ضحايا تنظيم الدولة.. صامتون أم صامدون؟

صور إعدام الكساسبة
الجزيرة

النكاية والتمكين معا
تعلم "اللانجاة"
لا قضية
وقار الكاميرا

لا تظهر كاميرا تنظيم الدولة الإسلامية دون إخراج محكم، فهي ليست تلقائية على الإطلاق. والإخراج هنا ليس بمعناه الفني واللوجستي فقط، بل هو مضبوط بمقدمات ترويض نفسية محكمة، و"بروفات" سلوكية ومعرفية تقع على بطل المشهد (المشروع الحتمي للموت)، لتجمع ثنائية الهدوء والإعدام، السكينة والموت، العنف والاستسلام. السؤال هنا: هل هم صامتون أم صامدون؟

النكاية والتمكين معا
من المؤكد أن تنظيم الدولة جاء بمنظومة فكر وعمل تختلف عن ميراث الأصل (القاعدة)، وجعل من التمكين على الأرض أصل المعادلة، فقد انتقل من معنى الشبح الذي لا عنوان له ولا جغرافيا إلى كيان ملموس الجغرافيا والديمغرافيا وبمصادر إنتاج وحدود، شعاره "باقية وتتمدد".

العملية العقلية عند المعتقل لدى تنظيم الدولة تسير كما يلي: إما أن أقاوم فأموت فورا، أو أن أخضع فأؤجل الحدث لساعات أو أيام، أو ربما أحصل على النسبة البسيطة الغامضة من النجاة

هو إذن انتقال صريح من الهواء إلى الأرض، ومن السرية المطلقة إلى الوضوح السافر. ولكن أنى لذلك أن يستقر دون التعاطي مع موروث القاعدة من النكاية، مع أدواتها التقليدية من التنكيل والترهيب والخشية؟ بل إن انتقالا كهذا لا بد معه من الإمعان والتكثيف لأدوات العنف.

ولهذا بدت جلية تلك الرسالة الإعلامية التي رغب التنظيم في إرسالها إلى المبغض والمحب على حد سواء، ولعله نجح في التصوير المسرف الجارف لمشاهد القتل الجماعي والموت السهل الذي لا ترفّ له طرفة عين ولا ترافقه إشارة تردد ولا يخالطه أي خوف من النتائج والمترتبات (وهو ما أريد له أن ينطبع في عقل العالم)، بل على العكس هو بالنسبة للتنظيم قتل بقناعة وإيمان ويقين، توليفة حيل عقلية كفيلة بقمع أي شعور طبيعي بالذنب لديهم.

إذن هو تمكين مع نكاية، موت محتم على الرهينة لا يحتمل مبررات غير مبررات التنظيم، ولا مفاوضات إلا على مقاس التنظيم، ولا التماس أو استثناء إلا بقواعد ثابتة عنده مجهولة غامضة عند غيره، فالضحية ميتة بالضرورة إلا هامش استثناء بسيط غير محدد المواصفات.

بناء على ما ذكر فالعملية العقلية عند المعتقل لدى تنظيم الدولة تسير كما يلي: إما أن أقاوم فأموت فورا، أو أن أخضع فأؤجل الحدث لساعات أو أيام، أو ربما أحصل على النسبة البسيطة الغامضة من النجاة.

تعلم "اللانجاة"
تكمن هذه النظرية العريقة في جدلية مفادها أنني كإنسان مهما فعلت أو قلت أو اجتهدت فإنني دائما مخطئ، والخطأ يستوجب العقوبة والتنفير والتعزير. وطبقت تجارب متواترة على غير الإنسان -الكلب تحديدا- وسلطت عليه صعقات كهربائية في كل اتجاهات الحركة، مما انتهى به كائنا صامتا منعزلا مسالما ليس له القدرة على الاعتراض أو النباح أو المقاومة.

في معتقل مغلق موصد الأبواب غير قابل للاختراق وبمرجعية بلون واحد يمكن انتزاع نظرية "اللانجاة" لتطبيقها على الإنسان، فالكائن البشري بافتراض ارتكابه لأي فعل مخالف أو انتمائه لأي دين أو مذهب أو عرق لا يأتي على المقاس الضيق المحدد لتنظيم الدولة، تتم شيطنته وتجريمه.

