الثورات بعد أربع سنوات

دوار الساعة ذي الرمزية الكبيرة في الثورة، وهو يعرف بدوار الحرية، لأن المظاهرات في بداية الثورة كانت تقام عنده

رغم كل الأجواء التي تشي بالارتباك والتشوش وحتى باليأس فإن أربع سنوات مرت على بدء موجة ثورية كبيرة اتسمت بتمرد الشعب في معظم البلدان العربية، وتحولها إلى ثورات في خمس منها.

ولا شك في أن الأحلام الأولى ربما تكسرت لدى البعض أو تشوشت لدى آخرين، وأن حالة الوحشية التي باتت تحكم الصراع في سوريا أصبحت تغطي على تلك الأحلام، وتغرقها بالدم. وبات البعض يعتقد أن الثورات انتهت، وآخرون يعتقدون أنها لم تكن ثورات أصلا، كما استمر البعض بالحديث عن مؤامرات، وتآمر إمبريالي رغم توضح مجمل سياسات الإمبريالية التي تُختزل بأميركا.

كل ذلك يفرض وقفة ما، وتدقيقا معينا، وتقييما شاملا من أجل فهم ما جرى، وكيف سارت الأمور، ومن ثم لماذا وصلنا إلى ما وصلنا إليه، سواء من تعثر الثورات أو يأس الفئات الوسطى؟ ولماذا لا زال الشعب مصمما على التغيير عبر الثورة؟

كل "رومانسية" اللحظات الأولى سقطت مع تقدم الصراع وتعقد الأمور، وخصوصا بعد أن بات العنف الوحشي هو وسيلة النظم لمواجهة شعوب تتوق للحرية وتريد التغيير من أجل أن تستطيع العيش. وبتنا في حالة سواد ينتشر، وإحباط كبير، وحتى عجز عن رؤية أفق وردي ممكن

إن كل "رومانسية" اللحظات الأولى سقطت مع تقدم الصراع وتعقد الأمور، وخصوصا بعد أن بات العنف الوحشي هو وسيلة النظم لمواجهة شعوب تتوق للحرية وتريد التغيير من أجل أن تستطيع العيش. وبتنا في حالة سواد ينتشر، وإحباط كبير، وحتى عجز عن رؤية أفق وردي ممكن.

هذا يفرض تناول المسألة من زوايا متعددة، لكن هنا لا بد من أن نلمس أزمة الثورات، فهي الأساس في كل التطورات التي حدثت والمآل الذي وصلنا إليه. لماذا كانت الثورات في أزمة منذ البدء؟

طبقات متعددة شاركت في الثورات، من العمال والفلاحين والفئات الوسطى إلى بعض "الرأسماليين".

ولا شك أن الأوضاع الاقتصادية التي نشأت منذ بدء التحول الليبرالي وتخلي الدولة عن دورها في الاستثمار والتشغيل وضبط السوق، أفضت إلى حالة إفقار طال كل هؤلاء، بعد أن تمركزت الثروة بيد أقلية مافياوية تعتمد السلطة أداة للنهب ومراكمة المال. في ظل فرض العولمة التي كانت تعبر عن مصالح طغم مالية تتحكم بالدول الكبرى، وعبر هذه الدول عملت على فرض "فتح الأسواق" إلى أقصى حد ممكن، بما يسمح بتعميم نشاط المضاربات المالية عبر "الاستثمار قصير الأجل"، والنشاط في البورصات، وهو ما كان يعزز نهب المجتمعات. كل ذلك كان يفترض وجود نظم مافياوية بوليسية، ويفضي إلى تفتت الأحزاب وتهميشها، ونشوء فئات شبابية معطلة أو مفقرة، تعيش حالة انسداد الأفق.

من فجر الوضع هم مفقرون، وخصوصا من فئات شبابية، وفئات وسطى شبابية، لكن كل هؤلاء لم يكونوا يمتلكون وعيا سياسيا، ولا تجارب تساعد على الفعل السياسي. لهذا كانت الثورات عفوية جدا، لعب الشباب دورا محوريا فيها. وإذا كان المفقرون من العمال والفلاحين الفقراء والمتوسطين ومن الفئات الوسطى يؤيدون تحقيق ما يسمح لهم بالعيش، وبالتالي فهم يعرفون ما يريدون بالمعنى المباشر، لكن دون معرفة كيف يتحقق سوى أن ما توصلوا إليه هو "إسقاط النظام" الذي أوجد الظروف الصعبة التي يعيشونها.

