داعش ومستقبل التكوين السياسي بالمنطقة العربية

مقاتلو داعش في الفلوجة بالعراق

عندما فرّ نابليون من سجنه كتبت صحف باريس: "فرار السفاح". ثم عندما اقترب من فرنسا كتبت: "المجرم يقترب من البلاد". ثم عندما اقترب من باريس كتبت: "الدكتاتور لم يعد بعيدا". وعندما دخل باريس كتبت: "الإمبراطور يدخل باريس"!

بهذه العبارات -أو الأحجية- نختصر الكثير من المشهد العربي حولنا. فالمحركات الدولية تعيث في الأرض فساداً، وعناصر المجتمع تتقلب عليها التصنيفات طوعا أو قسراً بين مراتب المجتمع، من المجرم السفاح إلى أن يصبح دكتاتوراً أو إمبراطوراً، بحسب مقتضيات المشهد الحزين.

وليس في العالم العربي قوى كثيرة فاعلة على الساحة السياسية خارج المنظومات الوظيفية ومن يدور في فلكها، وكلما استقلت قوة بتوجه حر أو شبه حر تم وأدها بعد حصارها إعلامياً وتشويه صورتها في الذهن والوعي الجمعي للمجتمع.

كأننا بفرعون يقول: "ذروني أقتل موسى".  فرعون لم يكن يمنعه أحد من قتل موسى وقتها، إنما قوله "ذروني"، تفيد رغبته في أن تتحرك آلته الإعلامية لتمهد للجريمة المرتقبة ضد نبي الله وزمرته من المؤمنين، ليتقبلها الضمير والعقل الجمعي في المجتمع.

ولعل لسان حال الأنظمة الوظيفية مع إعلامها يقول ذروني أقتل كل من تسول له نفسه الاستقلال برأيه عن الطريق المرسومة له سلفاً.

أما أحجية نابليون فتستخدمها القوى المحركة دولياً (أميركا وأوروبا) لتتدارك بها ومعها ما يفرض عليها من فلتات خرجت عن سيطرتها.

فطالبان الإرهابية في أول الأمر -بحسب تصنيفها- باتت جزءا من القوى الوطنية الأفغانية الفاعلة، وجبهة النصرة في سوريا ما لبثت أن فرضت نفسها على الساحة لتتحول من "القاعدة" إلى "تنظيم إرهابي"، ثم "قوة من قوى الإسلام المتطرف" في سوريا، وأخيراً "فصيل من فصائل المعارضة".

واليوم ننظر إلى "داعش"، فنشهد تسابقاً محموماً لتنميط هذه الظاهرة سياسياً ودينياً، مما يستوقف كل ذي عقل ليتساءل بسؤال ملح جاد وصارخ بشأن ماهية هذه الظاهرة المسماة "داعش"، بعيداً عن التواطؤ الدولي وعبارة "ذروني أقتل موسى"، ونستصحب من "أحجية نابليون" معضلة ومحاذير التعامل والحكم من خلال التنميط السياسي التقليدي، في ظل واقع ومتغير جديد يفرض نفسه ويتشكل خارج الإطار التقليدي للوعي السياسي والاجتماعي الإنساني المعاصر.

التنميط التقليدي غير مجدٍ في وصف داعش، فمن غير الممكن أن نصف داعش بالحركة أو التنظيم فقط، في ظل سيطرتها الفعلية عسكرياً وإدارياً على مساحة تمتد من الرقة إلى الموصل، تفوق مساحة المملكة المتحدة، وبمقدرات اقتصادية تفوق مقدرات عدة دول عربية مجتمعة.

كما يصعب أن نصفها بالدولة -بحسب المفهوم التقليدي- لفقدانها الاعتراف الدولي من جهة، ووجودها على أراض عابرة للحدود تعتبر في القانون الدولي تابعة لدول أخرى مستقرة الحدود.

