثورة، وخوض الانتخابات الرئاسية) وانتهاء بأزمة التعاطي مع 30 يونيو وما تلاها من صدامات ومجازر دموية كشفت عن خلل وخطأ حسابات وسوء إدارة ساهم في وصول الجماعة إلى ما هي عليه الآن.

يضم هذا الجيل قياديي الصف الأول من الإخوان سواء داخل السجون، مثل محمد بديع وخيرت الشاطر ورشاد البيومي وغيرهم، أو خارجها مثل محمود عزت ومحمود حسين ومحمود غزلان.

أما الجيل أو التيار الثاني فيمكن أن نسميه "جيل الثورة"، وأعني بذلك الجيل الذي تشكل وعيه طوال السنوات الأربع الماضية، وتأثر إلى حد كبير بحالة السيولة السياسية والحركية في مرحلة ما بعد 25 يناير، كما أنه العصب الرئيسي للحراك الإخواني المستمر منذ انقلاب 3 يوليو، وقد استطاع هذا الجيل الحفاظ على حيوية الجماعة وبقاء نشاطها وفاعليتها في مواجهة عملية الاستئصال والتصفية التي تتعرض لها منذ حوالي عامين.

يتكون هذا الجيل من شريحتين عمريتين: الأولى هي شريحة جيل الوسط ممن تم تصعيدهم إلى المراكز القيادية في هيئات الإخوان العليا، مثل مكتب الإرشاد ومجلس الشورى العام خلال السنوات القليلة الماضية مثل الدكتور محمد وهدان الذي تم اعتقاله قبل أيام، والدكتور محمد سعد عليوة وحسين إبراهيم والدكتور محمد كمال (مختبئان داخل مصر)، والدكتور أحمد عبد الرحمن رئيس مكتب إخوان الخارج، والشريحة الثانية هي شريحة جيل الشباب التي تم تصعيدها وترقيتها أيضا خلال الشهور القليلة الماضية، وأبرزهم المتحدث الرسمي الجديد للإخوان محمد منتصر وبقية الفاعلين على الأرض من نواب رؤساء المكاتب الإدارية للجماعة.

ربما هذه ليست المرة الأولى التي تنشب فيها خلافات بين الشيوخ والشباب، ولكن المشكلة أنه لا توجد هذه المرة مرجعية قيادية يمكن الاحتكام إليها من أجل حل هذه الخلافات، خاصة في غياب قيادات الصف الأول المؤثرة، وهو ما جعل الأزمة تقفز خارج "البيت الإخواني" وتصبح حديث الإعلام.

المواءمة أم المواجهة
أما الخلاف حول الرؤية فيتلخص في الفارق الكبير بين الطرفين (الشيوخ والشباب) بشأن كيفية التعاطي مع الدولة المصرية، حيث يرى جيل الشيوخ -خاصة الذين هم خارج السجون- أن أي مواجهة مع هذه الدولة هي مواجهة خاسرة، ولن تفيد الجماعة بل على العكس قد تؤدي إلى نتائج وخيمة على المدى الطويل، لذا فإنه يجب العمل على التعايش مع هذه الدولة بشكلها الحالي، وهنا ثمة فارق مهم بين الدولة والنظام.

ليست المرة الأولى التي تنشب فيها خلافات بين الشيوخ والشباب، ولكن المشكلة أنه لا توجد هذه المرة مرجعية قيادية يمكن الاحتكام إليها من أجل حل هذه الخلافات، خاصة في غياب قيادات الصف الأول المؤثرة، وهو ما جعل الأزمة تقفز خارج "البيت الإخواني" وتصبح حديث الإعلام

فرغم الصراع المرير مع أنظمة الحكم فإن هذا الجيل يبدو على قناعة بأن الدولة سوف تعود يوما وتجلس معه من أجل التفاوض وإنهاء الأزمة مثلما حدث أوائل عهد السادات في السبعينيات ومبارك خلال الثمانينيات، وقد كان هذا هو رهان هؤلاء الشيوخ منذ أزمة 30 يونيو وحتى مذبحتي رابعة والنهضة.

ففي البداية كانوا على قناعة بأن مظاهرات 30 يونيو لن يكون لها أي تأثير (هذا الكلام سمعته شخصيا من الدكتور محمود حسين أوائل يونيو/حزيران 2013) وقد ثبت خطؤهم، وبعد المظاهرات كانوا على يقين بأن السيسي لن ينقلب على مرسي (هذا الكلام قاله وكرره بعض مستشاري مرسي في الثاني من يوليو/تموز 2013) وقد ثبت خطؤه، وبعد الانقلاب كانوا على يقين بأن الدولة لن تغامر بفض اعتصامي رابعة والنهضة، وقد ثبت تهافت هذه الرؤية وسطحيتها، وكانت النتيجة لهذا اليقين الكاذب كارثية على الجماعة وأعضائها وعائلاتهم.

بينما يرى "جيل الثورة" أن لا بديل سوى التخلص من هذه الدولة بشخوصها ومؤسساتها وقيمها العتيقة الرثة كالمحسوبية والفساد والإجرام، وقد بات الشباب على يقين بأنه لا يمكن مهادنة هذه الدولة أو التعاطي معها بأي شكل خاصة بعدما ارتكبته في حقهم من جرائم، ويراهن هؤلاء على فشل هذه الدولة في الصمود أمام المشاكل العميقة المتراكمة وأنه قد آن الأوان لتغييرها جذريا.

ولعل هذا أحد الدوافع الرئيسية وراء استمرار الحراك الإخواني والرهان على توسيع دائرة الاحتجاج ضد الدولة والنظام الحالي.

