حصاد الثورة.. من البوعزيزي إلى نوبل

صورة مفجر الثورة محمد البوعزيزي/ ديسمبر/كانون الأول 2015

الحصاد وصراع الرسائل
النخب أو عنوان العجز
دروس الحصاد
مآلات التغيير

خمسُ سنوات هي المدّة التي تفصل بين نقطتين مركزيتين في حاضر تونس وحاضر العرب الحديث، وتكوّنُ دورة تامة من دورات الفعل التاريخي المعاصر للأمة وللإنسان؛ رسَم النقطة الأولى شهيدُ الفقر والتهميش محمد البوعزيزي عندما أشعل ولاعته وجسده ليعلن في حركة رمزية وجودية عن انطلاق أكبر موجة ثورية سلمية عرفها التاريخ العربي كافة يوم 17 ديسمبر/كانون الأول 2010.

أما النقطة الثانية فرسمَها الرباعي التونسي الذي تسلّم بالأمس أعلى النياشين الدولية اعترافا بنجاعة المسار التونسي وبما آلت إليه الأمور في مهد ربيع العرب مقارنة بالتجارب الدامية الأخرى في ليبيا وسوريا ومصر.

 الحصاد وصراع الرسائل
النقطة الأولى كانت رسالةَ العمق التونسي البائس عندما عبّرت أقصى أحزمة الفقر عن مستوى الإحباط الذي بلغته، وعندما عبّر أحد أبنائها عن جوابه الحقيقي عن كمّ الاحتقار والتهميش الذي نالته مدينته. أما النقطة الثانية فهي رسالة السطح الدولية التي لا تُخفي رضا مشبوها عن الوضع التونسي وعن مآل الثورة التي قامت في الأصل من أجل القضاء على وكيل القوى الدولية والنظام العالمي هناك، أي نظام "بن علي".

الرسالتان تتقاتلان اليوم في تونس، حيث تتعزّز الرسالة الأولى على كل المستويات الاجتماعية، في حين تسعى الثانية إلى محاولة نسف الأولى وإيهام التونسيين بأن ثورتهم نجحت، مستحضرة عن سوء نيّة الحصاد الدامي لثورات الربيع الأخرى. لقد فشلت الموجة الأولى للثورة التونسية لأنها إذا قيست بالشعارات التي رُفعت عند اندلاعها، وعلى رأسها شعار "التشغيل استحقاق يا عصابة السراق"، بانَ حجم الخيبة وحجم الفشل.  

بعد الثورة أعملت الدولة العميقة معاولها في أسس الاقتصاد عبر آليتين أساسيتين: تتمثل الأولى في تكثيف الإضرابات والاعتصام، والثانية في مواصلة نهب المال العام وإغراق الدولة بالقروض المعجّزة

اليوم تبلغ البطالة معدلات مخيفة، بل ومرعبة، ويزداد الوضع الاقتصادي سوءا، ويتعمق غبْن الطبقات الفقيرة، وتنهار الطبقة المتوسطة شيئا فشيئا، مما يهدد بانفجار اجتماعي في كل لحظة، خاصة بعد فشل كل المسكّنات الاقتصادية والإعلامية في كبح جماح المدّ الثوري المتربص، والإيهام بأن الرفاه ينتظرنا في منعطف الطريق.   

فورا بعد الثورة تم استهداف السلم الاقتصادي بما هو عنوان القدرة على الاستمرار وعصب التغيير الحقيقي، حيث أعملت الدولة العميقة معاولها في أسس الاقتصاد عبر آليتين أساسيتين: تتمثل الأولى في تكثيف الإضرابات والاعتصام، والثانية في مواصلة نهب المال العام وإغراق الدولة بالقروض المعجّزة.

أضف إلى ذلك اليوم انفتاح البلاد على كل أنواع الغزو المالي والاقتصادي والأمني الاستخباراتي، بما فيه انتشار التشيع منذ سقوط "نظام بن علي"، حيث تستفيد إيران دائما كما فعلت في العراق وسوريا من الفراغات المفاجئة في الدولة والمجتمع عبر أذرع مالية وإعلامية سخيّة.

النخب أو عنوان العجز
أما سياسيا فقد عجزت "نُخب بن علي" عن تجاوز ثاراتها القديمة التي تعود إلى مرحلة الفترة الجامعية في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، والتي لا تزال أصداؤها الباهتة تتردد في أروقة الحكم الثلاثة. فرغم الزواج القسري بين الإسلاميين و"وريث نظام بن علي" بعد انحسار مفعول القوى السياسية الأخرى وتحولها إلى هامش الفعل الوظيفي، ورغم نجاح الدولة العميقة في العودة إلى سدّة الحكم عبر آلية الانتخاب، لم يتحرر المشهد بعد من حمى التصدعات ومخاطر الانزلاقات التي قد تكون كارثية على الوطن لا على الأحزاب.  