أما الشباب الذي حرك وتحرك فقد كان يعتقد بأن التمرد وحده سيكون كافيا لإسقاط النظام، وأن الحشد الكبير سوف يفرض سقوطه، أي دون رؤية لكيفية السقوط بالمعنى العملي، ولا معرفة ما هو البديل. وإذا كانت تجربة الأحزاب قد أبعدتهم منذ زمن عنها، وأوصلتهم إلى رفض "الأيديولوجية والتنظيم"، فقد استحكم في تصورهم أن "البديل الوردي" (غير المحدد المعالم) سيأتي حتما. كيف؟ هذا ما لم يكن واضحا على الإطلاق، وبدا أن المراهنة تقوم على ولادة بديل "من السماء"، وهذا ما جعلهم يعتقدون أنهم انتصروا لحظة الإعلان عن هروب بن علي أو تنحية حسني مبارك.

هذا الأمر كان يعطي المجال للطبقة المتحكمة بالسلطة لأن تناور عبر التضحية بالرئيس، الذي كان الفكر السياسي والإعلام يعمم أنه النظام والسلطة، وهو ما أنجح المناورة وأوهم الشباب والشعب بأن النظام قد سقط.

من فجر الوضع  خلال الثورات هم مفقرون، وخصوصا من فئات شبابية، وفئات وسطى شبابية، لكن كل هؤلاء لم يكونوا يمتلكون وعيا سياسيا، ولا تجارب تساعد على الفعل السياسي. ولهذا جاءت الثورات عفوية جدا، ولعب الشباب دورا محوريا فيها

هنا سنلمس أن الكتلة الأساسية في الثورة لم تكن تملك بديلها، وكان وهمها أن البديل سيتحقق "وحده" حال سقوط النظام. وظل هؤلاء يقاومون الأدلجة والتنظيم حتى بعد استمرار الصراع مع "النظام الجديد"، ويراهنون على أن رفضهم العملي سوف ينتج البديل، طبعا من خارجهم. وهو ما سمح بانتشار المراهنات على طرف في السلطة، ثم على حزب، ثم على تحالف أحزاب، وحتى على شخص. ومرت سنوات ثلاث على الأقل والأمور تسير في هذه الوضعية رغم استمرار الحراك، الذي كان يتضخم في بعض الأوقات، والذي أوصل إلى ثورة جديدة في مصر، وحراك كبير في تونس.

كان كل ذلك جزءا من عفوية الثورة، حيث كان الانفجار عفويا، والحراك عفويا، والشباب الذي لعب دور المنظم والمحدد للشعارات كان عفويا رغم كل ذلك. لقد رفض النظام الاستبدادي المعتدي والمفقر للشعب، لكنه لم يكن يعرف ما البديل، رغم أنه انحكم لوهم أنه يعرف.

ولم يكن يمتلك وعيا سياسيا حيث كان جله بعيدا عن السياسة منكفئا إما نحو ما هو روحي (الدين)، أو متلهيا بما هو عبثي، مستغرقا بالنت الذي كان بالكاد قد انتشر، وبحياة خاصة، وهي نتيجة لمأزق انسداد الأفق بعد التراجع الشديد في فرص العمل أو الحصول على أجر يسمح بالعيش، كما هو نتيجة استبدادية طويلة مارستها النظم، بالتوازي مع تفريغها الثقافة والتعليم من كل قيمة، وسماحها بانتشار أفكار "أصولية"، "سلفية"، سطحية وتعزز الأوهام.

لهذا كان طبيعيا أن تكون الأزمة المعيشية هي العنصر المفجر لقطاع واسع من الشعب، ويكون التوق إلى الحرية التي تسمح بتطوير الفكر والنشاط السياسي هي العنصر المحرض لفئة من الشباب كان بدأ ينشط بشكل أو بآخر، لكن كل ذلك لم يكن يهيئ لأن يستطيع هؤلاء تنظيم الثورات وتحديد هدفها بعد إسقاط النظام، من حيث تحديد السلطة الجديدة والسياسة التي ستتبعها من أجل تحقيق مطالب الشعب.

