هل ينهي "الإنترنت" تزوير التاريخ؟

Israeli soldiers stand near the Western Wall at the Temple Mount the most sacred spot for Jews because it once housed two Jewish temples, also knowen as the Al-Aqsa mosque compound, Islam's third holiest site in the old city of Jerusalem, on October 30, 2014 after Israeli authorities temporarily closed the compound. Israel's closure of the flashpoint Al-Aqsa mosque compound to all visitors following the shooting of a Jewish hardliner is tantamount to a 'declaration of war,' Palestinian president Mahmud Abbas said today. AFP PHOTO/ GALI TIBBON
غيتي إيميجز


في عصر الاتصالات الرقمية، كل ما يجري في أصغر بقعة معزولة في العالم وصولا إلى أكثر بقاعه تحصينا, يمكن أن يُنقل إلى العالم بأسره بما لا يزيد على هاتف محمول.

وقد ذكّر أوباما الكونغرس الأميركي بأن "خلافاتنا البينية يمكن للعالم أن يسمعها أثناء حدوثها"! وحتى الوثائق المصنفة سرية قد لا تحظى بفترات حماية -كما في السابق- لرفع السرية عنها أو إتلافها, بل يمكن أن تتسرب بالجملة, كوثائق ويكيليكس.

في عصر كهذا وبالنسبة للجيل الشاب تحديدا, يصعب تصور أن شيئا بأهمية تاريخ الحربين العالميتين قد لا يكون أكثر من أكاذيب كبرى اختلقها وروج لها المنتصرون, في عودة لمقولة أن التاريخ يكتبه المنتصرون.. أقله, التاريخ السابق على فورة الاتصالات, وقبل فورة المواصلات أيضا, كُتب هكذا لحد كبير. ومن الأدلة الصارخة على هذا إمكانية الترويج عالميا لمقولة سخيفة تزعم أن فلسطين -رغم زخم إقليمها التاريخي وأهمية موقعها الساحلي- كانت قبل الحربين العالميتين أرضا بلا شعب!

وهذا ما يجعلني أنقل إلى القارئ العربي بعض ما توفر لي من تأريخ مختلف قدمه شهود عيان للحربين, ومنهم بنيامين فريدمان, اليهودي المنشق عن المنظمة الصهيونية إثر الفظائع التي ارتكبها التحالف اليهودي-الشيوعي بحق الألمانيات, وحتى الصغيرات منهن, بعد انتصار الحلفاء على ألمانيا عام 1945, بما شكل واحدة من أفظع ما عرفته البشرية من اغتصاب جماعي في حروبها، وهي فظائع مغفلة بتعمد جلي!

يرى فريدمان أن الحرب العالمية اندلعت عام 1914 حين قررت بريطانيا العظمى وفرنسا وروسيا تدمير ألمانيا, لسبب واحد فقط هو أن ألمانيا شكلت قصة نجاح سياسي بعدما وحدت إقطاعياتها الثلاثمئة في دولة كبرى, مع نجاح اقتصادي عالمي بحيث تضاءل أمام أسطولها أسطول بريطانيا العظمى

إثر تلك الفظائع ترك فريدمان اليهودية واعتنق المسيحية الكاثوليكية, وكرس بقية حياته وجزءا كبيرا من أمواله (كان رجل أعمال أميركيا ناجحا بحيث غدا مليونيرا) لكشف حقيقة ما جرى في تينك الحربين العالميتين, ومن أشعلهما حقيقة وكيف ولماذا, ومن كان ضحية من حقيقة.

وكوطني أميركي, شرح كيف تم لليهود وحلفائهم الدينيين (الفرق المسيحية المتطرفة) السيطرة على أميركا "وكأنهم ملوك بسلطة حكم مطلقة عليها". وهي مقولة ثبتت صحتها بعد وفاته بأكثر مما في حياته الطويلة الزاخرة بالعطاء, عند قدوم "المحافظين الجدد" إلى الحكم, والذين اقترفوا ما كان حذر منه من عودة لإرسال الشباب الأميركيين ليقتلوا في حروب لا جدوى منها في أماكن بعيدة.. فقد جرى ذلك في أفغانستان والعراق.