أزمة الأزمات عند النخب التونسية هو أنها لم تتحرر بعد من وهْم الأيديولوجيا السياسية، وهو وهْم تجاوزته كل النخب الوطنية في كافة أصقاع الأرض، وجعلت من دفن الأيديولوجيا السياسية مدخلا عظيما نحو بناء الأمة وتأسيس السقف الوطني.

هكذا تحولت الأحزاب في أغلبها إلى دكاكين لبيع المواقف وإيجار التحالفات وتحصيل المكافآت من مناصب وولاءات وامتيازات مستنسخة ببؤس ظاهر مرحلة "ربيع نوفمبر" وثقافة "صانع التغيير" وكاشفة للدور الخطير الذي لعبه المال الفاسد في تدمير الحياة السياسية. 

هذا العجز يتجلى اليوم في اهتمام النخب التونسية -خاصة الاستئصالية منها- التي انخرطت في شبكات مشبوهة للتمويل من شبكات المجتمع المدني بالدفاع عن "الحرية المثلية" وحقوق الشواذ في نفس الوقت الذي ترتهن فيه ثروات البلاد بعقود استعمارية مذلة لأجيال قادمة، وفي الوقت الذي ما زال فيه أطفال الأرياف يشربون من المجاري الملوثة بعد أكثر من نصف قرن من الاستقلال الموهوم.

المعجزة السياسية التونسية لا تقتصر على القدرة على الايهام بالتعددية والحرية، بل تتعداه إلى الإيهام بالتعايش المزيف بين عدوين متربصين: هما النظام القديم بثوبه الجديد، والإسلاميون بجشعهم القديم على السلطة التي أوصلهم إليها أبناء المهمشين من أعماق الريف التونسي الفقير والذين لا يمتّون إلى أحزاب بأدنى الوشائج.

وليس المشهد الخيالي الصادم الذي عرفه "برلمان الثورة المضادة" مؤخرا إلا خير شاهد على ذلك، حيث أُذّن لصلاة المغرب من تحت قبة البرلمان فور الانتهاء من المصادقة على مشروع التخفيض في أسعار الخمور الفاخرة المستوردة بإجماع الكتل السياسية، بما فيها "الإسلاميون".

المعجزة السياسية التونسية لا تقتصر على القدرة على الإيهام بالتعددية والحرية، بل تتعداه إلى الإيهام بالتعايش المزيف بين عدوين متربصين: النظام القديم بثوبه الجديد، و"الإسلاميون" بجشعهم القديم على السلطة

لعل أكبر مصائب الوطن العربي كله -لا في تونس فقط- هو انحصار القدرة على الحشد والتجميع الجماهيري في المكونات العقائدية والدينية، نظرا لرسوخ هذا المكوّن في الطيف الجماهيري القاعديّ الأوسع، وهو انحصار يقابله خطان أساسيان.

يتمثل الأول في عجز المكون العقائدي في هذه الدورة الحضارية اليوم عن الفعل السياسي الحقيقي مهما بالغ في تقديم التنازلات، لأن التغيير العربي وقع داخل الدولة القطرية لا داخل الدولة الأمة، من هنا فإن الفعل السياسي لن يتجاوز ما تسمح به القوى الاستعمارية الدولية وألا تُفتّح على المشهد أبواب الموت مثلما حدث في الجزائر ويحدث في سوريا ومصر وليبيا.

أما الخط الثاني فيتمثل في غياب المشاريع السياسية الوطنية واختصارها في مشاريع حزبية ضيقة بشكل يمنع تجميع كل المكونات المجتمعية أو أغلبها حول مشروع واحد، مما يتسبب في إقصاء الجزء الأكبر من الجماهير من المعركة الحقيقية، بما هي بناء للأوطان لا للأحزاب أو التكتلات الحزبية.

دروس الحصاد
دروس الحصاد لا تختلف في تونس عن باقي الثورات العربية، ولعل أهمها هو أن رأس النظام لا يمثل في الحقيقة إلا الجزء الأصغر من الكيان الاستبدادي، وهو كذلك أسهل المكونات سقوطا وأكثرها هشاشة مقارنة بالمكونات الأعمق والأخطر للدولة القمعية.

فثقافة الفساد بتجلياتها السلوكية الفردية والجماعية، وبانكشاف مدى تمدّدها في كل الكيانات الوظيفية للدولة هي في الحقيقة الحاضنة المركزية لدولة الأعماق، بما هي جهاز مستأجر لصالح قوى دولية خارجية.

