الترابي.. سيناريو تطويق العسكر

KHARTOUM, SUDAN - MARCH 14: Sudanese President Omar al-Bashir (R) receives Popular Congress Party (PCP) leader Hassan al-Turabi (L) in Khartoum, Sudan, on March 14, 2014. President Omar al-Bashir and opposition leader Hassan al-Turabi agreed Friday that political dialogue should include all parties, regardless of their influence in Sudan's political arena. The two leaders haven't officially met since 1999, with al-Turabi since having become one of al-Bashir's most vocal critics.
غيتي إيميجز

الترابي والنميري
الترابي والبشير
الخاسر الأكبر

هل تنزلت الحكمة القائلة "إن المصائب يجمعن المصابين" في السودان، أم أن أننا بصدد حلقة جديدة من حلقات السلسلة الكرتونية "توم وجيري"؟ من الواضح أن هناك خلف الكواليس طبخة قد أعدت بالفعل.

اللاعبان الرئيسيان في المسرح رغم الاحتشاد الحزبي هما الرئيس عمر البشير ورئيس حزب المؤتمر الشعبي المعارض حتى حين حسن الترابي، وهو بالطبع العقل المدبر للنظام الحاكم الذي استولى على السلطة في يونيو/حزيران 1989.

وهنا يلح السؤال: من يستخدم الآخر سياسيا: البشير أم الترابي؟ البشير يراهن على كسب الوقت حتى تنتهي فترة ولايته الحالية في 2020، وحينها لكل حادث حديث، بينما يسعى الترابي لاستعادة نفوذ ما قبل المفاصلة 1999، ووراثة حكم صنعه بيديه مستخدما كل ما أوتي من دهاء سياسي، في حين تتضاءل خياراته، غير استعادة ما فقده، فلا مجال لاستعادة ذلك بثورة شعبية أو انقلاب عسكري، ولا سيما أنه فشل في ذلك عبر المعارضة لأكثر من 15 عاما.

ربما أدرك الترابي أخيرا صعوبة إزاحة نظام عسكري هو الأطول عمرا بين النظم العسكرية التي حكمت السودان (26 عاما حتى اليوم)، حيث كان قد صرح في 2005 بأن الحركة الإسلامية لم تقرأ التاريخ الإسلامي جيدا عندما أقدمت على الاستيلاء على السلطة في السودان

والترابي بمواصفات تكاد تكون حصرية تمكن من قبل من تطويق نظام جعفر نميري العسكري (1969-1985) متغلغلا في مفاصل النظام وبنى حركته الإسلامية الحديثة من خلال "إستراتيجية التمكين" بعد مصالحة نميري، وهذا التمكين مثل أساسا لتمكين أوسع قاعدة في ما بعد للنظام الحالي بقيادة البشير.

فالترابي سياسي وإصلاحي إخواني وعقلاني عصراني، أوروبي النشأة والثقافة والهوى، وحتى خصومه لا ينظرون إليه أقل من كونه مفكرا سياسيا متمكنا شديد المراس، وشجاعا شديد الجرأة، ومغامرا شديد المغامرة، ودائما ما كان يملك المبادرات التي تفاجئ مريديه وأتباعه قبل أعدائه.

فكر الترابي من قبل في أرضية مشتركة مع بابا الفاتيكان السابق، واتصل عليه طالبا منه أن يقيما معا "جبهة الدين" لهداية العالم، وقال الترابي حينئذ "لأن الفراق اشتد بين بني الإنسان وفشت العصبية اللونية والطبقية في مستوى المعاش شمال العالم وجنوبه، والقطريات والانغلاقات المتشاقة كثرت، والفساد في المال العام كثر، والجنس انفلت، والأسرة كادت أن تنهار في العالم"، وقيل إن الرجل تحمس جدا للطرح.

