مصارحة واجبة حول التعذيب في مصر

epa02549057 Egyptian policemen (including two in plain clothes) arrest a protester who was taking part in a demonstration in Cairo, Egypt, 25 January 2011. Local media sources reported that Egyptian riot police were out in force in Cairo 25 January as tens of thousands of Egyptians allegedly vowed to back a call for the planned nationwide anti- government protest. According to the Arabic-language Facebook group called Revolution Day against Torture, Poverty, Corruption and Unemployment, some 90,000 people confirmed they support the protest that was planned to coincide with Egypt's Police Day on 25 January. The government said the protest was unauthorized and warned that police will deal firmly and decisively with anyone attempting to take part. Media reported that at least five protesters were injured when they clashed with police in Cairo during the anti-government demonstration on 25 January. EPA/MOHAMED OMAR
وكالة الأنباء الأوروبية

ما عاد ممكنا السكوت على استمرار التعذيب في مصر، وما عاد مقبولا إعفاء القيادة السياسية من المسؤولية عن استمراره.

(١)

هذه إشارات تثير الانتباه وتستحق الرصد: في ١٢ أبريل/نيسان الحالي ذكرت جريدة "الوطن" أنه تقرر إجراء تحقيق مع اثنين من المستشارين، بعدما أفادت تحريات جهاز الأمن الوطني بأنهما شاركا في وضع مشروع قانون لمكافحة التعذيب داخل السجون وأقسام الشرطة.

في ١٩ أبريل/نيسان خصصت جريدة "المصري اليوم" ست صفحات استعرضت فيها انتهاكات وزارة الداخلية، وذكر أحد التقارير المنشورة أن جهاز الأمن الوطني الحالي لم يختلف في شيء عن ممارسات جهاز أمن الدولة السابق "في طريقة العمل التي تعتمد على التعذيب لانتزاع الاعترافات من المتهمين". وعن سجن أبو زعبل ذكرت أنه تعذيب بعلم الوصول.

لم يعد انتقاد الانتهاكات مقصورا على المنظمات الحقوقية ودوائر النشطاء والضحايا وحدهم، وإنما علت الأصوات في المجال العام بحيث انكشف الغطاء عما كان محجوبا ومسكوتا عليه، وذلك مؤشر مهم لا ريب

في ٢٥ أبريل/نيسان نشرت جريدة "الأهرام" تقريرا صادما ومروعا عما يحدث في أقسام الشرطة، كان عنوانه "من لم يمت بالتعذيب، مات بالاختناق". ومما ذكره التقرير أن الحياة في أقسام الحجز بتلك الأقسام لا تليق بالإنسان ولا حتى بالحيوان!

وفي ٢٦ أبريل/نيسان نشرت جريدة "الشروق" مقالة لزميلنا الأستاذ أيمن الصياد انتقد فيها محاولات تسويغ التعذيب وتبرير القمع، ونبه إلى أن التاريخ يحفل بهزائم دول تصورت أنظمتها أن لا قيمة لحقوق الإنسان أو كرامة المواطنين.

حتى إذا كان ذلك التتابع مجرد مصادفة -وهو ما أرجحه- فهو لا يخلو من دلالة جديرة بالملاحظة والإثبات. ورغم ما يشاع في هذا الصدد من أن المعلومات التي خرجت إلى وسائل الإعلام جزء من الصراعات الحاصلة داخل أجنحة وقيادات وزارة الداخلية، فإن ذلك لا يلغي الملاحظة الأساسية المتمثلة في اتساع نطاق الانتهاكات وشيوع التعذيب على نحو تجاوز الحدود وأصبح يفوق طاقة الاحتمال، خصوصا حين تعددت حوادث القتل بسبب التعذيب في أماكن الاحتجاز، وهو تطور واكب انطلاق المظاهرات والتوسع في الاعتقالات وتفاقم ظاهرة الإرهاب في مصر على النحو الذي يعرفه الجميع.

