موسكو ورحلة البحث عن مخرج من سوريا

A handout picture released by the Russian Foreign Ministry Press Service shows Turkish Foreign Minister Feridun Sinirloglu (L-R), US Secretary of State John Kerry, Saudi Foreign Minister Adel al-Jubeir, and Russian Foreign Minister Sergei Lavrov during their meeting focused on Syria at the Imperial Hotel in Vienna, Austria, 23 October 2015. Kerry and Lavrov, have begun talks in Vienna expected to focus on the Syria conflict. Russia and the United States have been conducting opposing bombing campaigns in war-torn Syria - Russia in support of the Syrian government and the US in support of rebels trying to overthrow that government.
وكالة الأنباء الأوروبية

مؤشر التوقعات الروسية
استنفاد بنك الأهداف
البحث عن مخرج
تغير في الموقف

تواصل الغارات الجوية الروسية في سوريا ترافق في الأيام القليلة الماضية مع تغير واضح في الخطاب السياسي لموسكو مع تقديرات بأن بنك أهداف تدخلها العسكري آخذ بالنفاد، أو تعثر ما بقي منه، مع بروز تناقضات واسعة بين رؤيتها وأهدافها ورؤية وأهداف القوى الإقليمية والدولية الفاعلة في الأزمة السورية، الأمر الذي لا بد أن يدفع الكرملين للبحث عن مخرج سريع من خلال البحث عن مقاربات مع تلك القوى.

تبدي القيادتان السياسية والعسكرية في روسيا ارتياحهما للنتائج الميدانية التي تمخضت حتى الآن عن التدخل العسكري الروسي في سوريا، حيث تؤكد موسكو أنها حققت أغلب الأهداف المباشرة، ويعبر عن ذلك في الخطاب الرسمي بالحديث عن توجيه "ضربات ساحقة لتنظيم الدولة الإسلامية (داعش) والجماعات المتطرفة الأخرى"، واستخدام أسلحة متطورة وفتاكة تستخدم للمرة الأولى.

ويرى العديد من الخبراء العسكريين والسياسيين في موسكو أن تجريب هذه الأسلحة كان على رأس قائمة التدخل العسكري الروسي في سوريا، جنبا إلى جنب مع تحويل العمليات إلى ساحة تدريب لقواتها الجوية والبحرية، لكن قراءة تلك التأكيدات الروسية من زاوية أخرى يفهم منها أن موسكو بدأت تستنفد بنك أهدافها المعلنة، وفي حال لم تستطع أن تقطف ثمارا سياسية لتدخلها العسكري ستكون أمام خيارات صعبة.

في الأيام الأولى لغاراتها الجوية رفعت موسكو سقف توقعاتها إزاء المكاسب السياسية التي يمكن أن تحققها، والشروط التي يمكن أن تفرضها على الأطراف الفاعلة في الأزمة السورية، إلا أن مؤشر تلك التوقعات ما لبث أن بدأ بالنزول على نحو ملحوظ

مؤشر التوقعات الروسية
قبيل التدخل العسكري -وفي الأيام الأولى من بدء الغارات الجوية المكثفة- رفعت موسكو سقف توقعاتها إزاء المكاسب السياسية التي يمكن أن تحققها، والشروط التي يمكن أن تفرضها على الأطراف الأخرى -الدولية والإقليمية- الفاعلة في الأزمة السورية، إلا أن مؤشر تلك التوقعات ما لبث أن بدأ بالنزول على نحو ملحوظ في ذروة تركيز الخطاب السياسي الدعائي الروسي على "تواصل الإنجازات العسكرية الروسية على الأرض في سوريا".

وترافق ذلك مع السعي إلى تنشيط قنوات الاتصال السياسية مع الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية وتركيا والسعودية للبحث عن تقاطعات إزاء شكل وأسس الحل السياسي المطلوب في سوريا، أو بمعنى آخر ردم الهوة الواسعة بين القراءة الروسية والقراءة الأميركية والأوروبية الغربية والتركية والخليجية للبيان الختامي الذي صدر عن مؤتمر جنيف1 في يونيو/حزيران 2012.

