سلطة بتلك القوة تنتج برلمانا بذلك الضعف

فلول الحزب الوطني يستعدون للمشاركة بقوة في الانتخابات البرلمانية المقبلة

مجلس النواب الجديد كاشف عن عمق أزمة السياسة في مصر التي لها تاريخ يجب أن يقرأ جيدا.

(١)

تحفل الصحف المصرية هذه الأيام بأخبار التجاذب والتراشق الحاصل بين عناصر مجلس النواب الجديد، خصوصا الأحزاب التي تحاول الانخراط في ائتلافات تجعل منها قوى ضغط مؤثرة داخل المجلس، الذي يفترض أن يبدأ اجتماعاته يوم ٢٨ ديسمبر/كانون الأول الحالي.

وكان أكثر ما أثار ضجة في هذا الصدد، الدعوة إلى إقامة ائتلاف دعم الدولة، التي أطلقها ضابط المخابرات المتقاعد اللواء سامح سيف اليزل. الجدل انصب على ثلاثة أمور: الأول اسم الائتلاف لأن صياغته تعطي انطباعا يشكك في موقف الذين لم يلتحقوا به، ويكاد يتهمهم بأنهم في موقف الضد أو عدم الولاء للدولة المصرية.

الأمر الثاني أن المنسق العام للادعاء ذكر في تصريحات صحفية أن الإطار الذي شكله أصبح يضم ٤٠٠ عضو في البرلمان (من جملة الأعضاء البالغ عددهم ٥٥٠ نائبا) أي أنه ضمن الأغلبية، وأصبح تحت قيادة واحدة قبل أن يبدأ مجلس النواب أعماله، الأمر الذي يعيد إلى الأذهان صور برلمانات ما قبل الثورة.

التنافس بين المتعاركين في البرلمان الحالي لا ينطلق من أي خلاف سياسي، ولكنه يدور حول أفضلية الاقتراب من السلطة، وهو ما يدعونا إلى القول بأننا بصدد برلمان تنازل مقدما عن حقه في الرقابة بينما تنافست الائتلافات المشاركة فيه على تمثيل السلطة، لا على تمثيل المجتمع

أما الأمر الثالث فيتمثل في القنبلة التي فجرها أحد النواب الذين انتخبوا عن حزب الوفد (اللواء بدوي عبد اللطيف هلال)، حين ذكر أنه تلقى اتصالا من جهاز الأمن الوطني دعاه للانضمام إلى الائتلاف المذكور ففعل. وهذا التسجيل الذي كشف أن الجهاز الأمني وراء العملية بثه موقع "اليوم السابع". كما أبرزت الخبر صحيفة "الشروق" على صدر صفحتها الأولى يوم الجمعة الماضي.

لك أن تتصور مدى اللغط والضجيج الذي أثارته كل واحدة من النقاط الثلاث في الأوساط ذات الصلة التي تناقلتها وسائل الإعلام وشغلت بها الرأي العام الذي فوجئ بحملات الانتقاد والتجريح لائتلاف دعم الدولة والقائمين عليه. وبدا أن أغلب الجدل انصب على نقض ادعاء منسق الائتلاف بحكاية الاستحواذ على أغلبية البرلمان، ومن ناحية ثانية فإن الآخرين حرصوا على التأكيد أن دعم الدولة ليس مقصورا على ذلك الائتلاف الذي حمل الاسم وحده، لأن الجميع جعلوا ذلك الدعم نصب أعينهم.

من ثم فإن التجاذب جاء كاشفا أن التنافس بين المتعاركين لا ينطلق من أي خلاف سياسي، ولكنه يدور حول أفضلية الاقتراب من السلطة، وهو ما يدعونا إلى القول بأننا بصدد برلمان تنازل مقدما عن حقه في الرقابة، بينما تنافست الائتلافات المشاركة فيه على تمثيل السلطة، لا على تمثيل المجتمع.

(٢)

هذه النتيجة ليست مفاجئة ولا ينبغي أن تكون صادمة. ذلك أن تصميم البرلمان من البداية روعي فيه أن يكون منصة ومنبرا لقوى الموالاة. ولم يكن سرا أن الأجهزة الأمنية كانت حاضرة في طور ترشيح أعضائه بمثل ما أنها حضرت في تشكيل الائتلافات. من ثم كان معلوما مسبقا أننا بصدد مجلس بلا معارضة، بدعوى أنه "برلمان الضرورة" (!)، وهو ما دفع البعض إلى وصفه بأنه برلمان السمع والطاعة، ومن زملائنا من كتب قائلا: إنه إذا كان البرلمان السابق خاضعا لتوجيه المرشد، فإن اللاحق سيكون برلمان الجنرال. وقرأت لمن قال إنه سيكون برلمانا منزوع العافية تحظر فيه اللاءات ويمارس فيه الجميع حرية الموافقة.. إلخ.