بنيامين فريدمان المولود في أميركا عام 1890 (توفي عام 1984), وقعتُ على نص شهادته في صيغة محاضرة ألقاها في واشنطن عام 1961, ولكنها لم توضع على الإنترنت سوى عام 2008.

يبدو مستوى اطلاع فريدمان على الحقائق التاريخية التي يوردها أنه كان على صلة وثيقة بشخصيات مالية وسياسية أميركية وصهيونية قبل وأثناء الحربين العالميتين وبعدهما إلى نهاية حياته, ومنهم برنارد باروخ وصاموئيل إنترماير مؤسس الاحتياطي الاتحادي الأميركي والرؤساء الأميركيون وودرو ويلسون وفرانكلين روزفلت وجون كينيدي ووالده جوزيف كينيدي وأخواه روبرت وإدوارد, وآخرون من الشخصيات المؤثرة.

ويورد فريدمان كيف أن الحرب العالمية الأولى اندلعت عام 1914 حين قررت بريطانيا العظمى وفرنسا وروسيا تدمير ألمانيا, لسبب واحد فقط هو أن ألمانيا شكلت قصة نجاح سياسي بعدما وحدت إقطاعياتها الثلاثمئة في دولة كبرى, مع نجاح اقتصادي عالمي بحيث تضاءل أمام أسطولها أسطول بريطانيا العظمى.

وأخذت النمسا والمجر وتركيا جانب ألمانيا في الحرب التي انتهت بعد عامين بانتصار كامل لألمانيا جعل "الأسطول البريطاني" بدون ذخيرة أو حتى تموين ومهددا بالمجاعة، بينما دخل الجيش الفرنسي حالة تمرد بعد أن فقد ستمئة ألف من جنوده الشباب. أما أفراد الجيش الروسي الذي لم يكن يحب قيصره, فبدؤوا يفرون من الخدمة, وانهار الجيش الإيطالي.

كل هذا جرى دون أن تُطلق رصاصة واحدة داخل ألمانيا, كما لم يمكن لجندي واحد من الحلفاء أن يطأ أرضها، أي أنها لم تكن مضطرة لعرض السلم على أعدائها, ومع ذلك كانت هي التي تقدمت لبريطانيا باقتراح اتفاق سلام "يوقف القتال ويعيد الأمور إلى ما كانت عليه قبل اندلاعها"، وهو عرض قمة في السخاء، ورفضه واستمرار المعتدين في حرب خاسرة كليا يبدو ضربا من الجنون.

ولكن الصهاينة في ألمانيا والذين كانوا يمثلون الصهاينة في كامل أوروبا الشرقية, جاؤوا إلى مجلس الحرب البريطاني في أكتوبر/تشرين الأول 1916 قائلين إنه لا ضرورة لقبول هذا العرض، وإنه بالإمكان تحقيق نصر على ألمانيا إن انضمت أميركا إلى الحلفاء, ووعدوا بإدخال أميركا الحرب مقابل أن تتعهد بريطانيا بمنح اليهود أرض فلسطين بعد انتصارها. وغني عن القول إن أميركا لم تكن طرفا في الحرب العالمية الأولى لعدم وجود أي مبرر لمشاركتها.

بل وذكر فريدمان أن أميركا كانت إلى حينه مؤيدة لألمانيا بصورة كلية تقريبا، والسبب أن السيطرة على البنوك ووسائل الإعلام والاتصال الجماهيري الأميركية كانت لليهود. وأغلب يهود أميركا كانوا قدموا إليها من ألمانيا التي لم تكن تسيء معاملتهم بتاتا، لكون ألمانيا لم تكن معنية بأي تمييز ديني حينها (لاحقا بعد الحرب العالمية الثانية وتقسيم ألمانيا، رأت أن عليها أن تكون إما مسيحية أو شيوعية فقررت أن تكون مسيحية). واليهود كانوا يعادون روسيا القيصرية، فغالبية يهود روسيا كانوا قد أصبحوا شيوعيين وشاركوا في الثورة البلشفية الأولى عام 1905, وحين فشلت هرب اليهود إلى ألمانيا التي آوتهم وأحسنت معاملتهم بما مكنهم من التواجد في مواقع نفوذ لا تتناسب مع تعدادهم.