وربما أدرك الترابي أخيرا صعوبة إزاحة نظام عسكري هو الأطول عمرا بين النظم العسكرية التي حكمت السودان (26 عاما حتى اليوم)، حيث كان قد صرح في 2005 بأن "الحركة الإسلامية لم تقرأ التاريخ الإسلامي جيدا عندما أقدمت على الاستيلاء على السلطة في السودان".

الترابي والنميري
كانت الثورة الشعبية ضد نظام الفريق إبراهيم عبود في أكتوبر/تشرين الأول 1964 نقطة انطلاق قوية للترابي، وحملته -وهو العائد لتوه من باريس بعد نيله درجة دكتوراه الدولة في القانون الدستوري- إلى دور جديد في الحياة السياسية السودانية.

دعا الرجل في ندوة شهيرة مثلت شرارة الثورة التي أسقطت حكما عسكريا إلى ضرورة التجاوز الحاسم لنمط الحكم العسكري القائم إلى وضع دستوري ديمقراطي كمقدمة لأزمة لحل أزمة الجنوب وكل أزمات السودان، واستثمر مشاركته الفاعلة في الأحداث المتسارعة التي أعقبت الندوة.

حينما قام العقيد النميري بانقلاب عسكري ذي صبغة شيوعية في 25 مايو/أيار 1969 عمد لاعتقال رئيس جبهة الميثاق الإسلامية الترابي حيث أمضى سبع سنوات في السجن، وأطلق سراحه بعد مصالحة مع الإسلاميين في العام 1977.

وعندما ولج الترابي سجن النميري لم يجد رئيس الوزراء الصادق المهدي حينها ولا حتى وزير الدفاع أو وزير الداخلية في الحكومة المقلوبة، لذلك ترسخت القناعة بأن نظام النميري العسكري هو انقلاب شيوعي وسيسعى لتصفية وجود الإسلاميين فشرعوا في مقاومته من أول يوم.

أخذت مقاومة الإسلاميين أشكالا مختلفة، مثل الثورات الطلابية، كذلك شارك الإسلاميون في مقاومة النظام بالمشاركة مع زعيم حزب الأمة وقتها الإمام الهادي المهدي في أحداث الجزيرة أبا في العام 1970، وكان أكبر مجهود لمقاومة نظام مايو/أيار قام به الإسلاميون مشاركتهم في الجبهة الوطنية بجانب حزبي الأمة والاتحادي الديمقراطي، وقاموا بغزو الخرطوم في الثاني من يوليو/تموز 1976 بدعم من الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي.

وبعد فشل تلك العملية قرر الإسلاميون بقيادة الترابي الدخول في مصالحة مع النميري بغرض تنفيذ إستراتيجية جديدة وهي التمكين، وتضمنت الإستراتيجية انتشار التنظيم في كل أرجاء السودان، وغزو المواقع المفصلية في الدولة، مثل القوات المسلحة، والمنظمات الطوعية ونشر فكرة البنوك الإسلامية، والعمل الاجتماعي وسط القبائل والطرق الصوفية والتيارات والجماعات الإسلامية، فكان جوهر الإستراتيجية سباقا مع الزمن لتحويل التنظيم إلى قوة سياسية رئيسية قبل انهيار نظام النميري.

استغل الترابي فترة شهر العسل مع الحزب الحاكم لطرح ما سماه "النظام الخالف"، وهو فكرة قائمة على توحيد التيارات الإسلامية بمختلف مسمياتها، فضلا عن التيارات الصوفية والسلفية والقومية في كيان واحد يتجاوز بها الأحزاب لتشكيل بوتقة واحدة لإنقاذ البلاد من الانهيار

وتمت مصالحة الإسلاميين للنميري في إطار ما عرفت بالمصالحة الوطنية في السابع من يوليو/تموز 1977 بجانب حزبي الأمة والاتحادي الديمقراطي، بيد أن الحزبين الآخرين لم تكن لهما خطة تمكين مماثلة فضلا عن افتقادهما التنظيم والحركية التي تمتع بهما الإسلاميون.