وهنا، يجب أن نؤكد أن وجودها وظهورها في الإدارة اليومية لحياة المجتمعات الخاضعة لسيطرتها في شكل إدارة الدولة مقدراتها، يجعلها أكثر من تنظيم، واستمرار تمسكها بحرب العصابات والاعتماد على القوى المتطوعة لا يصنفها دولة، بحسب التصنيف الدولي الحديث.

لقد نجح تنظيم الدولة (داعش) بدهاء منقطع النظير في الجمع بين جدلية الإبقاء على ديناميكية الحركة الفكرية في الصراع العسكري، وحرب العصابات والعمليات النوعية وأسلوب الكر والفر في الهجوم، حيث لا سيطرة لها ولا تمكن دائما من جهة، وشكل الحرب المنظمة في وضع الدفاع عن المدن الخاضعة لمناطق سيطرتها والتي تديرها من خلال الاعتماد اليومي على آليات تنظيم كيان الدولة التقليدية. ويبقى السؤال: من هم؟ وماذا بعد؟

التنميط التقليدي غير مجدٍ في وصف داعش، فمن غير الممكن أن نصف داعش بالحركة أو التنظيم فقط، في ظل سيطرتها الفعلية عسكرياً وإدارياً على مساحة تمتد من الرقة إلى الموصل، وتفوق مساحة المملكة المتحدة، وبمقدرات اقتصادية تفوق مقدرات عدة دول عربية مجتمعة

إن المتتبع لتاريخ نشأة "داعش" يدرك أنها كانت فصيلا أكثر تطرفاً وعنفاً وأقل مرونة من الفصيل الأم "القاعدة"، وكان لها دور سلبي في الصراع المحموم الدائر في الشام، حيث تم اختراقها وتوظيفها لضرب القوى الإسلامية الفاعلة في معركة تحرير الشام من الأقلية العلوية المسيطرة المدعومة من إيران راعية القوى الشيعية في العالم.

إلا أن المراقب من بعيد يدرك أن ثمة تحولا نوعيا حدث للتنظيم عام ٢٠١٣ عندما شهدنا مصرع العديد من قياداته بشكل متتابع، وظهور أسماء جديدة على الساحة لتستلب قيادة الدفة، وتقود التنظيم بعيداً عن مراد القوى التي اخترقت التنظيم وحددت مساره أول الأمر.

ودون الخوض في "من هم" قادة داعش الجدد تحديداً، لا بد أن ندرك أن القوى الوحيدة القادرة على تحديد عناصر الاستخبارات الإيرانية والسورية العلوية المتغلغلة في تنظيم داعش ما قبل ٢٠١٣، ومن ثم قنصهم والإطاحة بهم، لا يمكن أن تكون إلا قوى مناوئة ذات عداء تاريخي ورقابة استخباراتية حثيثة لإيران وسوريا امتدت عبر عقود من الزمان.

وهذه الصفات لا نجدها إلا في قوى الجيش العراقي المنحل على وجه العموم وفي الاستخبارات العراقية العامة أيام حكم البعث على وجه الخصوص، ويرجح أنهم من قاد عملية استعادة السيطرة على مفاصل "داعش" وإعادة توجيهها.

والجدير بالذكر أن أغلبهم لا يزالون منضويين تحت مسميات عدة يعمل من خلالها، منها حزب البعث، والمجلس العسكري، والطرق الصوفية الجهادية كالنقشبندية، والقبائل السنية. كما يجب ألا نستبعد وقوع ما يحدث موقعاً طيباً متوافقاً مع مراد ورغبة قوى إقليمية متاخمة مثل تركيا، فتغض الطرف عن داعش أحياناً، وتمكن لها على حذر في أحيان أخرى.

لقد تضافرت الأقدار لتجعل من إبقاء داعش -إن صح وصف الإبقاء- على الساحة في الفترة الحالية أمراً مقبولاً على مضض من قبل قوى إقليمية لا تستطيع خوض صراع مباشر ولا مواجهة عقائدية مفتوحة مع إيران، نظراً لحساسية وضعيها الداخلي والدولي.