في أجواء سقوط حاجز الخوف بعد انطلاق ثورة يناير/كانون الثاني ٢٠١١، وبعدما أتاح التطور الحاصل في وسائل الاتصال لكل صاحب قضية أن يرفع صوته ويعرض مظلمته، فإن قصص التعذيب ووقائعه ظلت متداولة طول الوقت في محيط متابعي مواقع التواصل الاجتماعي. الجديد في الأمر أن بعض الصحف القومية والخاصة المؤيدة للنظام دخلت أخيرا على الخط، وفتحت صفحاتها لعرض المشكلة التي أصبحت رائحتها تزكم الأنوف، وسيرتها على مختلف الألسنة في داخل مصر وخارجها.

بالتالي لم يعد انتقاد الانتهاكات مقصورا على المنظمات الحقوقية ودوائر النشطاء والضحايا وحدهم، وإنما علت الأصوات في المجال العام، بحيث انكشف الغطاء عما كان محجوبا ومسكوتا عليه.. وذلك مؤشر مهم لا ريب.

(٢)

دراسة تبين أن ٧٦% من حالات التعذيب موضوع الدراسة كانت في اتهامات لا علاقة لها بالأوضاع السياسية، بما يعطي انطباعا بأن التعذيب يتم بشكل روتيني ودون سبب واضح، وليس بالضرورة للحصول على اعترافات

حين ارتدى الفتى محمود محمد (١٨ عاما) قميصا قطنيا (تي شيرت) كتب عليه "وطن بلا تعذيب" تم اعتقاله منذ أكثر من ٤٠٠ يوم، ولا يزال حبسه يتجدد حينا بعد حين. وعندما انطلقت حملة بذات الاسم "وطن بلا تعذيب" فإنها لم تسلم من الملاحقة والاتهام، إلا أن مركز "النديم" لتأهيل وعلاج ضحايا العنف دأب على توثيق وتسجيل عمليات التعذيب التي تصل إليه أو يصل هو إليها، وسبق أن أصدر كتابا من نحو ٣٠٠ صفحة عن "يوميات التعذيب في الفترة من يونيو/حزيران ٢٠١٣ إلى مايو/أيار ٢٠١٤".

وكنت قد أشرت يوم ٧ مارس/آذار الماضي إلى أحدث تقرير للمركز وقعت عليه، عالج أرشيف التعذيب خلال فبراير/شباط الماضي، إلى جانب تقرير آخر أصدرته الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان عن المسار الديمقراطي في العام ٢٠١٤ والذي وصفته بأنه "معتم ومتعثر".

وقد لفت نظري في تقرير أرشيف التعذيب عن فبراير/شباط أن مركز النديم وثق ٨٢ حالة خلال الشهر، كان آخرها ما جرى للمحامي الشاب كريم حمدي (٢٣ عاما) الذي قتله التعذيب البشع الذي تعرض له في قسم المطرية بالقاهرة، كما لفت نظري أنه تم توثيق ١٣ حالة تعذيب في قسم شرطة مدينة المنصورة وحده.

وكنت قد تلقيت عدة كتب أصدرتها المجموعة المتحدة التي يشرف عليها الأستاذ نجاد البرعي المحامي، أحدها عنوانه "ضد التعذيب.. خطة وطنية للقضاء على جريمة التعذيب"، والثاني عن "المبادرة الوطنية لمناهضة التعذيب ٢٠١٥-٢٠٢٠"، وهي خطة تنفيذية من إعداد الأستاذ عبد الغفار شكر نائب المجلس القومي لحقوق الإنسان. ومؤخرا تلقيت دراسة عن "التعذيب في مصر" تضمنت قراءة لملفات ضحايا التعذيب، وشملت بعض الملاحظات المهمة.

وقبل أن أعرض لأبرز تلك الملاحظات، ألفت النظر إلى أن التوسع في ممارسة التعذيب حوّله إلى ظاهرة متفشية في السياسة الأمنية، وبالتالي فرضه كموضوع للتحقيق والدراسة من جانب المنظمات الحقوقية.

من الملاحظات التي أبرزتها الدراسة أن التعذيب في السجون وأقسام الشرطة صار قاعدة وليس استثناء، وأنه لم يعد مقصورا على النشطاء السياسيين وحدهم، لأنه تبين أن ٧٦% من حالات التعذيب موضوع الدراسة كانت في اتهامات لا علاقة لها بالأوضاع السياسية، بما يعطي انطباعا بأن التعذيب يتم بشكل روتيني ودون سبب واضح، وليس بالضرورة للحصول على اعترافات.

