هل هي انتفاضة فلسطينية ثالثة؟

Palestinian protesters sling stones at Israeli soldiers during clashes in the West Bank city of Hebron, 22 October 2015. US Secretary of State John Kerry said on 22 October 2015 that he was 'cautiously encouraged' after several hours of talks with Israeli Prime Minister Benjamin Netanyahu on ending a month of Palestinian-Israeli violence.
وكالة الأنباء الأوروبية

منذ أكثر من شهر والشعب الفلسطيني يخوض صراعا ضد قوات الاحتلال الصهيوني. وقد كانت الاعتداءات على المسجد الأقصى، ومحاولة تقسيمه كخطوة للسيطرة عليه، هي التي فجرت هذا الصراع.

لكن يجب أن ننتبه إلى أن الحراك في القدس مستمر منذ أكثر من عام، حيث يتزايد الاحتقان هناك نتيجة السياسة الصهيونية لتغيير الخريطة الديمغرافية، وتهجير الفلسطينيين من القدس ومحيطها.

ولا شك أن وضع فلسطين عموما يشهد احتقانا متصاعدا ليس نتيجة لفشل سياسة التسوية فقط، بل لأن الاحتلال لم يرفع يده حتى عن المناطق التي انسحب منها (الضفة الغربية وقطاع غزة)، حيث يسعى بشكل حثيث من أجل زيادة السيطرة على الأرض في الضفة الغربية، وتسعير بناء المستوطنات، في سياسة تهدف أيضا إلى تحقيق تغيير ديمغرافي يجعل الفلسطينيين أقلية محاصرة بالجدار والطرق الالتفافية والحواجز والمستوطنات.

إذا كانت الانتفاضتان السابقتان قد نشبتا في الضفة الغربية وقطاع غزة، فإننا نجد الأمر مختلفا اليوم، حيث يتمركز الصراع في القدس، وإلى حد ما في الخليل فقط، مع دعم مضبوط في المناطق الأخرى، يتمثل في الاحتكاك بالحواجز العسكرية الصهيونية المتواجدة على أطراف مناطق السلطة

كما يسعى لتشديد حصار قطاع غزة بما يفرض رحيل أعداد متزايدة من الفلسطينيين، ويخفف بالتالي من الوجود الفلسطيني هناك.

كل هذه العناصر في ظل استمرار الاحتلال الصهيوني من شأنها أن تبقي الاحتقان قائما، وأن يتفجر في كل لحظة، فالأمر لا يتعلق باحتلال فقط، بل يتعلق بخلق وضع يجعل المقدرة على العيش مستحيلة.

ولا شك أن الوضع الآن أكثر سوءا مما كان عليه عام 1987 حين انفجرت الانتفاضة الأولى، أو حتى عام 2000 حين انفجرت الانتفاضة الثانية. كل ذلك نتيجة الظروف التي فرضها الاحتلال، بما في ذلك وجود السلطة الفلسطينية التي تشكلت لكي تحمل عن الاحتلال عبء "الإدارة المدنية"، وضبط الفلسطينيين في كل من الضفة الغربية وقطاع غزة، من خلال تشكيل أجهزة أمنية عقيدتها تقوم على "محاربة الإرهاب" لا مواجهة الاحتلال -والإرهاب هنا هو مقاومة الاحتلال- الأمر الذي جعل الحراك الشعبي في كل من الضفة الغربية وقطاع غزة يصطدم بأجهزة السلطة لا بالاحتلال. وأن تكون مهمة السلطة وقف كل حراك أو قمعه، ورفض السير نحو الانتفاضة ومواجهة الاحتلال.

وأيضا إذا كانت الانتفاضتان السابقتان قد نشبتا في الضفة الغربية وقطاع غزة، فإننا نجد الأمر مختلفا اليوم، حيث يتمركز الصراع في القدس، وإلى حد ما في الخليل فقط، مع دعم "مضبوط" في المناطق الأخرى، يتمثل في الاحتكاك بالحواجز العسكرية الصهيونية المتواجدة على أطراف "مناطق السلطة".

