جريمة تونس وهندسة الفوضى الجديدة

Tunisian security forces secure the area after gunmen attacked Tunis' famed Bardo Museum on March 18, 2015. At least seven foreigners and a Tunisian were killed in an attack by two men armed with assault rifles on the museum, the interior ministry said. AFP PHOTO / FETHI BELAID
غيتي إيميجز

الجريمة
سياق الجريمة
في جذور العنف
هندسة الفوضى

الجرائم والتفجيرات والاغتيالات وأصوات القنابل والبراميل المتفجرة جزء أساسي من الخبر العربي اليومي، لكن بعض الجرائم تتجاوز في رمزيتها ومداها وآثارها مجرد الخبر، لأن أبعادها الوظيفية تتخطى حدود الجريمة على بشاعتها لتكون عنوانا لمشروع أكبر يتعدى زمانها ومكانها وآثرها المحلية.

قبل أيام سقط في تونس أكثر من عشرين قتيلا أغلبهم ضيوف من سياح ذوي جنسيات أوروبية مختلفة، بالإضافة إلى عدد كبير من الجرحى وعون أمن تونسي وعاملة بمتحف "باردو" الأثري مكان وقوع الجريمة. هذه الجريمة الوحشية تعد الأكبر والأخطر في تاريخ تونس الحديث مع الإرهاب والجماعات الإرهابية، بسبب مجموع العناصر التي تتداخل سواء في خصائص الجريمة نفسها أو في السياق العام الذي حدثت فيه.

وهي من ناحية أخرى مؤشر على مخطط جديد لتحريك الفوضى وإعادة هندستها وتوزيعها في منطقة الثورات العربية، حيث الرغبة الواضحة في أن تتجه الفوضى غربا نحو منطقة المغرب العربي من أجل استثمار أقصى لحالة اللانظام، ومنع نجاح أي انتقال حقيقي نحو مجتمعات أكثر عدالة وأقل قمعا، وتسهيل الهيمنة على إرادة الشعوب وثرواتها.

الجريمة

جريمة تونس مؤشر على مخطط جديد لتحريك الفوضى وإعادة هندستها وتوزيعها في منطقة الثورات العربية، حيث الرغبة الواضحة في أن تتجه الفوضى غربا نحو منطقة المغرب العربي، من أجل استثمار أقصى لحالة اللانظام ومنع نجاح أي انتقال حقيقي نحو مجتمعات أكثر عدالة وأقل قمعا

لأول مرة تقريبا تتم جريمة بهذه البشاعة في قلب العاصمة التونسية وعلى مرمى أمتار قليلة من مجلس نواب الشعب، أي قرب واحد من أهم مراكز السيادة الوطنية إلى جانب القصر الرئاسي ومبنى الوزارة الأولى. أما استهداف السياح فهي المرة الثانية التي تنجح فيها جماعة إجرامية في تحقيق هدفها بعد اعتداء جزيرة جربة الذي استهدف سياحا أجانب أمام معبد يهودي في الجنوب شرق تونس في شهر أبريل/نيسان 2002، وفشل اعتداء مماثل سنة 2013 على نزل بمدينة "المنستير" الساحلية.

الجريمة تطور نوعي خطير في طبيعة العمليات التي تستهدف الأمن القومي لتونس، خاصة في سياق اجتماعي واقتصادي وإقليمي هش ومتوتر، وهو ما يضاعف الآثار المباشرة والجانبية لحدث بهذه الدموية.

هي أيضا تمدد للإرهاب نحو الحواضر الآمنة عادة، بل وصوله إلى قلب المراكز السيادية للدولة محققا اختراقا أمنيا يدفع إلى مراجعة حقيقية للمنظومة الأمنية التي فشلت فشلا ذريعا في منع هذا الاختراق، والتي ما زالت مرتهنة بالتجاذبات السياسية وبتصفية الحسابات عبر تسريبات من هنا وتسريبات من هناك ولم تتخلص بعد من إرث "بن علي" الثقيل فتتحول إلى نواة حقيقية لأمن جمهوري وطني بدل الاشتغال بالوكالة لهذا الحزب أو ذاك.