مثل هذه التشبيهات حمّلت البرلمان القادم ما لا يحتمل، وغضت الطرف عن حقيقة الوضع القائم في مصر الذي ماتت فيه السياسة، واختلّت في ظله موازين القوة، وهو ما استدعى أحزابا سياسية بلا جمهور، تصدرتها قيادات وزعامات لهواة جاؤوا من خارج السياسة، استصحب ذلك تراجعا شديدا لدور المجتمع بمختلف تشكيلاته وأوعيته.

ولم يكن مستغربا الأمر كذلك أن نصبح بصدد أحزاب هشة وقوى مجتمعية ضعيفة باتت أشكالا وهياكل بلا فاعلية. وخلفية بهذه الصورة لا يتوقع لها أن تفرز برلمانا قويا ونشطا في ممارسة الرقابة والمساءلة والتشريع. إن شئت فقل إن ضعف البرلمان ومحدودية دوره هو في حقيقة الأمر مرآة عاكسة لضعف المجتمع وقلة حيلته، وهو ما يسوغ لنا أن نقول إن مجتمعا بذلك الهزال لا يخرج منه إلا برلمان بهذا الشكل.

لنا أن نقول إن انفراط عقد ائتلاف ٣٠ يونيو أسهم في إضعاف البرلمان، وإن التضييق الراهن على الحريات العامة وكثرة الخطوط الحمراء وعمليات الترهيب والتخويف التي تتعرض لها الأصوات المعارضة، هذه العوامل كان لها تأثيرها الذي لا ينكر على الحماس للمشاركة والعزوف عن الترشح من جانب الفاعلين السياسيين، أو العزوف عن التصويت من جانب أغلب الناخبين.

إذا ما أردنا أن نستخلص العبرة من المشهد، فلا مفر من الاعتراف بأنه جاء كاشفا عن أزمة السياسة في مصر وتعبيرا عن انقراض الطبقة السياسية. ولكي لا نجلد أنفسنا فإن تحرير المشكلة يصبح ضروريا، الأمر الذي يدعونا إلى طرح السؤال التالي: هل نحن بصدد سمات مرحلة أم أننا إزاء مشكلة واقع وأزمة مجتمع؟

(٣)

تصميم البرلمان منذ البداية روعي فيه أن يكون منصة ومنبرا لقوى الموالاة. ولم يكن سرا أن الأجهزة الأمنية كانت حاضرة في طور ترشيح أعضائه بمثل ما أنها حضرت في تشكيل الائتلافات. ومن ثم كان معلوما مسبقا أننا بصدد مجلس بلا معارضة، بدعوى أنه برلمان الضرورة

في الإجابة على السؤال يبرز رأيان: الأول عوَّل على الجغرافيا، وعبر عنه عالم الجغرافيا السياسية المعروف الدكتور جمال حمدان في كتابه "شخصية مصر". والثاني أحال إلى التاريخ وتبناه المستشار طارق البشري من خلال تحقيقه لتاريخ مصر في القرنين الأخيرين، وعبّر عنه في كتابه "جهاز الدولة وإدارة الحكم في مصر".

الدكتور حمدان انطلق من النظرية التي راجت في القرن التاسع عشر وربطت بين الطغيان السياسي والبيئة النهرية، بما يعني أن الجغرافيا السياسية تكمن وراء التنظيم السياسي الذي ينشأ في المجتمعات النهرية التي لا بد أن تقدم فيها سلطة تقوم بمهمة ضبط النهر. وتلك مهمة كان ينبغي أن يقوم بها الحكم والحاكم، الذي صار وسيطا بين الإنسان والبيئة أو وصيا على العلاقة بينهما.

وهو ما برز في مصر الفرعونية، إذ عد فرعون ضلعا أساسيا في الإنتاج إلى جانب الضلعين الطبيعيين: الماء والشمس. ولأن ضبط النهر كان بداية كل شيء فإن فرعون تحول إلى الملك الإله، وصارت الحكومة المركزية القوية التي تتولى تلك المهمة من أخص خصائص المجتمع المصري على مدار التاريخ.

خلص الدكتور حمدان من ذلك إلى أن الطغيان الفرعوني كان نتيجة حتمية للدولة المركزية، مضيفا أن مصر أول وحدة سياسية أو أول دولة موحدة في التاريخ، إلا أنها صار بها -على الأرجح- أول طغيان في الأرض.. "أقدم وأعرق حكومة مركزية في العالم، ولكن أقدم وأعرض استبداد في الأرض".

ثم أضاف ما نصه "في النتيجة أصبحت العلاقة عكسية بين المواطن والدولة، فتضاءل حجم الشعب بقدر ما تضخم وزن الحكم. من هنا فإن الحكومة المركزية السباقة التي نسرف في التفاخر بها عادة، ليست خيرا محضا، بل لها مثالبها وثمنها الفادح. وسنرى كم يصدق هذا حتى وقتنا الحالي". (جـ٢، ص ٥٥٥.. والكتاب طبع عام ١٩٨١).

