انتفاضة القدس.. نتائج تكتيكية ودلالات إستراتيجية

شيع آلاف الفلسطينيين في مدينة الخليل جثامين ستة فلسطينيين استشهدوا مؤخرا برصاص جيش الاحتلال الإسرائيلي والاختناق

بدأت انتفاضة القدس التي تشهدها الضفة الغربية والقدس والأراضي المحتلة منذ عام 1948 بتحقيق بعض النتائج السياسية فقط بعد أسابيع من انطلاقها، على الرغم من حالة اليأس التي دفعت الكثيرين لاستبعاد تحقيق نتائج لهذه الانتفاضة، في ضوء قراءة تاريخ تجارب الانتفاضات الفلسطينية السابقة.

وفي الوقت الذي يمكن فيه وصف النتائج التي حققتها الانتفاضة بأنها صغيرة أو "تكتيكية"، فإن لها بالمقابل دلالات إستراتيجية، يجدر قراءتها بعمق لأنها تعيد التأكيد على بعض الحقائق التي ظلت محل نقاش في الساحة السياسية العربية منذ سنوات.

إن أولى النتائج السياسية التي حققتها الانتفاضة في شهرها الأول هي إعادة الاهتمام والاعتبار للقضية الفلسطينية، بعد سنوات من التهميش والتراجع لأسباب داخلية وخارجية. فبعد أن غاب الصراع العربي الإسرائيلي عن الملفات المهمة في المنطقة بسبب ضياع البوصلة الوطنية الفلسطينية أولا وتصاعد الصراعات في سوريا ومصر والعراق وليبيا واليمن وغيرها، أصبح هذا الملف مركزا للاهتمام الدولي من جديد، وعادت الإدارة الأميركية والأمم المتحدة والدول الكبرى لتحريك دبلوماسييها لعقد اللقاءات الهادفة للتهدئة، ولإطلاق التصريحات المعهودة والمستهلكة عن عملية السلام والتهدئة و"القلق" من تدهور الأوضاع.

أولى النتائج السياسية التي حققتها الانتفاضة بشهرها الأول إعادة الاهتمام والاعتبار للقضية الفلسطينية بعد سنوات من التهميش والتراجع، وبعد أن غاب الصراع العربي الإسرائيلي عن الملفات المهمة بالمنطقة أصبح مركزا للاهتمام الدولي من جديد

وعلى الرغم من عدم توقعنا لتحقيق نتائج إيجابية من هذا الحراك الدولي للتهدئة، فإن الاهتمام بالقضية الفلسطينية في الساحة الدولية بحد ذاته يمثل إنجازا تكتيكيا للانتفاضة، لأنه يعني تذكير العالم بأن هناك صراعا مركزيا لا يزال ينتظر ويستوجب الحل، كما أنه ينهي حالة الهدوء "الموهومة" التي قد يفهم منها انتهاء الصراع وقبول الفلسطينيين بالأمر الواقع، ويدفع المجتمع الدولي للضغط على الاحتلال لتقديم أثمان سياسية للفلسطينيين للحصول على الهدوء.

أما النتيجة "التكتيكية" الثانية للانتفاضة فهي إعادة الحراك والفعاليات الشعبية المؤيدة للشعب الفلسطيني ونضاله المشروع في العالم، وخصوصا في العواصم الغربية، حيث عمت المظاهرات الداعمة للانتفاضة والمنددة بالانتهاكات والجرائم التي يرتكبها الاحتلال عواصم الأميركيتين وأوروبا، في مشهد يذكرنا بالمظاهرات التي حملت فلسطين ونضالها لكل مدن العالم أثناء الاعتداءات الإسرائيلية على قطاع غزة.

وتمثل هذه الفعاليات إنجازا مهما في ثلاثة اتجاهات:
الأول: مراكمة تغيير الرأي العام العالمي تجاه الصراع العربي الإسرائيلي، ونقل الرواية العربية لهذا الصراع بعد أن ظلت الرواية الصهيونية وحيدة ومتسيدة في الرأي العام العالمي، وهو ما يعني أن الرأي العام قد يمتلك وعيا مؤثرا حول الصراع سيدفعه للضغط على ممثليه في البرلمانات والحكومات لاتخاذ سياسات أكثر عدلا، مع العلم أن الفعاليات الشعبية التي رافقت العدوان على غزة شكلت ضغطا شعبيا على البرلمانيين الأوروبيين وكانت أحد الأسباب الرئيسة التي أدت إلى تصويت كثير من البرلمانات الأوروبية على الاعتراف بدولة فلسطين.

والثاني: تعرية دولة الاحتلال من خلال تسليط الضوء على انتهاكاتها وجرائمها، والدفع باتجاه نزع الشرعية عنها وإنهاء الأسطورة التي عملت على بنائها خلال عقود باعتبارها دولة "أخلاقية" وسط دول "بربرية"، وبأن شعبها "متحضر" بين شعوب "متطرفة ومتخلفة"، إذ أن الفعاليات الشعبية المؤيدة لفلسطين تقدم صورة أخرى للشعوب الغربية هي صورة الفلسطيني الذي يناضل لأجل حريته بمواجهة آلة عسكرية احتلالية تتجاوز كل الأعراف والمواثيق الدولية، وتمارس الإعدامات الميدانية للشبان الفلسطينيين بمجرد الشبهة.