كما بدا أن الضرب هو الوسيلة الأكثر شيوعا، حيث تبين أن ٥٠% من الحالات التي تمت دراستها تعرضت للضرب بمختلف الوسائل. كما تبين أن المواطنين البسطاء، الأميين والحرفيين والموسميين والعاطلين عن العمل -الضعفاء والمهمشين بوجه عام- هم الأكثر تعرضا للتعذيب من جانب رجال الشرطة. ونسبة هؤلاء سبعة أضعاف المهنيين وخريجي الجامعات.

المادة ١٢٦ من قانون العقوبات تضيق من نطاق تعريف التعذيب، إذ تعتبره فقط ذلك الذي يتم بهدف الحصول على معلومات، في حين أنه بات يمارس كسلوك عادي يتم لأغراض أخرى كثيرة، فضلا عن أنه بات مستقرا في مصر أن التعذيب يتم للتنكيل بالمعارضين دون أن يكون لذلك صلة بمسألة الاعترافات

ثمة ملاحظات أخرى سجلتها الدراسة، منها إحجام مصر عن التوقيع على الاتفاقية الدولية لمناهضة التعذيب رغم الدعوات المتكررة التي وجهت إليها بهذا الصدد، وهي الاتفاقية التي تضع معايير عالمية للحفاظ على إنسانية وكرامة المحتجزين، وتحد من المعاملة القاسية وغير الإنسانية التي يتعرضون لها. كما أنها تنص على وضع معايير ونظام عالمي لزيارات دورية من جانب الهيئات الدولية والمحلية لأماكن الاحتجاز للتثبت من الالتزام بالمعايير المقررة.

من الملاحظات المهمة أن الدراسة أكدت على الحاجة الملحة لإعادة النظر في التشريعات التي تتعلق بانتهاكات حقوق الإنسان، وهي الدعوة التي لم تلق استجابة من السلطة طول الوقت. وعلى سبيل المثال فإن المادة ١٢٦ من قانون العقوبات تضيق من نطاق تعريف التعذيب، إذ تعتبره فقط ذلك الذي يتم بهدف الحصول على معلومات أو انتزاع اعترافات، في حين أنه بات يمارس كسلوك عادي يتم لأغراض أخرى كثيرة، فضلا عن أنه بات مستقرا في مصر أن التعذيب يتم للتنكيل بالمعارضين وترويعهم، دون أن يكون لذلك صلة بمسألة الاعترافات.

من ناحية أخرى، فإن المادة ١٢٩ من القانون ذاته تنص على معاقبة من يمارس التعذيب بالحبس سنة أو بغرامة لا تزيد على ٢٠٠ جنيه، وهي عقوبة لا تتناسب على الإطلاق مع خطورة الجريمة التي تنتهك كرامة الإنسان وتهدر حقه.

(٣)

التعذيب ليس معزولا عن حزمة الأساليب والإجراءات التي تستخدم لممارسة القمع والتضييق على الحريات العامة. ولعلي لا أبالغ إذا قلت إنه يمثل أعلى مراتب القمع، لأن مختلف الإجراءات الظالمة التي تتخذ بحق المواطنين قد تبخسهم حقهم أو تقيد حرياتهم أو تؤثر على مصالحهم وأرزاقهم، لكن التعذيب وحده يتجاوز الحط من كرامتهم إلى توقيع عقوبات بدنية تهدر إنسانيتهم وقد تفقدهم حقهم في الحياة، كما حدث في حالات كثيرة ليست بعيدة عن أذهاننا.

في أي مجتمع متحضر يحترم كرامة الناس، يظل أمر التعذيب محسوما من الناحيتين السياسية والثقافية، وغير قابل للمناقشة أو الاجتهاد الذي يسوغه من أي باب. لذلك فإن تناولنا له لا يخلو من مفارقة، من ناحية لأنه يناقش قضية تجاوزها الزمن وأغلق ملفها في ثقافة العصر، ومن ناحية أخرى لأن سقف المناقشة يبدو متواضعا ومنخفضا، لأن موضوعها هو: كيف يمكن تحسين الأوضاع في السجون ومراكز الشرطة؟ وليس لماذا يساق الناس إلى السجون أصلا دون وجه حق؟

من ناحية ثانية، فإننا لا نستطيع أن نفصل بين استباحة كرامات الناس وانتهاك إنسانيتهم وبين استباحة حرياتهم. ذلك أن الخلاف بينهما هو في الدرجة وليس في النوع، بمعنى أن "الاستباحة" هي القاسم المشترك بينهما، ولكن التعذيب يمارسها بحق كرامة الإنسان وبدنه، في حين تمارسها الإجراءات والقوانين بحق حريته وأمنه الخاص.