وينحو المعتقل نحو الإجبار على الإيمان بمرجعية واحدة لها الحق في فرز الخطأ من الصواب والحلال من الحرام، لدرجة تصبح معها نظرته لذاته ونظرته الآخرين ونظرته للعالم منصهرة معا تحت رؤية التنظيم (مصدر التشريع والحقيقة).

وهنا يتقمص الضحية جلاده ويتعلم أن مخالفة الأخير إثم وخطيئة ومطاوعته براءة وطهارة. ويصبح الفعل "التلقائي الإنساني الاعتيادي" محرما ومجرما تحت هذا الكم الشديد من التعنيف النفسي والجسدي لدى الإنسان المعتقل.

هنا يغدو الفرد مستنكرا لنفسه، منفصلا عن ذاته الأصيلة التي لها القدرة على الحزن والغضب والانفعال والثورة والاعتراض في حالتها الطبيعية، فلا غرو إذن أن تكون الانطباعات باتجاه الموت حيادية باردة، فقد تعلم أن لا نجاة من الأذى الشنيع في الحياة، وعمم عليها أن لا نجاة من موت لا يفرق جذريا عن عنت حياة لا ضير أن يفر منها.

لا قضية
في المجمل ما هي المواصفات الإنسانية للمجموعات والأفراد التي يختارها تنظيم الدولة لتطبيق إعداماته وصنوف همجيته وعنفه؟

يتقمص الضحية جلاده ويتعلم أن مخالفة الأخير إثم وخطيئة ومطاوعته براءة وطهارة. ويصبح الفعل التلقائي الإنساني الاعتيادي محرما ومجرما تحت هذا الكم الشديد من التعنيف النفسي والجسدي لدى الإنسان المعتقل

إنها تنحصر على بعض المهنيين الأجانب من الصحفيين والمتابعين، أو مجموعات من أقليات عرقية أو دينية ذات عصبيات رخوة، أو مدنيين مباغتين في قراهم ومدنهم حصل أن كانوا غير مستعدين للحدث أو القتال وغابت إرادتهم مع الفجاءة وعدم القدرة على تقدير الموقف والخسارة والكلفة.

وحتى وقت قصير من الحادثة الشائنة باتجاه الطيار الأردني معاذ الكساسبة، كانت المسألة في عقول المقاتلين تحت مظلة التحالف أمرا عسكريا يمليه عليهم واجب الخدمة وتنفيذ التوجيهات الملزمة لهم بحكم إرادة سياسية ليس لهم في إنفاذها أو رفضها ناقة أو جمل، وهو الشأن الذي اعتقد أنه اختلف جذريا مع المشهد الوحشي اللاإنساني الموغل في الهمجية والوحشية، والذي سيجعل بالضرورة من قتال تنظيم الدولة معركة خاصة لكل أفراد الجيش الأردني، بل في صميم عقيدتهم القتالية إن لم يكن شأن الأردنيين جميعا.

ما أريد أن أقوله، أن المجموعات التي نفذ عليها حكم الموت بالرصاص أو الذبح أو خلافه والتي التقطتها الكاميرا الهوليودية الداعشية المحترفة، لم تحمل في دواخلها بشكل استباقي قضية مبدئية عدائية للتنظيم، إنما هو عداء ضلالي كامل الجاهزية من جانب واحد (الدواعش).

إذن فضحايا القتل في هذه اللحظة لا يملكون قضية، اللهم إلا قضية وجودية محسومة النتائج، فليس من المتوقع مع غياب المبدأ العدائي المتأصل أن يظهر الضحايا سلوكيات مقاتلة أو معترضة ذات كبرياء مغيظ كما يتوقع ويأمل الكثيرون أن يشهدوه.

أكاد أكون على يقين بأن المخرج الوثائقي لتنظيم الدولة قد استخدم المونتاج والحذف والإلغاء على كثير من المشاهد المحرجة للتنظيم، فمعاركهم مع الأكراد -وهم عصبية صلبة- في عين العرب مثلا، لا يمكن لها أن تمر دون أسرى ورهائن.