والثالث: إعادة تأطير الصراع لحقيقته الأساسية، بعد أن تمركز الحراك الشعبي المؤيد لفلسطين عربيا وعالميا منذ سنوات حول قضية الحصار والعدوان على غزة، وهو ما أنسى رجل الشارع الغربي وربما العربي أصل الصراع، وهو الاحتلال. فالقضية الفلسطينية ليست حربا بين "دولتين جارتين"، وليست مجرد محاولة لرفع الحصار عن مليون ونصف مليون فلسطيني في "كيان" يسيطر الاحتلال عليه جوا وبحرا، ويسيطر النظام المصري على معابره برا، في الوقت الذي تروج "إسرائيل" لانسحابها منه عالميا، بل هي قضية شعب لا يزال يرزح تحت الاحتلال في القرن الواحد والعشرين، ولا يمكن أن يهدأ حتى إنهاء هذا الاحتلال.

واستكمالا للنتائج "التكتيكية" المرحلية التي حققتها الانتفاضة الفلسطينية، فقد أجبر الحراك الفلسطيني دولة الاحتلال على تقديم بعض "التنازلات" لضمان عودة الهدوء، من خلال تأكيدها أكثر من مرة على أنها لا تريد تغيير "الوضع القائم" في القدس، وإنهائها فكرة "القدس الموحدة" عمليا بعد أن بدأت بوضع حواجز بين أحياء القدس الشرقية والغربية، وبمنع المستوطنين من الوجود قدر الإمكان في الأحياء التي تسكنها أغلبية عربية، إضافة إلى اضطرار حاخامات اليهود لإعادة إصدار فتاوى قديمة تمنع اليهود من الصلاة في المسجد الأقصى للحفاظ على سلامة المستوطنين ووقف الاحتجاجات والمواجهات.

ويأتي في هذا الإطار أيضا، تلك المبادرات التي حركتها الإدارة الأميركية حول وضع المسجد الأقصى والمقدسات، ومنها المبادرة الذي تم التوافق عليها بين وزير الخارجية كيري والأردن، وهي مبادرة -وإن كانت غير واضحة حتى الآن ويجب التحذير من كونها تحقق مكاسب إسرائيلية- إلا أنها تدفع الفلسطينيين للمزيد من النضال بهدف الحصول على مبادرات أفضل يقبل بها الشعب الفلسطيني، وتحافظ على وضع المسجد الأقصى وغيره من المقدسات وتضع حدا للتقسيم الزماني والمكاني الذي تسعى دولة الاحتلال لفرضه في الأقصى على غرار المسجد الإبراهيمي في الخليل.

القضية الفلسطينية ليست حربا بين "دولتين جارتين" أو مجرد محاولة لرفع الحصار عن مليون ونصف مليون فلسطيني بل قضية شعب لا يزال يرزح تحت الاحتلال في القرن الواحد والعشرين، ولا يمكن أن يهدأ حتى إنهاء هذا الاحتلال

وعلى أهمية هذه النتائج التكتيكية للانتفاضة، إلا أنها تحمل دلالات إستراتيجية أكثر أهمية، يجب البناء عليها فلسطينيا وعربيا لتحقيق إنجازات نوعية في الصراع العربي الإسرائيلي، وأهم هذه الدلالات:

– إعادة التأكيد على مركزية القضية الفلسطينية، وعلى رمزية القدس والصراع في قلوب وعقول العرب. فعلى الرغم من انشغال العرب بقضاياهم الخاصة فإن اشتعال الانتفاضة في شوارع فلسطين أشعل مواقع التواصل الاجتماعي لدعم القضية، وأسقط من جديد جميع الأوهام لدى بعض النخب بتراجع أهمية الصراع العربي الإسرائيلي، وأنهى أيضا جميع النقاشات التي تتم في أبراج "المثقفين" العاجية حول "محلية" انشغالات المواطن العربي وانتهاء عصر الروح القومية التي تجعل من كل قضايا العرب وعلى رأسها قضية فلسطين شأنا داخليا لكل شعب عربي مهما انشغل بشؤونه و"حرائقه" الداخلية، ولكن هذا الأمر رهين بنضالات الفلسطينيين، وهم وحدهم الكفيلون بإعادة البوصلة الشعبية العربية إلى مكانها الصحيح.

– تعرية النهج البائس للقيادة الفلسطينية المتمثل بالرهان على "نوايا" دولة الاحتلال، وعلى "رغبة" الدول الكبرى وخصوصا الولايات المتحدة في وضع حد لانتهاكات "إسرائيل"، وهو النهج الذي ثبت وضع "احتلال بثمن يساوي صفرا" بلا تكاليف على المحتل، في معادلة مختلة لم يشهد لها تاريخ الشعوب المحتلة مثيلا.

لقد أدى الحراك الفلسطيني إلى زعزعة هذه المعادلة، وأثبت أن الاحتلال لا يقدم هدايا مجانية أو "حسن نوايا"، وأن "المجتمع الدولي" لا يتحرك إلا إذا أصبح الصراع يمثل أزمة له وللاستقرار الذي ينشده وللاحتلال الذي يدعمه.

وبالطبع فإن هذه الدلالات لا يمكن أن تتحول إلى نتائج عملية، إلا إذا واصل الفلسطينيون القبض على جمر نضالهم المشروع، لأجل الدفع بالسلطة إلى مراجعة نهجها الفاشل، الذي اعترفت هي نفسها بفشلها، وهي مراجعة ستصبح مثمرة ومنتجة إذا التزمت حركة فتح التي تمثل الغطاء السياسي للسلطة بما أقرته هي سابقا في اجتماعات "مجلسها الثوري" من تبني المقاومة الشعبية نهجا للتعامل مع الاحتلال، إذ لا مشروعية لأي حركة تحرر وطني بدون اشتباك مع الاحتلال.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.