وإذا حاولنا التفصيل في هذه النقطة الأخيرة فستبرز أمامنا قائمة طويلة من القوانين والإجراءات المقيدة للحريات التي صدرت خلال العام الأخير، بدءا بإطلاق مدة الحبس الاحتياطي الذي أصبح يستمر لأشهر طويلة وربما سنوات، وانتهاء بقانون الكيانات الإرهابية الذي أصبح سيفا مسلطا على رقاب كل النشاط الأهلي، ومرورا بالتوسع في محاكمة المدنيين أمام القضاء العسكري وبقانون التظاهر وبالتعديلات التي أدخلت على قانون الجامعات لترهيب الأساتذة والطلاب.

التعذيب الذي يشكل أعلى مراتب استباحة المواطنين، يكمل الدور الذي تؤديه القوانين المقيدة للحريات العامة، وذلك كله ترجمة للسياسة الأمنية المتبعة وهي التي تعول على السلطة بأكثر مما تعول على المجتمع، وعلى الإجراءات والقوانين بأكثر مما تعول على التوافقات والحوار

الخلاصة أن التعذيب الذي يشكل أعلى مراتب استباحة المواطنين، يكمل الدور الذي تؤديه القوانين المقيدة للحريات العامة، وذلك كله يعد ترجمة للسياسة الأمنية المتبعة وهي التي تعول على السلطة بأكثر مما تعول على المجتمع، وعلى الإجراءات والقوانين بأكثر مما تعول على التوافقات والحوار.

(٤)

إذا أردنا أن نكون أكثر صراحة وإنصافا فلا مفر من الاعتراف بأن مناقشة قضية التعذيب وتجاوزات الداخلية إذا كانت جزءا من تجليات السياسة الأمنية فهي أيضا جزء من السياسة العامة، أعني أنها بما تمارسه لا تفعل أكثر من أنها تنفذ السياسة العامة، لذلك فإن توجيه سهام النقد والاتهام لها دون غيرها يظلمها ويحمّلها بما لا تطيق، وهي التي تتحمل الكثير في أوضاعنا الراهنة، حيث تتراجع أدوار مؤسسات عدة في الدولة، وتطالب أجهزة الداخلية بأن تتصدى من جانبها لما ينبغي أن يقوم به غيرها، خصوصا في المجال السياسي.

صحيح أن الدولة لا تأمر بالتعذيب، لكن بوسعها أن توقفه بقرار سياسي. ومختلف الإجراءات والقرارات القمعية التي تتخذ والقوانين الجائرة التي صدرت ما كان لها أن ترى النور لولا أنها إذا لم تكن تعبر عن إرادة سياسية، فإنها على الأقل تستجيب للهوى السياسي.

ومما لاحظته في الكثير من المعالجات التي تناولت انتهاكات حقوق الإنسان أنها دأبت على مخاطبة وزارة الداخلية والدوائر التي تشارك في مطبخ القوانين، وهي العناوين الغلط في هذه الحالة، لأن الإرادة السياسية هي العنوان الصحيح الذي ينبغي أن يتجه إليه الخطاب.

أدري أن القيادة السياسية لا ينبغي أن تحاسب على كل كبيرة وصغيرة في البلد، لكن السياسات العامة وحقوق وكرامة المواطنين هي من صلب مسؤولياتها التي لا تستطيع التحلل منها. وإذا كان الخليفة عمر بن الخطاب قد ذكر أنه إذا عثرت بغلة في سواد العراق فإن الله سيحاسبه عليها، فلنا أن نقول أيضا إنه إذا عذب مواطن أو قتل ظلما في أي سجن فإن الرئيس عبد الفتاح السيسي سيحاسب أمام الله عليه، وتلك شهادة حق لا خير فينا إذا لم نقلها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.