تحديات اللغة العربية في سياق التاريخ المعاصر

إنفوغراف اللغة العربية.. حقائق وأرقام


الثامن عشر من ديسمبر/كانون الأول الجاري كان اليوم العالمي للغة العربية، ومن الموافقات المهمة أن العالم العربي يحتفل به ويحيي كذلك الذكرى الخامسة لاندلاع شرارة الثورات العربية يوم 17 ديسمبر/كانون الأول 2010، وهذا يعطينا الفرصة لمناقشة محنة اللغة العربية في سياق قومي تاريخي.

في تحليلنا للسياق التاريخي العربي، بإمكاننا تعيين مراحل النهوض والانحطاط الثقافي من خلال رصد حالة اللغة العربية والاهتمام بها، حيث رافق الضعف والركود السياسي عصر الانحطاط في الأدب طوال قرون، ومع ظهور حلم قومي في بدايات القرن العشرين، فإنه كان حلما ساذجا وفيه عوار كبير.

بدأ جيل النهضة الأدبية واللغوية في التشكل خاصة مع نهاية الحرب العالمية الأولى، وكانت إحدى أهم علاماته إنشاء مجامع اللغة العربية، حيث أنشئ مجمع اللغة العربية في دمشق عام 1919، ثم ظهر المجمع اللغوي المصري والمجمع العلمي في العراق.

حدث ربط عملي بين إهمال اللغة العربية والمستقبل المهني، خصوصا بعد التردي الواضح للمدارس والمؤسسات الجامعية الحكومية وظهور المدارس والجامعات الدولية التي تدرس بلغات أجنبية، مع غياب أي توجهات للدولة تسيطر وترشد مسألة هذه المؤسسات الأجنبية

في فترة ما بين الحربين العالميتين، كانت التيارات الفكرية مختلفة المشارب والتوجهات، وكانت قضية اللغة العربية في صلب نقاشاتها، وعلى الرغم من بروز مواقف متطرفة في عدائيتها للغة العربية، فإن المناخ الثقافي "المتلبرل" سمح بجعلها موضوعا للنقاش ومادة لمعركة تستحق أن تخاض.

وهو أحد الدروس المهمة في مسائل الثقافة والسياسة، فعدم أدلجة الفضاء العام آنذاك سمح بطرح القضايا الكبرى كمعارك رأي عام وليس كنقاشات محددة بأيديولوجيا رسمية، وقد أسفرت تلك المرحلة عن مؤسسات تعنى باللغة العربية وعن إنتاجات شعرية ولغوية وفكرية مهمة في سياقها التاريخي.

مع ظهور دولة الاستقلال حدث تغيّران مهمان، الأول هو التوجه الاشتراكي للدولة، والثاني هو أدلجة المجال العام وقطع تراكم الحريات السياسية في آخر نصف قرن من تاريخ الاستعمار، وعلى الرغم من الصدق الأيديولوجي للأنظمة القومية لدول الاستقلال واعتنائها باللغة العربية في المدارس والجامعات كركيزة للفكرة القومية العربية، فإن رأسمالية الدولة وحدها لا تطيق العناية باللغة القومية، فمسألة كاللغة العربية في هذا العصر تحتاج شبكة معقدة تتكون من سياسات دولة وحراك ثقافي/سياسي حر ومؤسسات أهلية.

بعد رسوخ الأنظمة العربية وتحلل الأيديولوجيا القومية والتحول عن السياسات الاشتراكية إلى "لبرلة" الاقتصاد، بدأت المعاناة التاريخية للغة العربية تقترب من ذروتها. كما أن رأس المال الذي نشأ في كنف سياسات "التلبرل" كان يتحرك ضمن دولة فاسدة وقمعية، وبلا أي توجهات قومية بحدودها الدنيا، ولذلك فقد تميز رأس المال بعلاقات فساد مع جهاز الدولة.

وبالتالي لم تظهر عربيا في هذه الفترة طبقة أثرياء ترعى الفنون والثقافة -على عكس بعض شرائح الطبقة الارستقراطية الاقطاعية في مصر الملكية بين الحربين على سبيل المثال- بالتوازي مع اضمحلال دور الدولة الذي كانت تؤمنه الأيديولوجيا.

وحتى هذا الدور الذي لعبته الدولة أصبح ذا أثر كارثي اجتماعيا بعد ذلك بسبب الطبيعة الشمولية لها، حيث إن التسويق الأيديولوجي الرسمي للعربية نفر المجتمع منها باعتبارها جزءا من شعارات النظام المغلفة للتسلط والقمع، كعادة أي تسويق مفروض لأي فكرة أو قضية من سلطة بغير مناخ ديمقراطي.