لقد كان واضحا خلال السنوات التي تلت الثورات العربية أن الشباب الفلسطيني يهمّ بالانتفاض، لكنه يتخوف من الاصطدام بالسلطة، فهي التي تسيطر على مناطق حراكه، وهو ما كان يؤخر انفجار الانتفاضة، ويجعلها تتمركز الآن في المناطق التي أشرت إليها. وربما هذا ما كانت تهدف إليه الدولة الصهيونية حينما جرى التوقيع على اتفاقات أوسلو التي جرى اعتبارها مهيئة "لاحتلال ديلوكس".

هذا الأمر يجعل الانتفاضة في مأزق، لأنها تنحصر في القدس والخليل، مع احتكاكات محدودة في المناطق الخرى، وهو ما يجعلها عرضة لتركيز العنف الصهيوني عليها في هذه المناطق ومن ثم محاصرتها.

في كل الأحوال، ما يمكن لمسه من هذه الانتفاضة يتمثل في:

أولا- أنها نتاج حراك "شبابي"، ككل الثورات العربية. هذا الحراك الذي أظهر دخول جيل جديد ميدان الصراع متجاوزا الأحزاب والقوى القائمة، ومؤسسا لمرحلة جديدة من صراع سيفضي إلى تغيير كبير.

ما يمكن لمسه من هذه الانتفاضة أنها نتاج حراك شبابي، ككل الثورات العربية. هذا الحراك الذي أظهر دخول جيل جديد ميدان الصراع متجاوزا الأحزاب والقوى القائمة، ومؤسسا لمرحلة جديدة من صراع سيفضي إلى تغيير كبير

لقد ظهر أن الشباب بات غير مقتنع بكل سياسات وأفكار تلك القوى، وهو ينطلق من تجاوز حل الدولتين لأنه خبِر أن الدولة الصهيونية لا تريد هذا الحل، وتعمل على تغيير وضع المناطق التي يفترض أنها ستقام عليها. وكل ذلك سيؤسس لتبلور فكري سياسي مختلف، ينطلق من الواقع، ويطرح ما يسهم في تغييره. وبالتالي، يمكن القول إن مسارا جديدا للنضال قد انفتح، يتجاوز كل أخطاء وسلبيات وخطايا القوى القائمة. وإذا كان يعاني اليوم من عوائق وجود السلطة، فربما يستطيع تجاوزها غدا.

ثانيا- أن ما ظهر واضحا هو أن الحراك امتد إلى فلسطين المحتلة عام 1948، وأن تفاعل الشعب الفلسطيني هناك مع ما يجري كان متميزا عنه في الأعوام السابقة، وهو لا ينطلق من موقف التضامن كما كان يجري سابقا، بل من موقع الصراع الواحد ضد الدولة الصهيونية، وهو ما أظهر أن التفكك الذي أحدِث في الوعي بين فلسطين عام 1948 وفلسطينيي الضفة الغربية وقطاع غزة والشتات، آخذ في التلاشي لمصلحة فلسطين واحدة، وشعب واحد يواجه الدولة الصهيونية من أجل التحرر والاستقلال، وبناء فلسطين ديمقراطية علمانية.

نلمس بالتالي أن بيئة جديدة تتشكل ستحكم المرحلة القادمة، رغم اختلال ميزان القوى الكبير مع كيان تشكل لكي يواجه الوطن العربي ويكرس تجزئته وتخلفه، وبمساعدة القوى الإمبريالية في التحكم به والسيطرة عليه، وهو اختلال يعيد طرح السؤال حول خطر فلسطنة القضية الفلسطينية، التي بدأت سياسة تحررية وانتهت استسلاما في أوسلو. وكانت هذه النتيجة هي النتاج الطبيعي لتلك، حيث كان من المنطقي أن يصطدم النضال الفلسطيني بجدران النظم ما دام تميّز عن العرب والنضال العربي. لهذا هربت المقاومة إلى الداخل لتقع في الفخ الصهيوني.