الجريمة من جهة أخرى ضربة موجعة لاقتصاد وطني ضعيف جعله النظام الاستبدادي التونسي معتمدا بشكل كلي على السياحة الرخيصة، مما حوله قطاعا هشا مرتهنا بالأزمات السياسية والجرائم الإرهابية التي لا تستثني أية دولة في العالم في زمن الإرهاب المعولم، وهي من وجهة نظر أخرى فرصة جديدة لتفعيل بدائل اقتصادية حقيقية تحرر الاقتصاد والبلاد من الارتهان المطلق لوكالات الأسفار الأجنبية، وتفتح الطريق نحو اقتصاد معرفي وتكنولوجي جديد يُخرج العامل التونسي من خانة النادل والدليل السياحي وبائع الياسمين.

سياق الجريمة
لا يمكن -من جهة أخرى- فصل الاعتداء الإرهابي الأخير في تونس عن السياق العربي العام، وتحديدا عن التفاعلات الناجمة عن ثورات الربيع بل عن حركة الفوضى وهندستها الجديدة منذ تدشين التدخل الأجنبي على الأرض العربية في مطلع العشرية الأخيرة من القرن الماضي، أي خلال الحرب الأميركية على شعب العراق. لا يمكن فصلها أيضا عن الحرب الدائرة في ليبيا، وعن تبعات الانقلاب المصري، والجرائم المرتكبة في سوريا وفي مناطق أخرى من المنطقة.

يجب أن لا ننسى كذلك أن تونس كانت مهدَ الربيع العربي وقد نجحت -رغم عودة الدولة العميقة إلى الحكم- في تحقيق تقدم سياسي نوعي بتكاليف قليلة مقارنة ببقية الثورات، كما أن التركيبة الديموغرافية والثقافية للشعب العربي في تونس تجعل منه وحدة نادرة في المنطقة.

يهدف الهجوم لإقحام القوى الدولية وخاصة منها الأوروبية في الصراع القائم بين الثورة والثورة المضادة عبر تهديد حدائقها الخلفية ومجالات نفوذها الحيوية. لأن ضرب تونس في القلب إنما هو رسالة للأوروبيين بأن حدودهم الجنوبية غير آمنة وأن لهيب المنطقة قد يمتد إليهم

هي وحدة صمدت طويلا أمام سياسة التهميش المنظم لما يزيد على ثلاثة أرباع السكان، خاصة في مناطق الشمال الغربي والجنوب مقارنة بالحواضر الساحلية وبمدن المركز التونسي في شمال شرق البلاد.

البيئة الثقافية التونسية تبقى بهذه الخصائص بيئة طاردة للعنف والإرهاب رغم القمع السياسي والبوليسي الذي مارسته آلة بن على ومن قبله بورقيبة على شعب تونس، وما عرفته أقبية سجونها من تعذيب واغتصاب وإعدامات وممارسات بشعة طيلة ما يزيد على نصف قرن هي عمر ما يسمى زيفًا بدولة الاستقلال التي انتهت بثورة 17 ديسمبر/كانون الأول 2010 الخالدة، والتي كشفت حجم الزيف والتضليل الذي مُورس في حق أجيال بكاملها من أجل رفاه حفنة من اللصوص تتصدرهم حاشية الرئيس الهارب.

في جذور العنف
اليوم وبعد ثورة دامية وعودة للدولة العميقة في شكلها الجديد، يطل الخطر الإرهابي على الثورة وعلى المنطقة باعتباره أبرز التحديات الآنية التي تواجهها البلاد.

هذا التحدي وُلد من رحم آلة القمع، ومن الإرث الثقيل للدولة الأمنية التي أسسها نظام الرئيس الفار، ومن سياسة التفقير والتهميش والتغييب التي مثلت الأرضية الحقيقية لنمو نزعات التطرف والعنف.

هي أرضية تغذيها دولة الفساد ونهب المال العام وتفقير التعليم ومحاربة الهوية وتعميق التفاوت الجهوي وبث ثقافة الاحتقار والازدراء التي يتقنها "إعلام العار الوطني التونسي"، إلى جانب محاربة ثقافة العمل عبر الأذرع النقابية التي ركعت الاقتصاد وصادرت حق التلاميذ والطلبة في التحصيل والتعلم عبر مقايضة السنة الدراسية بالمطالب المادية والمنح في نظام تعليمي يصنف أسفل السلم أفريقيًا.

مدينة "القصرين" مثلا ومرتفعات "جبل الشعانبي" الوعرة -حيث تتحصن جماعات إرهابية غامضة النشأة والتمويل- كانت المركز للثورات العربية إلى جانب مدينة "سيدي بوزيد"، وهي مناطق فقيرة جدا أمعن الحكم الاستبدادي زمن الوكالتين الأولى والثانية في تهميشها وفي جعلها مناطق خصبة للتطرف والعنف مع نزوع أهلها الفطري للسلمية، وذلك رغم دموية قناصة النظام الذي تشهد عليه الفصول الأولى من ثورة الحرية والكرامة.