فمثل هذه المجموعات -التي طورت بسرعة منظومة مقاومة ذات قضية مبدأ ووجود- لا يُتوقع من أفرادها إلا تماسك وصلابة أمام الموت على السكين، وهو مشهد لا يرضاه التنظيم بحكم كسره لصولجان الهيبة والهمجية (سلاحهم النفسي الذي يتغنون به ليل نهار)، وانسحابهم من مناطق كبيرة ذات التجمعات الكردية المقاتلة يدلل على سلوك "الضباع" الذي ينكص ويختبئ عند مواجهته لخصم مبدئي ذي قضية، وله القدرة والروح على كسر فزاعة الرعب.

وقار الكاميرا
لعل العناوين السابقة دعمت مصدر الانفعالات الضعيفة أمام الموت وحاولت تبريرها وتفسيرها. ولكن السلوك غير النموذجي يتقاطع فيه مبرر الاستسلام مع مبرر التماسك، فمن المعروف أن سلوك البشر ينحو باتجاه تجنب سوء الانفعال وجنوحه وعدم الوقار إذا ما ترافق مع المراقبة، وأية مراقبة؟ كاميرا مستعرضة فاضحة تمثل منفذ التنظيم ربما الوحيد على العالم، ويتلقفها الناس ويتداولونها ويغرقون فيها مشاهدة وتحليلا ونقدا.

سلوك البشر ينحو باتجاه تجنب سوء الانفعال وجنوحه وعدم الوقار إذا ما ترافق مع المراقبة، وأية مراقبة؟ كاميرا مستعرضة فاضحة تمثل منفذ التنظيم ربما الوحيد على العالم، ويتلقفها الناس ويتداولونها ويغرقون فيها مشاهدة وتحليلا

الكاميرا هنا ضابط صارم على السلوك، فشتان بين سلوك فلان باتجاه أي ضاغط كان في وجود الكاميرا الخفية، وسلوك ذات الفلان في أستوديو يديره محترفون بإبداع إجرامي باتجاه ذات الضاغط المفاجئ أعلاه.. يمكنك أن تتخيل نفسك أنت.

وقار الكاميرا يفرش ظلاله على معظم أطياف البشر، ولكنه بدا عاملا حاسما في مشهد الطيار الأردني حيث لا يستقيم في عقله أن لا يتصرف إلا بهذا القدر من الثبات ورباطة الجأش أمام سمع ونظر العالم، وهو وريث عقيدة عسكرية صلبة اعتادت تقديم قوافل الشهداء في القضايا العربية المركزية، وينسل من كنف مجتمع لديه قواعد رجولة قاسية وخشنة، وما زال يحتكم إلى العروبة ورمح الصحراء والأصول الراسخة التي لا تصالح مع الثأر ولا تتفق مع نقائص الخضوع والانحناء.

التاريخ يجثم في الجينات، فليس من المتوقع لمقاتل كمعاذ -وهو من في ظهره ميشع وصلاح الدين وهبة الكرك- أن يتعامل مع الموت بقدر أدنى من الكبرياء والتماسك.

يجب أن نقر بأن دهاء الماكينة الإعلامية لتنظيم الدولة نجح طويلا في معركة الحرب النفسية، ولكن نار الطهي الإعلامي استشاطت وفلتت من عقالها، وهي -وإن أحرقت معاذ الكساسبة- جاءت كنذير حتمي لنار ستحرق مشروعهم غير الأخلاقي وغير الإنساني ولو بعد حين.

ويبدو أن الجمع الهمجي المغلظ بين النكاية والتمكين ستفقدهم الاثنين، وستذرهم بلا أنصار ولا أرض ولا سراب شرعيتهم التي يزعمون، فقد أمعن التنظيم في العنف ليكسر حساسية الناس منه وليخرجهم من حالة التفاجؤ والدهشة السلبية إلى عتبة الفعل الجازم المقاوم بشراسة. حينها لن يتبقى من الكاميرا القاتلة إلا توثيق نادر لهمجية بربرية غير مسبوقة، كانت وانقرضت.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.