فريدمان:
عندما اكتشف الألمان ما فعله بهم اليهود لم يمسوا أيا منهم بأذى, وإنما بدؤوا فقط بتحاشيهم والتمييز ضدهم، بحيث لم تعد لهم ذات المناصب والنفوذ السابقة في ألمانيا, وهي المكتسبات التي حصلوا عليها بشكل رئيسي عندما اشتروا أصولا ومنافع بثمن رخيص، مستغلين خفض سعر المارك نتيجة الحرب

وليس تقديرا لذلك الإحسان، بل وفي محاولة لإسقاط روسيا القيصرية, ضخ كبار البنكيين اليهود الأميركيين الأموال لألمانيا في السنتين الأوليين للحرب, بينما رفضوا مساعدة فرنسا وبريطانيا ولو "بدولار واحد" ما دامتا تتحالفان مع روسيا القيصرية.

ولكن لأجل الاستيلاء على فلسطين انقلبوا على دولة آوتهم وعاملتهم كبقية مواطنيها، وبعد قبول بريطانيا عرضهم أبرق الصهاينة إلى القاضي برانديز(أول رئيس يهودي للمحكمة العليا الأميركية والمقرب من الرئيس ويلسون) ليضغط على الرئيس كي تدخل أميركا حربا ضد ألمانيا, وحركوا آلة إعلامهم الأميركية لشيطنة الألمان الذين وصفوهم بالهمجيين الذين يذبحون ممرضات الصليب الأحمر ويقطعون أيدي الأطفال.

ويقول فرديمان إن تغيير خطاب الإعلام الأميركي كان نقلة أشبه بتغيير إشارة المرور من الضوء الأحمر إلى الأخضر، فبعدها بقليل أعلن الرئيس ويلسون الحرب على ألمانيا، وهي الحرب التي انتهت بتدميرها.

وبعد نهاية تلك الحرب وفي العام 1919 حين ذهبت ألمانيا إلى مؤتمر السلام في باريس, كان من بين الحضور 117 يهوديا كممثلين ليهود العالم (ومنهم فرديمان). وبينما كان المؤتمرون يقسمون ألمانيا ويخصصون قطعا من أراضي أوروبا التي غنموها لمختلف الأقوام التي طالبت بحصص لها، طرح الوفد اليهودي "وماذا عن كون فلسطين حصة لنا؟" مبرزا وعد بلفور, ليكتشف الألمان (وفريدمان) السبب والمتسبب الحقيقي في دخول الولايات المتحدة الحرب, والذي أنتج هزيمة ألمانيا ومعاناتها.

يشهد فريدمان أنه حتى تلك اللحظة لم يكن وضع اليهود في أي دولة في العالم أفضل من وضعهم في ألمانيا. ولأنه لا يجد مثالا لقصة غدر مشابهة في التاريخ, فهو يلجأ إلى الفرضية ليطلب من جمهوره الأميركي أن يتخيلوا أن أميركا (يتحدث في بداية الستينيات) كانت تخوض حربا مع الاتحاد السوفياتي وتكسبها, ثم تتدخل الصين الشعبية لتلحق بأميركا خسارة ساحقة تستتبع تنازلات هائلة, لتكتشف أميركا أن مواطنيها من "الصينيين" هم من حرك الصين ضدها.. ويتساءل: هل كان أي من هؤلاء الصينين سيجرؤ على الخروج إلى الشارع؟ ويختم "حتما ما كان يمكن أن تتوفر أعمدة ضوء كافية للتعامل مع هؤلاء" (ويقصد المشانق الشعبية).

ولكن الألمان -حتى عندما اكتشفوا ما فعله بهم اليهود- لم يمسوا أيا منهم بأذى, حسب ما يوثقه فريدمان من مصادر وتقارير رسمية محايدة ومعتمدة.. هم فقط بدؤوا يتحاشونهم ويميزون ضدهم بحيث لم تعد لليهود ذات المناصب والنفوذ السابقة في ألمانيا, وهي المكتسبات التي حصلوا عليها بشكل رئيسي عندما اشتروا أصولا ومنافع بثمن رخيص، مستغلين خفض سعر المارك نتيجة تلك الحرب.