الفكرة الجوهرية التي تتصل بموضوعنا في كتاب المستشار البشري تتمثل فيما يلي: إن إدارات الدولة الحديثة في مصر منذ عصر محمد علي باشا في القرن التاسع عشر نشأت بأساليب التنظيم الأوروبي الحديث في ذلك القرن والسنوات التي تلته، وهو ما قامت به أبنية الدولة المركزية القومية آنذاك. الحكم المركزي طفرة واسعة في مصر، مستعينا في ذلك بنماذج التنظيمات الإدارية الحديثة في أوروبا، وبوسائل السيطرة الحديثة في ظروف التطور الأوروبي في الفترة ذاتها.

وكان ظهور أساليب الإدارة الحديثة في أوروبا ونماذج التنظيمات الحديثة هناك متوازنا مع تطور مجتمعات أوروبا الغربية في المجالات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، بمعنى أن النمو كان متوازيا ومتوازنا. فاشتداد عود الدولة من حيث القدرات والكفاءات تم بالتوازي مع اشتداد عود أجهزة إدارة المجتمع المدني، فلم تطغ قوة الدولة الحديثة على أجهزة إدارة الهيئات المدنية والشعبية ولا أزهقت روحها.

أما في بلادنا العربية والإسلامية والشرقية بعامة فلم يحدث ذلك النمو المتوازي والمتكافئ. ذلك أن أجهزة الدولة الحديثة في بلادنا إما كوّنها الاستعمار بعد سيطرته على مقدراتنا، وإما نشأت نشأة محلية بخبرات التنظيمات الأجنبية لمواجهة مخاطر الخارج.

مجلس النواب الحالي إفراز طبيعي لحالة الخلل التي تعتري علاقة السلطة بالمجتمع، ومن ثم فلا حل لأزمة السياسة في مصر إلا بعلاج ذلك الخلل بمحاولة استعادة المجتمع لعافيته عبر إقامة ديمقراطية حقيقية تقوم على مدنية المجتمع وتعيد الاعتبار للفصل بين السلطات وترفع سقف الحريات العامة

في مقابل ذلك وبالموازاة معه، كانت النظم الاجتماعية والاقتصادية في المجال الأهلي والشعبي تجرى في غالبها حسب الأنماط التقليدية القديمة، وهو ما ترتب عليه تعاظم قوة السلطة ممثلة في جهاز الإدارة، واستمر ضعف المجتمع، الأمر الذي رتب نتيجة أفدح تمثلت في تمدد أنشطة جهاز إدارة الدولة الذي تغول بحيث حل محل الأنشطة الأهلية للأفراد والجماعات، إذ لم يعد ذلك الجهاز يتولى إدارة الشأن السياسي للجماعة الوطنية فحسب، ولكنه أصبح يباشر مختلف الشؤون المعيشية للشعب المصري كله. كما أصبح يهيمن على مختلف السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية.

وبسبب عدم التكافؤ بين قوة السلطة وضعف المجتمع، فإن مصر منذ عام ١٩٢٣ وحتى الوقت الراهن، لم تعرف نظام حكم يقوم على وجود حقيقي لنظام برلماني منتخب انتخابا حرا ونزيها ويمارس عمله باستقلالية عن السلطة التنفيذية إلا في سنوات لا يزيد مجموعها على ثمانية أعوام في ظل دستور ١٩٢٣ (في الفترة ما بين عامي ١٩٢٣ و١٩٥٢)، كما أنه خلال ثلاثة أرباع القرن الأخير فإن مصر عاشت في حالة طوارئ ثابتة اعتاد عليها جهاز الدولة، وتشكلت في إطارها تجاربه وثقافته.

(٤)

ما يحدث في مصر الآن ليس منفصلا عن تلك الخلفية. رغم أنني لا أتفق مع رأي الدكتور حمدان الذي يوحي بأن تحكم السلطة واستبدادها قدر مكتوب على مصر بأمر الجغرافيا. ويبدو كلام المستشار البشري أكثر إقناعا، من حيث إنه يسلط الضوء على مكمن الداء المتمثل في الخلل القائم في علاقة السلطة متعاظمة القوة والمجتمع منزوع العافية، وهو ما نشهده في تركيبة مجلس النواب الذي تم انتخابه وفي الدور المرشح له وأصبح "دعم الدولة" عنوانا له.

إذا صح هذا التحليل فإنه ينبهنا إلى أن مجلس النواب الذي نحن بصدده إفراز طبيعي لحالة الخلل التي تعتري علاقة السلطة بالمجتمع، ومن ثم فلا حل لأزمة السياسة في مصر إلا بعلاج ذلك الخلل بمحاولة استعادة المجتمع لعافيته عبر إقامة ديمقراطية حقيقية تقوم على مدنية المجتمع وتعيد الاعتبار للفصل بين السلطات وترفع سقف الحريات العامة، وهو ما يستدعي دور المجتمع ويمكنه من تشكيل المؤسسات المعبرة عنه المؤهلة إلى المشاركة والمساءلة وتداول السلطة.

ولئن بدا ذلك حلما بعيد المنال، فإننا ينبغي أن نحمد الله على أن حرية الحلم لا تزال مكفولة وغير قابلة للمصادرة أو الوضع تحت الحراسة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.