اليمن.. هذه البئر المخيفة

Saudi army artillery fire shells towards Yemen from a post close to the Saudi-Yemeni border, in southwestern Saudi Arabia, on April 13, 2015 . Saudi Arabia is leading a coalition of several Arab countries which since March 26 has carried out air strikes against the Shiite Huthis rebels, who overran the capital Sanaa in September and have expanded to other parts of Yemen. AFP PHOTO / FAYEZ NURELDINE
AFP PHOTO

حرب اليمن ليست شبيهة بحرب أخرى شهدتها المنطقة، هي ليست مثل تلك التي تدور في سوريا أو العراق أو حتى ليبيا في شمال أفريقيا. حرب اليمن مناطقية جغرافية يتداخل فيها المذهبي بالسياسي، والداخلي بالخارجي، والعربي بالإقليمي، وهذا الأخير بالدولي. وإذا كان الحراك الجنوبي قد بدا مبكرا تعبيرا عن الصراع بين الشمال والجنوب، فإنه لم يكن بعيدا عن انقسامات وصراعات داخل كل منهما وما حولهما.

تحول الصراع في اليمن سريعا إلى ساحة حرب، بعد أن كانت مبادرة مجلس التعاون الخليجي قد امتصت الأزمة، بإقناع الرئيس السابق علي عبد الله صالح بالتنحي، مفتتحة مرحلة انتقالية لسنتين تخطتهما لبضعة أشهر لاستكمال عملية التحول الذي كان يفترض فيه أن يكون سلسا وسلميا، لكن التداخل الإقليمي ارتفع منسوبه، لا سيما في الاستقطابات الداخلية والتجاذبات السياسية والاصطفافات المذهبية، وخصوصا بعد أن سيطرت جماعة أنصار الله (الحوثيين) على مقاليد الأمور، بوضع اليد على المرافق الحكومية والمراكز الرئيسية في الجيش والشرطة وتشكيل اللجنة الثورية واقتراح مجلس رئاسي جديد وبرلمان جديد.

ردة فعل السعودية  يعود سببها إلى المحذور من وقوع المنطقة تحت النفوذ الإيراني، إضافة إلى الروابط العميقة التي تربط المملكة باليمن، حيث التداخل بين الشعبين على صعيد الحدود الطويلة والتاريخ المشترك والعلاقات الاجتماعية والقبلية، مع وجود مئات الآلاف من اليمنيين في المملكة

كانت سياسة المملكة العربية السعودية التقليدية تقوم على الابتعاد قدر الإمكان عن المشاكل العربية القائمة، إلا أن تحولا كبيرا قد طرأ عليها منذ ما سمي الربيع العربي، بالانتقال من نهج النأي بالنفس إلى التدخل غير المباشر أو المباشر، وهكذا سارعت لاتخاذ موقف بصدد الأزمة السورية، حتى وإن ظلت بعيدة عن ساحة الصراع الساخن، وإن انحازت سياسيا أو قدمت دعما ماديا، وفي البحرين كان للتدخل هناك باسم "درع الجزيرة" الدور الحاسم في حماية النظام، أما في اليمن فقد اتخذ التدخل شكل تحالف عربي-إقليمي، وأطلق على العملية "عاصفة الحزم"، حين شعرت أن النار وصلت إلى تخومها.

ولعل ردة الفعل العاجلة يعود سببها إلى المحذور من وقوع المنطقة تحت النفوذ الإيراني، إضافة إلى الروابط العميقة التي تربط المملكة باليمن، حيث التداخل بين الشعبين على صعيد الحدود الطويلة، والتاريخ المشترك، والعلاقات الاجتماعية والقبلية، إضافة إلى وجود مئات الآلاف من اليمنيين في المملكة، والذين يزداد عددهم طرديا مع مرور الزمن.