هندسة الفوضى
من الجبال إلى المدينة ومن الريف إلى قلب العاصمة ومن التخوم إلى قلب فضاء السيادة ومن هامش الهامش إلى مركز المركز، تلك هي المسافة التي قطعتها حركة الفوضى، وهي مجموع الاتجاهات الجديدة التي تطرحها هندسة الخراب عربيا في تحديد حالة ما بعد ربيع العرب.

مهندسو الفوضى وعرابوهم خارج المنطقة وداخلها من الجالسين على مليارات المليارات من ثروات الأمة وعرق أبنائها، يعلمون جيدا أن وأد الربيع وحسم المعركة مع ثورات الشعوب لن يكون إلا عبر إعادة توزيع الفوضى هندسيا بين المشرق والمغرب، لتحقيق ثلاثة أهداف مركزية.

منطقة المغرب العربي مقبلة على تغيرات جوهرية تتم للأسف الشديد في سياق عجزت فيه أنظمة هذه المنطقة عن تحصين أوطانها، عبر اعتقادها بأبدية الاستبداد وفشلها في تجاوز خلافاتها التاريخية البائسة، بل في تورطها أحيانا في تصدير الفوضى إلى جيرانها

يتمثل الأول في إقحام القوى الدولية -وخاصة منها الأوروبية- في الصراع القائم بين الثورة والثورة المضادة، عبر تهديد حدائقها الخلفية ومجالات نفوذها الحيوية. لأن ضرب تونس في القلب إنما هو رسالة للأوروبيين بأن حدودهم الجنوبية غير آمنة وأن لهيب المنطقة قد يمتد إلى الطرف الجنوبي من الثوب الأوروبي الناعم.

يتحقق الهدف الثاني عبر تهديد الشعوب الثائرة وتهدئتها من خلال تخِييرها بين الرضا بالاستبداد أو مواجهة آفة الإرهاب، أي بين القمع وسلب الحرية أو الفوضى والترويع، وهو تهديد وجد طريقه إلى الوعي الجمعي العربي البسيط الذي أصابه إعلام الدولة العميقة بالعطب عندما صار يطالب يوميا بما حققته ثورات الربيع، ولم يدرك أن الفوضى نفسها هي سلاح دولة العمق من أجل مصادرة حريته من جديد.

ثالث الأهداف هو التمهيد والتشريع لإعادة الدولة الأمنية، أي دولة القمع باعتبارها القاعدة الأصلب لدولة العمق، أي التشريع لإعادة ما بسببه ثارت الجماهير العربية. وليست الفوضى والتحكم في درجات تمددها واحتدادها وخفوتها إلا السلاح الأبرز الذي يدفع "لاوعيَ" الجماهير إلى القبول بالدولة القمعية، بل إلى المطالبة بعودتها.

منطقة المغرب العربي مقبلة على تغيرات جوهرية تتم للأسف الشديد في غياب شبه كلي للقوى المعنية بالفوضى المتمددة، وفي سياق عجزت فيه أنظمة هذه المنطقة عن تحصين أوطانها عبر اعتقادها بأبدية الاستبداد وفشلها في تجاوز خلافاتها التاريخية البائسة، بل في تورطها في تصدير الفوضى أحيانا إلى جيرانها.

هذا الوضع خلق قابلية للفوضى تتمدد وتصعد من جنوب الصحراء وتطل اليوم في قلب عواصم المغرب العربي لتهدد بحق مصير شعوب بكاملها، وهو تهديد جدي بأن الحريق القادم لن يستثني أحدا. بل إن الحرية والعدالة الاجتماعية والتوزيع العادل للثروة وإيقاف غول النهب والفساد؛ ليست مطلبا اجتماعيا أو سياسيا اليوم بقدر ما هي طوق النجاة الوحيد أمام زحف الموت والخراب وألسنة الحريق الذي سيجد في المنطقة كل أنواع الحطب الجاف.

الطريق الوحيد لتجفيف منابع التطرف والإرهاب الصناعي منه والطبيعي لا يقتصر على الحل الأمني، بل يتجاوزه إلى ضرورة القضاء على شروط إمكان التطرف، عبر ضرب جذور السلوك الاستبدادي ومحاربة حالات اليأس عند الشباب وتطهير منصات الإرهاب الإعلامي وتحقيق أبسط شروط العدالة الاجتماعية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.