بكلمات أخرى، فإنه من الواضح أن شباب الإخوان قد فقدوا الأمل تماما في إمكانية إصلاح الدولة المصرية من الداخل، وباعتقادهم أن الحل الوحيد للتعاطي معها هو بتفكيكها وإعادة بنائها على أسس سليمة بعيدا عن منطق المواءمات والمساومات مثلما قد يرى بعض شيوخ الجماعة، أي أنهم على قناعة بأن المواجهة -وليست التفاهمات والتنازلات- هي الحل.

أدبيات المحنة وفقه المقاومة
أما الخلاف حول الإستراتيجية فيتعلق بثلاثة أمور: كيفية إدارة الصراع مع النظام، وأدوات مواجهته، ومن المسؤول عن إدارة هذه المواجهة.

في ما يخص الأمر الأول، يعتمد جيل الشيوخ على إستراتيجية "النفس الطويل" المستمدة من ثقافة وأدبيات المحنة والابتلاء والصبر على الأعداء إلى أن يأتي الفرج أو يقضي الله أمرا كان مفعولا، وهي ثقافة تضرب بجذورها في مرحلة المحنة الأولى في الخمسينيات والستينيات وتعتمد على رصيد هائل من قيم البيعة والطاعة والولاء للقيادة، وهو ما يمكن أن نطلق عليه إستراتيجية "المقاومة السلبية" ضد انتهاكات الدولة وتجاوزاتها.

أما التيار الآخر فيرى أن إدارة الصراع مع النظام الحالي يجب أن تنطلق من مبدأ "المقاومة الإيجابية" أو النوعية ونفض ثقافة الخنوع والاستسلام، مستندين في ذلك إلى المبدأ الفقهي المعروف بـ"دفع الصائل" وحق الدفاع عن النفس، ويبرر هذا التيار ذلك بحجم الانتهاكات والجرائم بحق أعضاء الإخوان، ويرى فيها سببا كافيا للرد عليها بكل الطرق المتاحة.

يعتمد جيل الشيوخ إستراتيجية النفس الطويل، أما التيار الآخر فيرى أن إدارة الصراع مع النظام الحالي يجب أن تنطلق من مبدأ "المقاومة الإيجابية" أو النوعية ونفض ثقافة الخنوع والاستسلام، مستندين في ذلك إلى المبدأ الفقهي المعروف بـ"دفع الصائل" وحق الدفاع عن النفس

وفي ما يخص أدوات المواجهة، يرى جيل الشيوخ أن الأداة الأساسية لمواجهة الدولة هي الحفاظ على وحدة التنظيم وتماسك "الصف الإخواني" والعمل على رفع الحالة المعنوية للأفراد من خلال استحضار فقه "المحنة" ومحاولة امتصاص الأزمة الراهنة حتى ينقشع غبارها، ولا يزال هذا التيار أو الجيل يؤمن بأن بقاء التنظيم بحد ذاته -ولو على حساب أرواح الأعضاء- هو الهدف الأسمى والأهم، لذا يرى أن التظاهر السلمي هو الأداة الوحيدة للرد على انتهاكات الدولة.

بينما يرى تيار "المقاومة" أن أدوات الرد يجب أن تكون مفتوحة وبدون سقف، وأن ذلك ليس سوى رد فعل على انتهاكات النظام الذي لم يترك لهم أي خيار آخر، وهم يضعون هذه المقاومة تحت غطاء "المسار الثوري" الذي يشمل وفقا لتعريفهم استخدام العنف الوقائي (الدفاع عن النفس) والنوعي (تعطيل أجهزة الدولة ومؤسساتها)، ويرى هؤلاء أن الاستسلام لانتهاكات النظام يعد خنوعا وقبولا بالأمر الواقع وبمثابة "قتل بطيء" لهم وللجماعة.

أما في ما يخص المسؤول عن إدارة المرحلة الحالية فيبدو الانقسام كبيرا وهائلا، ففي الوقت الذي يرى فيه جيل الشيوخ أنهم الأحق بقيادة التنظيم خلال هذه المرحلة متذرعين في ذلك باللوائح والأعراف الإخوانية فإن جيل المقاومة -خاصة من الشباب- يرون أنهم الأحق بذلك ليس فقط بسبب تحميلهم المسؤولية لجيل الشيوخ عما آلت إليه أوضاع الجماعة نتيجة أخطائهم، وإنما أيضا بسبب ما قدمه الشباب من تضحيات منذ الانقلاب وحتى الآن، أي أننا إزاء تنازع في الشرعية بين الطرفين يستند فيه الطرف الأول على ما يمكن أن نسميه "الشرعية التاريخية" والثاني على "الشرعية الواقعية".

وحقيقة الأمر، إن انفجار الأوضاع داخل الإخوان لم يكن سوى مسألة وقت، بل يمكن القول إنه قد تأخر بسبب تصاعد المواجهة مع النظام وعدم الرغبة في تشتيت الانتباه حول المعركة الأصلية، ولكن إصرار الشيوخ على التمترس خلف رؤيتهم وإستراتيجيتهم، وإصرار الشباب على المضي قدما في إستراتجيتهم -وذلك كله في غياب القيادة المرجعية للجماعة- قد دفع الأزمة للخروج إلى العلن بشكل كبير.

ويمكن القول إن الأزمة الحالية تمثل واحدة من أعمق وأشد الأزمات التي واجهها الإخوان خلال نصف قرن، وأنها إما أن تمثل "إحياء" للجماعة فكرا ورؤية وحركة، وإما أن تكون بداية لتصدعات وانشقاقات كبيرة قد تنهي الصيغة الكلاسيكية للإخوان كجماعة واحدة متماسكة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.