ربما لا يتعلق الأمر بالنتائج المباشرة للانتفاضة الجديدة، في وضع معقد كما أشرت، لكنها تهيئ الأساس لمرحلة قادمة تتلاقى فيها عناصر عديدة، هي بمجملها ستفسح الطريق نحو الاستقلال والتحرر. هذه العناصر تتعلق بتحولات عالمية وعربية كبيرة، يمكن تخليصها في التالي:

1- أن الوطن العربي شهد ثورات وحركات احتجاج كبيرة، ورغم أنها لم تحقق التغيير الذي أرادته الشعوب، وفتحت على فوضى وصراعات أهلية وتدخلات خارجية، فإنها لم تنته، فالأساس الذي فرض انفجارها ما زال قائما، لهذا نلحظ استمرار أشكال الاحتجاج والإضراب والتمرد، والصراع.

وبالتالي فإن إمكانية نهايتها مستحيلة، وستتطور فاعليتها، وستفضي إلى بلورة القوى والبدائل التي تفرض التغيير. وهذا التغيير لا يتعلق بكل بلد وحده، بل يتعلق بالقطع مع الرأسمالية والهيمنة الإمبريالية، لأن تحقيق مطالب الشعب يفرض تغيير النمط الاقتصادي والطبقات التي يحقق مصالحها، وهذا يفرض التناقض مع القوى الإمبريالية بالضرورة، ومن ثم يفتح على إعادة الصراع مع الدولة الصهيونية لكونها مرتكز السيطرة الإمبريالية.

المأزق الذي تعيشه الدولة الصهيونية ليس من السهل تجاوزه، خصوصا أنها ليست بمعزل عن الأزمة الاقتصادية التي تعيشها الرأسمالية، والتي يمكن أن تنعكس على اقتصادها في وضع بات التمايز الاجتماعي فيها كبيرا

2- إن الرأسمالية في أزمة عميقة، وهي مستمرة، ولا يبدو أنه يمكن إيجاد حلول لها نتيجة طابعها الجديد، والمتمثل في سيطرة آليات المضاربة على مجمل الاقتصاد الرأسمالي، وآليات النشاط المالي الذي يزيد النهب، لكنه يؤدي إلى نشوء فقاعات متضخمة سرعان ما تنفجر تاركة الاقتصاد في حالة انهيار.

ولأن الطغم المالية الأميركية لم تجد حلا لهذه الأزمة قررت إدارتها، وأعادت صياغة دور أميركا بابتعادها عن المنطقة (عدا الخليج)، واعتبار أن منطقة آسيا والمحيط الهادي هي أولويتها، وهذا يعني انسحابا متدرجا من المنطقة، ويعني في المحصلة انكشافا للدولة الصهيونية بتراجع الدعم لها تدريجيا، دون وجود بديل يمول مشروعها الصهيوني الذي لا يستطيع الاستمرار دون تمويل خارجي نتيجة تضخم طابعه العسكري والاستيطاني.

هنا مأزق ستعيشه الدولة الصهيونية ليس من السهل تجاوزه، خصوصا أيضا أنها ليست بمعزل عن الأزمة الاقتصادية التي تعيشها الرأسمالية، والتي يمكن أن تنعكس على اقتصادها، في وضع بات "التمايز الاجتماعي" فيها كبيرا. كل ذلك سيضعف قدرتها العسكرية ويهدد وضعها الاقتصادي، ويمكن أن يفضي إلى انفجار اجتماعي فيها.

إذن، المنطقة مهيأة لتغيرات كبيرة، والآفاق تشير إلى أن موازين القوى ستتغير. الأهم هنا هو أن الثورات فتحت على نشوء ميول كبيرة لإعادة بناء الفعل السياسي وأيضا العسكري، فليس من الممكن تحقيق المطالب التي طرحها الشعب إلا بتغيير مجمل البنية الاقتصادية السياسية التي تشكلت، سواء منذ ما بعد الحرب العالمية الأولى (التقسيم) أو الثانية (نشوء الدولة الصهيونية)، أو بعد انهيار نظم التحرر وتعميم الخصخصة والتبعية للقوى الإمبريالية.

هذا هو المشروع الذي يُفترض أن يتبلور في المرحلة الراهنة، محمولا على أكتاف الشباب الذي فجر الثورات، وما زال يحاول تطويرها في سياق الوصول إلى انتصارها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.