من جانب آخر، وبعد "لبرلة" الاقتصاد بسنوات قليلة في ظل الأنظمة القمعية واضمحلال التوجهات القومية، سقط الاتحاد السوفياتي وظهرت فكرة العولمة، وقد جعل ذلك الاقتصادات غير الإنتاجية للدول العربية خاضعة تماما لمعايير التوظيف في سوق العمل على النمط الغربي، وأولى شروط سوق العمل هي متطلبات اللغة ونوع التعليم الجامعي.

وهكذا تم إنجاز ربط عملي بين إهمال اللغة العربية والمستقبل المهني، خصوصا بعد التردي الواضح للمدارس والمؤسسات الجامعية الحكومية وظهور المدارس والجامعات الدولية التي تدرس بلغات أجنبية مع غياب أي توجهات للدولة تسيطر وترشد مسألة هذه المؤسسات الأجنبية.

وهذا الربط العملي هو في الحقيقة أكبر الصعاب التي تواجه اللغة العربية، فالبعد النفعي يلعب الدور الحاسم في الاختيارات الفردية بغض النظر عن الشعارات التي لم ولن تقنع أحدا، ثم إن المستقبل المهني يتحول في المجتمعات الرأسمالية عامة -ومجتمعات الرأسمالية التابعة بصورة أكثر وضوحا- إلى مكانة اجتماعية، وبالتالي يصبح إهمال اللغة العربية علامة رقي اجتماعي.

إن اللغة العربية تجابه تحديا تاريخيا معقدا، وعلى عكس الحال قبل مائة عام فقط، لم يعد الإنتاج الفردي لوحده كافيا لإثراء اللغة ومساعدتها على تخطي مأزقها، فإشراك رأس المال في تدعيم اللغة العربية قسريا أصبح أمرا حاسما

وفي خضم هذه الأزمة المركبة، ظهرت وسائل التواصل الاجتماعي، لتكسر حاجز المكان ولكن مع خلق وتسويق رموز لغوية خاصة، وانعكست أزمة اللغة العربية هنا كذلك، ولكننا نعتقد أن هذا طبيعي باعتبار مواقع التواصل حيزا تواصليا غير رسمي في الأساس، بالإضافة إلى أن هذا الحيز يعطي الفرصة كذلك للمثقفين والمهتمين أن يسوقوا العربية بصور مباشرة وغير مباشرة.

معاناة اللغة العربية في عصرنا الحالي يزيد منها التراكم العلمي ذو التسارع العالي والذي تتناسب معه هذه المعاناة طرديا، بحيث تصبح مسألة المواكبة أكثر صعوبة.

وكما هو ملحوظ بعد هذا التحليل فإن اللغة العربية تجابه تحديا تاريخيا معقدا، وعلى عكس الحال قبل مائة عام فقط، لم يعد الإنتاج الفردي وحده كافيا لإثراء اللغة ومساعدتها على تخطي مأزقها، فإشراك رأس المال في تدعيم اللغة العربية قسريا أصبح أمرا حاسما، ولا يكون هذا الاشتراك القسري إلا عبر سياسات دولة ذات توجهات وطنية واقتصادية واضحة، تبني، وتشجع على بناء، مؤسسات ومجامع لغوية عربية وليس محلية فقط، وهيئات تستطيع تحويل اللغة العربية إلى بضاعة رمزية/ثقافية من خلال السينما والمسرح والدراما ودور النشر.

كما أن السياسات الاقتصادية وإعادة تنظيم سوق العمل والمؤسسات الأكاديمية وتوطين العلوم أمر لا مفر منه، لأن البعد النفعي اجتماعيا لا بد أن يكون حاضرا حتى تتمكن العربية من فرض ذاتها لغةً معاصرة.

والأهم في كل هذا النقاش هو النظر إلى مسألة اللغة العربية بوصفها قضية في الفضاء العام تستحق أن تخاض بالتوازي مع الانفتاح على تعقيدات الواقع العربي، بعيدا عن المواقف المبدئية التي تصنف كل نقاش حول هذا الأمر كمحدد أيديولوجي أو حداثوي سطحي.

ومن الأمور الجيدة أن تكنولوجيا الاتصال والإعلام الجديد يخلقان حيزا جديدا لنقاش هذه المسألة ويعطيان فرصة أكبر للمبادرات الأهلية لكي تساعد وتدلي بدلوها، واللغة العربية بما هي المشترك الثقافي لأمة بأكملها، وبما هي أحد أفخم إنتاجات الثقافة الإنسانية، تستحق الاهتمام الكبير والتنظير المستمر لقدراتها وجمالياتها الفريدة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.