في الصراع اليمني لم يكن الأمر مجرد اختلافات داخلية، بل نظرت إليه المملكة ببعده الإقليمي باعتباره صراعا عربيا-فارسيا، اتخذ شكلا سياسيا بالدرجة الأولى على خلفية مذهبية متناحرة، وهو ما تفشى في المنطقة تحت عناوين "السنة والشيعة" وذيولهما، وكان التطلع الخليجي يأمل منع إيران من استكمال مشروعها النووي، الذي سبق أن أبدت قلقها منه، وأعلنت واشنطن -التي عبرت عن وصولها إلى اتفاق مع إيران باعتباره أفضل الحلول الممكنة- عن تأييدها عاصفة الحزم، وهو ما جاء على لسان الرئيس باراك أوباما.

كان مجلس التعاون الخليجي قد أنشئ عام 1981 بعد الثورة الإيرانية عام 1979 على خلفية مواجهة التمدد الإيراني، لا سيما أن موقفه كان داعما للنظام العراقي السابق في الحرب العراقية-الإيرانية 1980- 1988.

وإذا كان التحالف الدولي يتعاون مع العراق لمواجهة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، ويدعو المسلحين المعارضين في سوريا لمواجهة داعش، في هدنة غير معلنة مع النظام السوري، خرجت من المستور إلى المكشوف، لدرجة أصبحت فيها المصالح متداخلة ومتشابكة، بين الأعداء والأصدقاء، لا سيما في التصدي للتنظيمات الجهادية المتطرفة؛ ففي اليمن تزداد الصورة تعقيدا.

بدأت الحرب وقد وصلت المفاوضات بين إيران والغرب مرحلتها الأخيرة، في وقت كانت السعودية مُستفزة بوصول النفوذ الإيراني إلى مشارفها، بل كان في طهران من صب الزيت على النار بتصريحه بأن عاصمتهم الإمبراطورية هي بغداد، وأن باب المندب قاب قوسين أو أدنى

فالحوثيون يدخلون في صراع مع تنظيمات القاعدة، والصراع كان على أشده أيضا بين واشنطن وهذه التنظيمات. من جهة أخرى، كان اللقاء الدولي (5+1) مع إيران وعلى ضفاف بحيرة ليمان (لوزان) في سويسرا، قد وصل إلى مرحلته الأخيرة بعد مفاوضات استمرت 16 شهرا ونقاشات دامت نحو 12 عاما، في الوقت الذي كانت فيه المملكة العربية السعودية مُستفزة بوصول النفوذ الإيراني إلى مشارفها، بل كان هناك من صب الزيت على النار بتصريحات من طرف معلن هذه المرة في طهران بأن عاصمتهم الإمبراطورية هي بغداد، وأن باب المندب قاب قوسين أو أدنى.

لقد كانت حرب اليمن في الستينيات مختلفة عن الحرب الراهنة، وهي حرب بين الإماميين وبين ثورة السلال، وإن اتخذت بُعدا إقليميا بين مصر التي أرسلت نحو سبعين ألف جندي للتدخل في حسم الصراع، وبين دعم المملكة العربية السعودية للشرعية المخلوعة، في مواجهة شرعية ثورية لم تثبت أقدامها بعد، ولم يكن بالإمكان حصول اعتراف سريع بها، وهو الأمر الذي اختلف في صراع عام 2014 وما بعده، فالشرعية الثورية التي تعكز عليها الحوثيون تم رفضها بقوة وحزم خليجيين، مع إصرار على إعادة الشرعية القديمة الممثلة في عبد ربه منصور هادي (الرئيس المؤقت) ونائب الرئيس السابق، الذي نصبته المبادرة الخليجية قبل نحو ثلاثة أعوام إثر انفجار الهبة الشعبية في اليمن ضد حكومة علي عبد الله صالح.

في الحرب اليمنية الستينية من القرن الماضي كانت سياسة المحاور الإقليمية والدولية قائمة بين معسكرين: الاشتراكي والرأسمالي، وامتداداتهما بين محور بقيادة القاهرة ومحور آخر بقيادة الرياض التي دعت لتأسيس "الحلف الإسلامي" لمواجهة احتمالات امتدادات الناصرية، ولكن بعد هزيمة عام 1967 من جانب "إسرائيل" انعقدت قمة مصالحة مصرية-سعودية، وتوجت في مؤتمر الخرطوم الذي عُرِفَ باسم مؤتمر اللاءات الثلاث (لا صلح ولا اعتراف ولا تفاوض).