هذه مسائل من "اختصاص" الأحزاب التي تريد تمثيل طبقات شعبية، لكن الأحزاب (واليسارية خصوصا) كانت قد انعزلت عن الحراك المجتمعي منذ تحققت التحولات بعد التغيير الذي حدث أواسط خمسينيات القرن العشرين، وظلت تنحكم لمنظور "قديم" رغم كل التغيير الذي تحقق، ومن ثم انتقلت إلى التركيز على الحريات والديمقراطية من خلال الضغط على النظم كي تقبل بـ"التحول الديمقراطي".

وكان "الميل اليساري" الذي حكم التجارب السابقة يجعلها تميل لرفض كثير مما كانت تطرح، ومركزة خطابها حول الديمقراطية، والإغراق في تبني اللبرلة التي كانت السبب الجوهري في عملية التحول الاقتصادي ومركزة الثروة، وبالتالي إفقار الطبقات الشعبية.

بهذا كانت تمركز نشاطها في مسار مختلف عن المسار الذي يُدفع الشعب إليه، أكثر من ذلك كانت قد أصبحت في كامل القناعة بضرورة اللبرلة، وبالتالي فإن خلافها مع النظم يتمحور حول "شكل السلطة" الاستبدادي. وهو الأمر الذي لم يكن يسمح لها بتلمس الاحتقان الذي يتراكم لدى الطبقات الشعبية، ولم تكن تعتقد بأن الشعب يمكن أن ينفجر في ثورة.

ربما تكون بعض الشعارات الديمقراطية التي طرحتها في نشاطها المعارض قد تسربت إلى قطاع من الشباب الذي حملها لكي يجعلها جزءا من مطالب الثورة، لكن دور هذه الأحزاب في الثورات كان هامشيا في الغالب، ولم تطرح أكثر مما طرح الشباب الذي يلعب الدور المحوري في الثورة، بيد أنها اعتبرت أن ما أنتجته الثورة في مرحلتها الأولى كافيا، واعتقدت أن الأمور سوف تسير لتكريس نظام ديمقراطي تعددي، يلتزم بانتخابات حرة دون تزوير، ما يسمح بنشوء نظام برلماني يتيح المعارضة وتداول السلطة.

ما يمكن قوله هنا هو أن الثورات افتقدت للبديل كرؤية وأهداف وبرنامج وإستراتيجية، كما افتقدت للأحزاب التي تسطيع أن تغرس هذه الرؤية في أوساط الطبقات الشعبية، وتعمل على تنظيم حراكها بشكل يسمح بإسقاط النظام فعليا، وبفرض البديل الذي يحقق مطالبها

مع الوقت بات هذا هو شغلها الشاغل، ومحور نشاطاتها، متجاهلة مطالب الطبقات الشعبية، وناسية أن الشعب هو الذي صنع الثورة، وأنه صنعها من أجل حل مشكلات البطالة وتدني الأجور وانهيار التعليم والصحة والبنية التحتية.

ولهذا تشكلت أحزاب ليبرالية، ونشأت تكتلات يطغى عليها الميل الليبرالي، وتراجع الاهتمام بالوضع المعيشي، ومشكلات البطالة، رغم استمرار الإضرابات العمالية، وأشكال متعددة للاحتجاج على استمرار تدني الأجور والبطالة، واستمرار اهتمام الحراك الشعبي بالمسألة الاجتماعية وليس بالمسار الديمقراطي، وهو ما كان يظهر من خلال تدني نسبة المشاركة في التصويت، خصوصا بين الشباب.

إذاً، ما يمكن قوله هنا هو أن الثورات افتقدت للبديل كرؤية وأهداف وبرنامج وإستراتيجية، كما افتقدت للأحزاب التي تسطيع أن تغرس هذه الرؤية في أوساط الطبقات الشعبية، وتعمل على تنظيم حراكها بشكل يسمح بإسقاط النظام فعليا، وبفرض البديل الذي يحقق مطالبها.

وإذا كانت الأحزاب القائمة تزداد عجزا وتهميشا فإن حتمية استمرار الطبقات الشعبية بفرض التغيير، خصوصا مع تراكم خبرات الفئات الشبابية التي تلعب دورا "قياديا" فيها، وتطور وعيه، سوف تفرض نشوء البديل، مع تطور الثورات ونضجها، وبالتالي انتصارها.

بالتالي الأزمة هي أزمة بديل، وليس من الممكن أن تنتصر ثورة لا تحمل بديلا. وهذا ما يفرض محورة النشاط حول ذلك وليس الهروب إلى اليأس والوهن، أو اعتبار أن الحلم الوردي قد انتهى.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.