كما أن هذا يخدم هذه القوى الإقليمية المتعاطفة مع القوى والجماعات الإسلامية المعتدلة، في الدفع بإعادة قبول أميركا وأوروبا الإسلام السياسي السني المعتدل على الساحة الإقليمية والدولية، باعتباره البديل الأوحد القادر على وقف تمدد داعش أو التقليل من حظوتها بين القوى الشبابية النافرة عن التقليد، الكافرة بالمبادئ الغربية التي وأدت كل إرادة ديمقراطية وحرية حملها الصندوق الانتخابي للواجهة، لتجد في عنف داعش مخرجاً وانتقاماً من الحالة السياسية العربية والإسلامية الراهنة وكل من تسبب فيها.

ولهذا وجب أن نفرق بين داعش ما قبل ٢٠١٤ وداعش ما بعد ٢٠١٤. فاليوم، بدأت داعش تتموضع، مستغلة التنافر الإقليمي لتعزز وجودها وتدفع بسرعة محمومة نحو فرض كيانها كأمر واقع ولاعب إقليمي على الساحة.

إن المراقب من بعيد يدرك أن ثمة تحولا نوعيا حدث للتنظيم في عام ٢٠١٣ عندما شهدنا مصرع العديد من قياداته بشكل متتابع، وظهور أسماء جديدة على الساحة لتستلب قيادة الدفة، وتقود التنظيم بعيداً عن مراد القوى التي اخترقت التنظيم وحددت مساره أول الأمر

ولكن ما يراد، وما تكمن الإفادة منه في ظل وجود داعش حالياً، ليس بالضرورة هو ما تريده داعش أو ما تعمل لأجله، والتقاء مصلحة داعش مع مصالح الدول الإقليمية في غض الطرف عنها لا يعني بالضرورة استمرار التقاء هذه المصالح.

كما أن داعش ذاتها لا تزال تعاني داخلياً من تعدد المشارب والمكونات الفكرية والرؤى السياسية، مما يحتم وقوع صراع داخلي مستقبلي يقدح زناده استقرارها والتفاتها إلى ترسيخ بنيانها، أو دخولها في صراع مع قوى إسلامية ذات مكون ومشرب فكري مختلف لا يقل عنها قوة وإصراراً.

وسواء بقيت داعش أو رحلت عن الساحة أو بدلت ثوبها الحالي، فمما لا شك فيه أنها خلفت للأمة ميراثاً سياسياً عبقرياً وهائلاً من حيث تدري أو لا تدري.

وقد تثير مقولتي هذه امتعاض الكثيرين، ولكن التحليل المنطقي يجب أن يأخذ في الحسبان تمكن داعش من تجسيد وتطبيق فكر القاعدة عملياً على أرض الواقع.

حيث استطاعت لأول مرة الإطاحة بوهم الحدود الوطنية الجغرافية التي خطتها معاهدة سايكس بيكو، محررة نفسها -ومن خلفها العقل العربي والسني- من ربقتها بفرض نموذج يجعل من الممكن والمقبول بين مقومات المجتمع العربي السني استعادة حلم الأمة الواحدة والدولة العربية المسلمة السنية الكبرى، دون النظر إلى صلاح داعش من فسادها حالياً، وعزز ذلك فشل التحالف في إنهاء داعش باعتراف قادة التحالف الغربي أنفسهم.

إن ميراث داعش عابر الحدود أنهى هيمنة الدولة القُطرية، وعزز قيم التحالف العقائدي. وقد أسهمت إيران -عبر حربها العقائدية المشؤومة في كل من الشام والعراق واليمن- في تعزيز قيم التحالف العقائدي، وهو ما يعني أنها (إيران) من حيث تدري أو لا تدري لفت حبل المشنقة حول رقبتها، إذ كشفت عن طويتها ومآربها أمام المارد السني الآخذ في الانتباه. ولكن لهذا الأمر حديث آخر.

