جلب روسيا للتفاوض على الأسد

Russian Foreign Minister Sergei Lavrov (R) arrives with his Syrian counterpart Walid Muallem on September 9, 2013 for a meeting in Moscow. Muallem visits Russia for talks with the top global ally of Syrian President Bashar al-Assad as expectations grow of military action against the regime. Russia has vehemently opposed US-led strikes against the Assad regime, warning it could destabilize the whole Middle East, and President Vladimir Putin has vowed to help Syria if it was hit.

يذكر بعض الذين شاركوا في مفاوضات جنيف -التي عقدت بداية 2014 بين الأطراف السورية- أنّ الروس كانوا أكثر تشدداً من وفد النظام، وأنّ كل جهدهم تركز على ضمان إفشال العملية التفاوضية بأي ذريعة.

آنذاك كانت روسيا تنطلق من تقديرات خاصة لدى دوائر صناعة القرار بأنها أمام فرصة تاريخية لتغيير بنية وهيكلية النظام الدولي، واستعادة وضعية القطب الثاني عالميا، وكان من ضمن رهاناتها في إنجاز هذه المهمة أذرعها النفطية والغازية الضاربة في عمق الاقتصاد الأوروبي، وقدرتها على جعل شتاء أوروبا بارداً ومظلماً.

يومها أرادت روسيا إرسال رسالة واضحة للعالم بأنّ حل المسألة السورية إما أن يتم وفق رؤيتها وتصوراتها، بما يعنيه ذلك من انتصار لرواية نظام الأسد وإعادة تثبيته في الحكم وتعويمه دولياً، أو فإن الخيار الآخر هو استنزاف العالم وإرهاقه إلى أن تتم إعادته إلى الطريق الصحيح، وبالنسبة لروسيا فإنه لا مشكلة عندها في ذلك، إذ لديها ما يكفي من الاحتياطيات المالية والعالم في حاجة إليها، وأوروبا لن تستطيع مقاومة البرد في الشتاء القادم، فطالما كان جنرال البرد تاريخياً مقاتلاً خفياً مع الروس.

مرّ الشتاء، وللمفارقة فإنه كان أدفأ شتاء عاشته أوروبا منذ عقود بسبب انخفاض أسعار الوقود لسنوات بمستويات قياسية، بينما غرقت روسيا في وحول أزمة اقتصادية غيرت ديناميكيات الصراع كلها وخرجت عن حسابات وتقديرات صنّاع القرار في الكرملين.

واكتشف الروس أنهم لا يختلفون كثيراً عن الريف الفنزويلي الذي يعيش يوماً بيوم على عوائد المحروقات، وأن فلاديمير بوتين لم يصنع مشروعاً اقتصادياً يشكل رافعة لأحلام روسيا وعنترياتها.

وأن كل ما في الأمر هو بضعة فوائض مالية صنعتها عملية اندماج روسيا في الاقتصاد الرأسمالي على مدار العقد الأخير، وهي عبارة عن عوائد أتاحها النمو الاقتصادي العالمي ليعاد تدويرها في عملية استيراد المنتجات الغربية نفسها، ويستطيع هذا النظام الرأسمالي بآلياته وتكتيكاته تذويبها وتحويلها إلى مجرد احتياطيات لترقيع سعر صرف الروبل.

في هذه الأثناء، كانت روسيا قد وسّعت بيكار تدخّلها في أوكرانيا المجاورة وزاد حجم تورطها والتزاماتها.

وإزاء هذه التطورات الصادمة والفارق بين تقديراتها وحساباتها والنتائج المترتبة على أرض الواقع، تجد موسكو اليوم نفسها أمام موازنة خياراتها الإستراتيجية والقيام بإجراء نقلات سياسية مهمة تسمح بإعادة تموضعها، واستعادة وضعيتها التي كانت قبل تأزم علاقاتها مع الغرب. فماذا عن سوريا؟

تجد موسكو اليوم نفسها أمام موازنة خياراتها الإستراتيجية والقيام بإجراء نقلات سياسية مهمة تسمح بإعادة تموضعها، واستعادة وضعيتها التي كانت قبل تأزم علاقاتها مع الغرب، وهنا تقع سوريا في قلب أزمة روسيا وفي صلب حزمة متاعبها