هذا "التمييز" أو بالأحرى "زوال الامتيازات" هو ما جعل "يهود العالم" يعقدون اجتماعا بأمستردام في يوليو/تموز 1933, ويوجهوا إلى ألمانيا "إنذارا نهائيا" بأن تمتثل لطلباتهم التي لا تقل عن "عزل هتلر, وإعادة كل يهودي إلى مركزه السابق ولو كان شيوعيا أو كائنا من كان"!( سبق للشيوعيين عام 1919 أن احتلوا كامل ألمانيا وشكلوا حكومة، ولكن لم يدم احتلالهم أكثر من ثلاثة أيام).

لولا الصهيونية لما كانت هناك حرب عالمية أولى ولا ثانية بكل خسائرهما البشرية وغير البشرية ومآسيهما وآثارهما الكارثية المتبقية إلى يومنا هذا في مختلف بقاع العالم. ولا كانت هناك نازية ابتداء, بل مجرد عدوان رباعي على ألمانيا انتهى باتفاقية سلام

وحتما "لم تستسلم ألمانيا للمؤتمر الدولي لليهود" -أنقلها كما أوردها فريدمان- فعاد رئيس المؤتمر رئيس الوفد الأميركي "أوترماير" إلى بلاده, ومن على ظهر سفينة أدلى لمحطة أي.بي.سي (محطة الإذاعة الأميركية الرئيسية) بأن "يهود العالم يعلنون الآن حربا مقدسة ضد ألمانيا.. سنجوّعهم حتى يستسلموا، سنحرك ضدهم مقاطعة عالمية ستدمرهم لأنهم يعتمدون على صادراتهم" (أمر يذكّر بحصار العراق؟). وبالفعل, مقابل صادراتهم الصناعية كان الألمان يستوردون ثلثي غذائهم, فبدأ تجويعهم لتركيعهم.

أيد الرئيس الأميركي روزفلت "إعلان" أوترماير, مستندا إلى حيثية ردتها المحكمة العليا لعدم دستوريتها، ومع ذلك التزمت أميركا وحلفاؤها بقرار الحصار الصادر عن "يهود العالم" لا عنها!! وطبق الحصار بطرائق ملاحقة شخصية شرسة وصلت حد محاصرة منزل والتشهير بامرأة لأنه تبين أن جواربها القطنية مطبوع عليها "صنع في ألمانيا"! وبالطبع نشأت مقاطعة تجارية وعداء داخل ألمانيا لليهود، ومجمل هذا أدى في النهاية إلى الحرب العالمية الثانية.

تصوروا أنه لولا الصهيونية لما كانت هناك حرب عالمية أولى ولا ثانية بكل خسائرهما البشرية وغير البشرية ومآسيهما وآثارهما الكارثية المتبقية إلى يومنا هذا في مختلف بقاع العالم، ولا كانت هناك "نازية" ابتداء, بل مجرد عدوان رباعي على ألمانيا انتهى باتفاقية سلام "أعادت الأمور إلى اما كانت عليها قبل اندلاع القتال"!

فريدمان وقبل أكثر من نصف قرن, حذر من أن يتسبب الصهاينة في حرب عالمية ثالثة تخوف من أن تغدو نووية. وحديثا, ما كان يهدد بالتفجر في منطقتنا تحديدا هو حرب الأرجح أن تتحول إلى نووية، والمرشح الرئاسي الجمهوري ميت رومني كان هرع إلى إسرائيل معلنا استعداده لزج أميركا في أي حرب تعلنها إسرائيل منفردة ضد إيران!

والأخيرة كانت ستفعل ذلك على الأرجح, لولا أن رئيسا أميركيا جاء من خارج حلقة رأس المال والمتشددين الدينيين الداعمة للصهاينة, ونفّس الاحتقان, وأسقط من يد إسرائيل ما كانت تتهيأ له. هذا الأمر يُوجب تنبه "العرب" الأميركيين هذه المرة إلى الأهمية "الوجودية" للانتخابات الرئاسية الأميركية القادمة. فمن السهل أن تشعل حربا عالمية, ولكن من الصعب أن تصنع سلاما حقيقيا من أكوام مآسيها.

أما الآلة الإعلامية الغربية فما زالت تكرر نسخا كاذبة للتاريخ، والسؤال هو: إلى متى يمكن حظر الحقيقة في عصر "الإنترنت"؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.