الوعي بالفساد -بما هو دولة داخل الدولة أو بما هو الدولة نفسها- يمثل أهم مكتسبات الربيع العربي الذي نقل إلى السطح ما كان ثاويا في الأعماق، لكن الأخطر من الوعي بحجم الفساد الذي بلغ مستويات خيالية هو الوعي بالعجز عن مقاومة الفساد أو الحدّ منه، فكل المؤسسات والنصوص التي سُنّت بعد الثورة لم تستطع محاسبة أي واحد من أفراد العصابة التي صادرت حرية التونسيين ونهضتهم خلال ما يزيد على نصف قرن من الزمان.

بل الأمرّ من كل ذلك هو العودة القوية لأباطرة الفساد في تونس بعد تسيب المشهد وانحسار كل الأخطار الثورية التي كانت ترفع شعار المحاسبة وشعار العدالة الانتقالية بعد أن تصدى لها "الإسلاميون" بكل حزم وهلع خوفا من تجدد المآل المصري.

 دروس الحصاد أثبتت عربيا أن فشل الموجة الثورية العربية الأولى إنما يعود في جزء كبير منه إلى وقوع ذلك الفعل خارج إطار الدولة الأمة، كما هي حال الثورات الناجحة في التاريخ من الثورة الفرنسية وصولا إلى الثورة الخمينية.

فمن ناحية أولى أثبت الربيع حدود نجاعة معاهدة "سايكس بيكو" في عزل الأقاليم العربية عن بعضها البعض، لأن انتشار المطالبة بالتغيير وانفجار الثورات في غير قطر عربي أثبتا عمق الوعي القائم بوحدة المعاناة ووحدة المصير، لكن اندلاع الثورات العربية في زوايا منعزلة سهّل من ناحية ثانية الاستفراد بها وذبحها منعزلة عن أخواتها، كما هي الحال في مصر وسوريا واليمن وليبيا.

مآلات التغيير
الثابت أولا هو أن مصير الثورة التونسية ومصير مسارها الانتقالي البائس الذي تحول لصراع بين محاور الدولة العميقة نفسها لا يتحدد داخل جدران الوطن، بل ترسمه في الخارج دوائر القرار الدولي حسب ما تمليه أطماعها التوسعية، وحسب تلبية الوكلاء في تونس لمطالب قوى الخارج.

لكنْ، لا بد من التأكيد على أن كل الرسومات التي تُحدد لمصير الثورات لا تتم دون انخراط مكونات داخلية وظيفية في تحقيق الرسم نفسه، لكنّ اللاعب المركزي المحدد لكل ذلك يبقى التيقظ الشعبي والوعي الجماهيري العام بأن المصير واحد للجميع.

العزوف عن حسم فزاعة الإرهاب بما هي ورقة استعمارية واستبدادية في أصل نشأتها والسكوت عن النزيف الاقتصادي والمالي الحاد لن يكونا غير بواعث جادّة للموجة الثورية الثانية التي بدأت أعماقها تتحرك في الجوار المصري

مدخلان سيحسمان مصير الموجة الثورية الأولى التي لم يعد ينتظر منها غير تخفيف الأضرار الناجمة عن انقلاب الدولة العميقة الوحشي، ودخول القوى الإمبراطورية الإقليمية (إيران) والدولية (روسيا) بمشروع استعماري توسعي في المشهد السوري خاصة والعربي عامة والتونسي بشكل قوي اليوم.

أما المدخل الأول فيتمثل في حسم ملف الإرهاب الذي تحول إلى سلاح الانقلابيين الفعال في تبرير أعمال القمع والتعذيب وممارسة أعلى مستويات إرهاب الدولة على الشعب والمواطن، بل تحول أيضا إلى بوابة للقوى الاستعمارية العالمية من أجل احتلال المنطقة العربية من جديد، ووضعها تحت وصاية الشركات الاستعمارية العالمية، كما تفعل الجيوش الروسية الغازية بأطفال بلاد الشام.

يتشكل المدخل الثاني في تفعيل السلم الاقتصادي بما هو ضمان لاستمرارية المجتمع والدولة بعد أن نجحت القوى السياسية والنقابية التونسية في تدمير الرافعة الاقتصادية للثورة ومطالبها، سواء عبر آلاف الاعتصامات المشبوهة أو عبر تكبيل الدولة بالقروض الاستعمارية. 

إن العزوف عن حسم فزاعة الإرهاب بما هي ورقة استعمارية واستبدادية في أصل نشأتها والسكوت عن النزيف الاقتصادي والمالي الحاد لن يكونا غير بواعث جادّة للموجة الثورية الثانية التي بدأت أعماقها تتحرك في الجوار المصري.

كما أن العجز عن تحويل وسائل الإعلام إلى مرفق عمومي بدل الدور المشبوه الذي تلعبه كمخلب استعماري ضارب لقيم المجتمع وهويته سيكون دافعا حقيقيا لتجدد شروط الانفجار الثوري الجديد الناجم أصلا على عدم استيفاء الموجة الأولى الأهداف التي قامت من أجلها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.