الصراع اليوم قد لا ينتهي لمجرد مصالحات عربية-إقليمية، بل إنه أكثر تعقيدا، فهو صراع مركب ومتداخل، لأن المسألة لا تتعلق بالحاضر فحسب، وباليمن بالذات، بل تتعلق بمستقبل المنطقة، والأمر الذي سيواجه الجميع من سيحكم اليمن سواء بافتراض إزاحة الحوثيين، وإعادة الرئيس هادي إلى مواقعه، أو بالعودة إلى طاولة الحوار؟ ولكن السؤال الكبير يتمثل في: هل سيبقى اليمن يمنا أم سيصبح الانفصال أمرا واقعا؟

ويعود التشطير إلى ما قبل الوحدة عام 1990، وجرت محاولات لإعادة القديم إلى قدمه عام 1994 حين اندلعت الحرب رغبة في الانفصال مجددا بين الرئيس علي عبد الله صالح ونائبه علي سالم البيض ومن يمثلانهما، لكن تيار الوحدة ونفوذ علي عبد الله صالح ومناوراته حالت دون ذلك.

وإذا ما انفتح ملف الانفصال والتشطير فقد لا يتوقف عند الجنوب، وقد تبدأ فوضى ما بعد العاصفة، تلك التي لا تشبه الفوضى السورية أو الفوضى الليبية، وقبل ذلك الفوضى العراقية، لأن في اليمن ما قبل انفجار الصراع كان نحو 68 مليون قطعة سلاح أي بمعدل يزيد على قطعتين لكل فرد، فما بالك بما بعد العاصفة حيث تم ضخ السلاح من جميع الأطراف المباشرة وغير المباشرة.

قد تكون الحاجة قائمة إلى حملة برية لحسم المعركة ميدانيا، وهو ما لم يقرره التحالف الخليجي-العربي حتى الآن، ولكن مثل هذه الخطوة قد تحتاج إلى توسيع قاعدة التحالف، وقد يتم دعم ذلك بقوة بحرية لاستكمال عاصفة الحزم، لكن مثل هذا الخيار قد يكون محفوفا بالمخاطر

وإذا كان التعاون اليوم بين الحوثيين والرئيس السابق علي عبد الله صالح، أعداء الأمس والذي شن ست حروب ضدهم، والسابعة امتدت عبر حدود المملكة العربية السعودية، فإن العديد من أحزاب اللقاء المشترك: اشتراكيون وناصريون وإصلاحيون والحراك الجنوبي وفعاليات وأنشطة أخرى، ضدهم، بما فيها تنظيمات القاعدة وقبائل متعددة الولاء.

قد تكون الحاجة قائمة إلى حملة برية لحسم المعركة ميدانيا، وهو ما لم يقرره التحالف الخليجي-العربي حتى الآن، ولكن مثل هذه الخطوة قد تحتاج إلى توسيع قاعدة التحالف، حيث يمكن الاعتماد على ذراع مصرية أو غيرها مثلا، وقد يتم دعم ذلك بقوة بحرية لاستكمال عاصفة الحزم، لكن مثل هذا الخيار قد يكون محفوفا بالمخاطر وربما بالمفاجآت، فاليمن بئر عميقة وموحشة.

ما هو جديد في الوضع اليمني أن القمة العربية في شرم الشيخ قررت مواجهة التمدد الإيراني، ولا سيما بدعم عاصفة الحزم التي بدأت قبل يومين من انعقاد القمة، وقد سعت مصر لاستعادة دورها، لا سيما عبر تشكيل قوة عربية مشتركة، سيكون لها اليد الطولى فيها، وخصوصا القوى البشرية التي ستشكل قوامها الأساسي.

اليمن من الإمامية إلى "العروبة"، ومنها في الجنوب إلى الاشتراكية، وأخيرا بالحراك الشعبي، استهدفت التحول نحو الديمقراطية، وإذا بها تعود إلى عصبيات قبلية ونزاعات وتناحرات وربما انشطارات سيدفع اليمنيون ثمنها الأكبر من حاضر ومستقبل بلادهم الذي قد يتوقف عليه جزء مهم من مستقبل الخليج والمنطقة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.