ومما ساعد في نجاح إستراتيجية التمكين أن النميري انقلب على حلفائه الشيوعيين الذين قاموا بمحاولة فاشلة للانقلاب عليه قبل المصالحة بعدة سنوات.

وسارت إستراتيجية التمكين قدما فشغل الترابي في 1979 منصب النائب العام، ولاحقا أيد قرار النميري بتطبيق الشريعة الإسلامية في سبتمبر/أيلول 1983، لكن النميري قبيل سقوطه عبر ثورة شعبية في العام 1985 انقلب على تنظيم الترابي وأودعه ورفاقه السجن، واصفا تنظيمهم بالسرطان وكان ذلك من حسن طالع الترابي.

الترابي والبشير
إن علاقة البشير بالترابي في أصلها علاقة تلميذ بشيخه، لكن البشير وجه ضربة قاصمة لأستاذه وشيخه فأقصاه عن رئاسة البرلمان وحله في 12 ديسمبر/كانون الأول 1999، وأعلن حالة الطوارئ وتعليق بعض مواد الدستور، وجاء القرار بعد 48 ساعة من تصويت نواب البرلمان على تعديلات وقف وراءها الترابي وهدفت للحد من صلاحيات الرئيس البشير.

لم يهادن الترابي النظام منذ تلك اللحظة ولم يقترب منه، رافضا كل دعوات المصالحة والحوار، بل بلغ الأمر حدا أن اتهم بتشكيل جناح معارض مسلح، متمثلا في حركة العدل والمساواة التي تقاتل الحكومة في دارفور والتي شكلها إسلاميون من دارفور، وهي أشرس الحركات التي حملت السلاح في الإقليم.

لكن الترابي عاد من جديد يشغل الرأي العام، فعلى غير المتوقع أيد دعوات الرئيس البشير للحوار التي أطلقها في يناير/كانون الثاني 2014، بل وقف مدافعا عنها في أحيان كثيرة على الرغم العثرات التي واجهت الحوار، والتي قادت أحزابا عدة للانسحاب، من بينها حزب الأمة المعارض بزعامة المهدي، وكان موقف الترابي من قبل رفض الحوار مع النظام إلا أن يسلم السلطة لحكومة انتقالية، ومما يعزز الشكوك بأن اتفاقا ما بين البشير والترابي قد تم قبيل إطلاق دعوة الحوار أن الرجلين عقدا عدة لقاءات سرية.

الموقف الجديد للترابي ظهر علنا لأول مرة خلال حضوره في أول جلسة للحوار الوطني في 27 يناير/كانون الثاني الماضي، وألقى البشير خطابا ضافيا أعلن فيه عن إصلاح سياسي شامل داخل حزبه وفي علاقات الحزب بالقوى السياسية المختلفة.

ساق الترابي عدة تبريرات لتقاربه مع البشير، منها أن هناك تهديدا إقليميا ودوليا للإسلاميين في السودان، وأن التهديد لا يفرق بين حزب البشير أو حزب الترابي فكلاهما سواء، غير أن قناعة الكثيرين أن كل التبريرات التي تبدو للوهلة الأولى وجيهة ومنطقية إنما اتخذها الترابي غطاء لإخفاء هدف الالتفاف على البشير واستعادة نفوذه المفقود.

واستغل الترابي فترة شهر العسل مع الحزب الحاكم لطرح ما سماه "النظام الخالف"، وهو فكرة قائمة على توحيد التيارات الإسلامية بمختلف مسمياتها، فضلا عن التيارات الصوفية والسلفية والقومية في كيان واحد يتجاوز بها الأحزاب، ويرى أنه بذلك يشكل بوتقة واحدة لإنقاذ البلاد من الانهيار.

فهل قصد حقا زعيم إسلاميي السودان أن يتحسس الأتباع أسلحتهم بعد هول ما جرى في مصر من تنكيل بالإخوان المسلمين في ميدان رابعة، وحرك ذلك مياه المصالحة الراكدة بين إخوان الأمس أعداء اليوم؟ لكن لا يبدو أن أمر المصالحة يشكل هدفا مقدسا، سواء لدى الترابي أو لدى البشير اللذين أدمنا اللعبة الميكافلية.