تقع سوريا في قلب أزمة روسيا وفي صلب حزمة متاعبها، بل تكاد تكون خط اشتباكها الأساسي مع العالم، ذلك أنه مع كل ما يقال عن أزمة أوكرانيا وتداعياتها الروسية إلا أنها تبقى إشكالية يمكن حلها ضمن أطر وقواعد العلاقات التي أتاحتها أوروبا للشريك الروسي، كما أن تداعياتها تبقى محصورة ضمن نطاق العلاقات الروسية الاقتصادية في الغرب، وهي علاقات ليست إستراتيجية على اعتبار أن روسيا تملك بدائل آسيوية من السهل التحول إليها.

في حين أنّ الأزمة السورية استدعت إجراءات تمس عناصر القوة الإستراتيجية لروسيا وهي أسعار الطاقة، حيث لا تملك روسيا بدائل ذات قيمة في هذه الحرب، وليس لديها هامش احتياطي يمكّنها من الصمود فترة طويلة في هذا النمط الصراعي.

إضافة لذلك، ثمة قناعة مدعّمة بتقديرات روسية واقعية مفادها استحالة إعادة سيطرة نظام الأسد، وتاليا استعادة نظامه السابق بشكله ومحتواه، بل حتى إنه يستحيل تثبيته مما يجعل استمرار ضخ المساعدات له أمرا غير ذي جدوى، وخاصة بعد اتساع دائرة أزمات النظام من الميداني إلى الاقتصادي والسياسي، وهي أزمات لا يمكن حلها، لأن جسد النظام ممزق من جميع جوانبه بما يجعل رتقه وترقيعه أمراً مستحيلاً.

ولعلّ الأمر الأهم في الإدراك الروسي الجديد أنه لا يمكن السير وراء تكتيكات نظام الأسد الطويلة الأمد في إخضاع الغرب وجلبه إلى رؤيته، فلم تعد روسيا تقتنع بتقديرات النظام فهي مبنية على "رغبوية"، وعلى افتراض حصول تطورات تدرك القيادة الروسية أنها لن تحصل، وإن حصلت فإن تكاليفها ستكون أعلى بكثير من العوائد التي ستحققها روسيا، وخاصة بعد تحول النظام إلى مجرد طرف مليشياوي ورأسه مجرد أمير حرب.

وبالتالي فإنّ عوائد التفاوض على النظام -في حال جرى توصيفه ضمن هذه الصفة- ستكون قليلة، مع إدراك موسكو أن الأطراف المواجهة لها جدّية جداً في صراعها، والأفضل هو اللجوء إلى التفاوض لأن جبهة المواجهة واسعة وتمتد من أوكرانيا وسوريا إلى خفض أسعار النقط والعقوبات الاقتصادية.

هل تقوم روسيا بعملية انسحاب أو نزول عن الشجرة؟ بمعنى هل ستجري روسيا استدارة في مواقفها من الأزمة؟ ثمّة مؤشرات عديدة على أنّ روسيا بدأت في تلك الاستدارة، وتقوم إستراتيجيتها بهذا الخصوص على إعادة صياغة النظام والمعارضة معا لإنتاج "كرستا" أو طاقم جديد يتوافق مع شكل استدارتها.

فهي في الواقع لم تشعر بالارتياح يوماً للمعارضة السورية بشكلها الحالي ولم تتوافق معها وخاصة شقها الائتلافي، كما أن النظام بتركيبته الحالية لم يعد يشكل عاملاً مساعداً على إنجاز ترتيباتها في الحيز السوري نتيجة اندماجه في إطار بنية صراعية إقليمية أوسع وخاصة على مستوى صناعة القرار فيه، لذا تدرك استحالة تحقيق أي اختراق ضمن هذه التركيبة، وبناء عليه صمّمت الدبلوماسية الروسية إستراتيجية لمواجهة هذا الواقع.