أما مستقبل داعش فمنوط مباشرة بالتطور الحادث على الساحتين السورية والعراقية، وأي العاصمتين ستقع قبل أختها في أيدي الثوار السنة من داعش أو من غيرهم. والمتابع الدؤوب يقدّر أن دمشق هي المرشحة لتكون أولى العاصمتين تحرراً على أيدي الثوار، مما يعني تكافؤ فرص الثوار -ممثلين في فصائلهم الكبرى بالإضافة إلى داعش- لإحكام السيطرة أو الظفر النهائي بالسلطة المطلقة.

ويُرجح أن تسبق ذلك تحالفات سريعة، وظهور فصيلين أو ثلاثة فصائل متضادة، تدخل في تفاهم أو تخوض في ما بينها معركة وجود للإقصاء أو الإخضاع أو الترويض. وهنا يجب أن ندرك أن مكانة داعش في الشام شابها الكثير من شوائب مخلفات ما قبل "داعش ٢٠١٤"، مما يجعلها أقل قبولاً في الشام منها في العراق.

داعش ذاتها لا تزال تعاني داخلياً من تعدد المشارب والمكونات الفكرية والرؤى السياسية، مما يحتم وقوع صراع داخلي مستقبلي يقدح زناده استقراراها والتفاتها إلى ترسيخ بنيانها، أو دخولها في صراع مع قوى إسلامية ذات مكون ومشرب فكري مختلف لا يقل عنها قوة وإصراراً

وهو ذات السبب المرجح لكفة تحالف القوى الإسلامية الأخرى في حال خوض حرب بقاء ضد داعش، وهي الحرب التي ستستدعيها داعش دون غيرها إن أصرت على الإقصاء.

ولا بد من التنبيه إلى أن موقف داعش باعتبارها "دولة خلافة" -كما تزعم- يجعل من الصعوبة عليها بمكان أن تتنازل طوعاً عن مفهوم الخلافة والسيطرة الجامعة لصالح تحالف إقليمي محلي.

أي أن صراعا عسكرياً بينها وبين باقي الفصائل المتحالفة أمر مرجح، ما لم تتدخل المفاصل التي تدير دفة داعش (من رجال الاستخبارات العراقية وضباط الجيش العراقي السابقين) بالتعاون مع دول إقليمية مؤثرة، لإعادة تحويل مسار داعش أو التخلي عنها عسكرياً، علماً بأنهم المكون الرئيسي الفاعل لها.

ورغم الرفض والتجييش الدولي العارم ضد التنظيمات الإسلامية المسلحة -بما فيها داعش- باعتبارها أيقونة التخلف والبربرية والتوحش في النظر الغربي، فإن الحقيقة والواقع يؤكدان أن من يسيطر على العاصمة سيفرض تعاملا واعترافا دوليا بالواقع الجديد باعتباره شرا لا بد منه، وسيتحول السفاح المزعوم إلى مجرم، ثم إلى دكتاتور، بحسب حاجة الغرب إليه واضطراره للتعامل معه، وقدرة الغرب على التمحور والتموضع فائقة وجلية، كما أسلفنا.

والجماعات الإسلامية لن تنبري لمواجهة الغرب وستتركه ما تركها، ولكن هذه الجماعات -بوصفها الحالي أو بتحولها إلى شكل الدولة- لن تغفل عن القوى الإقليمية والمحلية التي تحالفت مع الغرب ضدها وتسببت في إراقة الدماء وتأخير التمكين.

وبمجرد التفات الغرب عنها أو القبول بها كأمر واقع، سيمهد لها الطريق لتصفية الحسابات القديمة أو تحقيق الطموحات العقائدية. وعندها سيتحول الدكتاتور إلى إمبراطور تفد إليه رسل الدول الكبرى برسائل السلام والتعايش، ويبدأ نجم الدولة السنية الإقليمية الكبرى (دولة صلاح الدين بمفهومها العقدي والجغرافي وبكل أبعادها) في الصعود، وفرض ذاتها وطموحاتها على الساحة العالمية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.