فالبشير ليس أقل مكرا من خصمه الترابي، ولكل أسلحته وأدواته، ويتفقان في هدف الاستحواذ على السلطة، وقد بدا البشير لاعبا خطرا في ملعب السياسة السودانية فقد أطاح بالرجلين القويين اللذين تنافسا على خلافته العام الماضي 2014، وهما نائبه الأول السابق علي عثمان ومساعده نافع علي نافع، وهما اللذان استخدمهما من قبل للإطاحة بالترابي في العام 1999.

ربما فكر البشير في إعادة المؤتمر الشعبي إلى سيطرته ليعيد التوازن إلى حزبه، مستفيدا من كوادر الشعبي في تغطية نقص حزبه، لكن قد لا يعني ذلك أن البشير سيقبل بعودة الأمر إلى ما كان عليه قبل انفصال الترابي عنه في العام 1999 لعلمه بخطورته عليه في المحصلة

وربما فكر البشير في إعادة المؤتمر الشعبي إلى سيطرته ليعيد التوازن إلى حزبه، مستفيدا من كوادر الشعبي في تغطية نقص حزبه، لكن قد لا يعني ذلك أن البشير سيقبل بعودة الأمر إلى ما كان عليه قبل انفصال الترابي عنه في العام 1999، لعلمه بخطورته عليه في المحصلة، وربما بسبب الرفض الخارجي له.

الخاسر الأكبر
لعل الظرف يختلف اليوم كثيرا جدا، فالبشير ليس النميري، والبشير والترابي كلاهما يعرف بأس بعض، فيما لا يزال يمتلك البشير كل أدوات السلطة والقوة، بيد أن انعدام خيارات الترابي تدفعه للمحاولة واستثمار كل ملكات الدهاء السياسي.

وأخيرا ظهرت العديد من منغصات شهر العسل الذي بدا بين الرجلين، فعندما دفع حزب المؤتمر الشعبي الذي يسيطر فعليا على مداولات لجان مؤتمر الحوار الجاري في الخرطوم بمقترح الحكومة الانتقالية رد حزب المؤتمر الوطني بعنف، وقال قيادي نافذ فيه "إن من يتحدثون عن حكومة انتقالية واهمون".

وبالضرورة لا يمكن أن نتوقع من مؤتمر الحوار الوطني -الذي يراد له حوار لإنقاذ النظام من أزماته- التوافق على سبيل المثال على (إعلان سياسي دستوري انتقالي)، أو التوافق على جمعية تأسيسية قومية لكتابة دستور للبلاد بعيدا عن هيمنة حزب البشير، أو حتى تكوين هيئة انتخابات عامة مستقلة على نحو توافقي لسائر الطيف الفاعل في البلاد.

لعل قواعد الحركة الإسلامية هي الخاسر الأكبر المغلوب على أمره، فقد ظلت أسيرة لأهواء وخصومات ومماحكة النخب والقادة، فالأزمة أو الإشكالية ليست في القواعد فقد دللت في كل الظروف والأوقات والمحن على أنها خزان للعطاء والتضحيات، وللحقيقة فإن الترابي نفسه أو غيره من الذين ينازعونه الأمر لم يعودوا مؤهلين لتأدية الدور القيادي لفقدانهم التأثير على هذه القواعد.

وعلى ما يبدو فإن القيادات النخبوية قد تحولت إلى مارد يؤسس أو أسس بالفعل لاحتكار جديد للإسلام والتصدر للنطق باسمه، لقد ارتكبت هذه القيادات خطيئة كبيرة حين أعادت إنتاج ما ناضلت طويلا ضده في سعيها إلى إعادة تقويم العلاقة بين السياسة والإسلام بالنظر للتجارب الطائفية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.