الأكيد هو أن روسيا ستضطر -عندما تكتشف استحالة تحقيق هذا الأمر والقبول به- إلى التخلي عن نطاقاتها التفاوضية أكثر وأكثر، وهذا الأمر لن يتحقق بالأمنيات بل من خلال تصميم إستراتيجية من قبل المعارضة تجعلها أكثر قوة وصلابة على الأرض، وتجعل موسكو تقتنع بأنه لا فائدة من التشدد في التمسك بالأسد ونظامه

في الحقيقة، تبدو العملية التي تخوضها روسيا في هذا المضمار معقدة، تبدأ بإسقاط المحرمات التي شكّلت عناوين الأزمة طوال الفترة الماضية عبر طرح القضية للتداول بين الأطراف، على أن تأخذ المسألة بعداً ممنهجاً يتناول القضايا الأقل خلافية شرط أن يفتح ذلك الباب أمام قضايا أكثر إشكالية وهكذا.

ثم في مرحلة ثانية مناقشة الاقتراحات عبر تدوير زوايا بعضها وتوسعة مدى بعضها الآخر، ثم في مرحلة ثالثة مناقشة البدائل والممكنات وطرح ما هو مستحيل التحقق وتسليط الضوء على ما يمكن تحقيقه، وأخيرا التوافق حول حل ما.

روسيا في المرحلة المقبلة وفي سبيل إنجاح منهجيتها، ستحاول بناء تكتيكات عدة وتعتقد أنها تملك مساحة لتمرير تكتيكاتها تلك قبل الوصول إلى التنازل النهائي، أو هي تتعاطى مع سياق تفاوضي يجب أن يدار هكذا، وتدرك أنّ أوراقاً عدة ستعمل على حرقها، وأنّ تكتيكات ستفشل وهي موضوعة للاستهلاك من أجل تقوية الهدف الأساسي، وهو الحصول على حصّة من سوريا أو الاستفادة من الاستثمارات السياسية والاقتصادية التي صرفتها في سوريا أثناء انخراطها في الصراع من أجل تثبيت نظام الأسد في مواجهة الثورة ضده.

هذه الإجراءات تأتي في إطار رؤية روسية عبّر عنها نائب وزير الخارجية ميخائيل بوغدانوف لدى لقائه بعض الشخصيات المعارضة والمدعوّة إلى "منتدى موسكو" بقوله إن النظام السوري القديم لم يعد موجوداً وإننا إزاء نظام جديد، وكان بوغدانوف نفسه قد طرح هذه الأفكار مع القيادة الإيرانية ومع الأمين العام لـ"حزب الله" حسن نصر الله، مما دفع هذا الأخير إلى تأكيد أن بشار الأسد هو خط أحمر لا يمكن الاقتراب منه.

غير أن حسابات روسيا تختلف عن حسابات حزب الله في هذا المجال، فهي وإن كانت تعادي الإسلام السني الذي تعتقد أنّ الثورة السورية أحد تجلياته، فإنها غير معنيّة بالصراع الشيعي/السني أو هو لا يشكّل أهم أولوياتها الراهنة، في الوقت الذي باتت تدفع فيه ثمن تداعياته واستحقاقاته.

هل يعني ذلك أنّ الاستدارة الروسية ستكون في صالح الشعب السوري وقضيته، وهل يمثّل ذلك دعوة للانخراط في جهودها ضمن هذا الأمر؟ الواقع أنّ روسيا يهمها بالدرجة الأولى إيجاد مخرج لأزمتها والحفاظ على مصالحها، ويقع نظام الأسد والأسد نفسه في قلب مصالحها، ويمكن إدراج مساعيها في إطار إعادة تأهيل هذا النظام وتعويمه عبر إعادة "ترشيقه" وإدماج كتلة المعارضين المقربين لها في أطره.

لكن الأكيد هو أن روسيا ستضطر -عندما تكتشف استحالة تحقيق هذا الأمر والقبول به- إلى التخلي عن نطاقاتها التفاوضية أكثر وأكثر، وهذا الأمر لن يتحقق بالأمنيات بل من خلال تصميم إستراتيجية من قبل المعارضة تجعلها أكثر قوة وصلابة على الأرض، وتجعل موسكو تقتنع بأنه لا فائدة من التشدد في التمسك بالأسد ونظامه، كما يستدعي ذلك صمود الأطراف العربية الداعمة للثورة السورية، وتحمل تبعات خفض أسعار الطاقة لوقت أطول.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.