يشار هنا إلى أن قرار موسكو بالتدخل العسكري في سوريا استند إلى تقديرات تقول الأوساط السياسية الروسية إنها خضعت لبحث معمق على المستويين السياسي والعسكري انطلق من أن الظروف الدولية والإقليمية مواتية للإقدام على التدخل العسكري، حيث يمكن استغلال ضعف موقف الإدارة الأميركية وتخبطها، وانكفاء تركيا على ملفاتها الداخلية استعدادا للانتخابات التشريعية المبكرة ومواجهات الجيش مع مقاتلي حزب العمال الكردستاني التركي، وانشغال السعودية ودول الخليج العربي بالحرب في اليمن، واستمالة روسيا مواقف بعض الدول المؤثرة نسبيا في الصراع السوري، ولا سيما مصر، فضلا عن انقسام المعارضة السورية على نفسها بشقيها السياسي والعسكري.

غير أن الحسابات الروسية أخذت بعين الاعتبار ضرورة احتواء ردود الفعل الدولية والإقليمية على تدخلها العسكري، وكان تقدير موسكو أن ذلك ممكن إذا ما أحسنت توظيف التقاطعات بين مواقفها ومواقف القوى الأخرى مثل الموقف من داعش، وضرورة الحفاظ على الدولة السورية ومنع انهيارها، وهو ما تردده المواقف الأميركية والأوروبية على وجه الخصوص، واحتواء النفوذ الإيراني في سوريا.

وتعاملت الدبلوماسية الروسية مع تلك التقاطعات كرسائل طمأنة لمختلف الأطراف المؤثرة في الأزمة السورية، ولعل هذا ما يفسر ردود الفعل الدولية والإقليمية "المنضبطة" في البداية قبل أن تبدأ المواقف بالتغير بدرجات مختلفة على ضوء استهداف موجة الضربات الجوية الروسية مواقع المعارضة السورية التي تصنف عربيا وغربيا بأنها "معتدلة"، واستغلال الجيش النظامي بدعم من إيران وحزب الله تلك الضربات في محاولة لاستعادة المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة المسلحة، خصوصا في محافظات حمص وإدلب وحلب وحماة واللاذقية، أو على الأقل لإيجاد مناطق عازلة لتقوية دفاعات المناطق التي ما زال النظام يسيطر عليها.

استنفاد بنك الأهداف
في تلخيص المعادلة السابقة، الواضح أن رسائل الطمأنة الروسية استنفدت أغراضها مبكرا، وبالتالي تبدو موسكو أمام معضلة استنفاد أهداف تدخلها العسكري في سوريا، وليس أمامها سوى البحث عن مقاربات مع القوى الدولية والإقليمية سيرتب التأخر في الوصول إليها خسائر لروسيا.

وقبل التطرق إلى تأثير مواقف الأطراف المختلفة على التدخل العسكري الروسي في سوريا لا بد من الإشارة إلى أن روسيا لا تستطيع أن تخوض حربا طويلة الأمد في سوريا، ناهيك عن أنها لا تريد أن توسع نطاق تدخلها العسكري إلى عمليات برية، وعندما تم التخطيط للتدخل العسكري كانت المراهنة على ما يمكن أن تحدثه صدمة الضربات الجوية في الأيام الأولى على المعارضة المسلحة، وفي الإطار الأوسع ما سينتجه التدخل العسكري من حراك سياسي دولي وإقليمي.

في النقطة الأولى، خطة التدخل العسكري الروسي كانت تقوم على توقيت زمني محدود سقفه ثلاثة أشهر انطلاقا من تقدير أنها كافية لتغيير الميزان العسكري على الأرض لخلق معادلة سياسية جديدة تفرض فهما جديدا لبيان جنيف1 أقرب إلى الفهم الروسي.

غير أن المعارضة السورية استطاعت خلال الأسابيع الثلاثة الماضية أن تمتص بدرجة جيدة نسبيا صدمة التدخل الروسي، بينما كان أداء الجيش النظامي السوري وحلفائه الذين يقاتلون إلى جانبه على الأرض ضعيفا جدا، مما يعني أن المعركة ما زالت طويلة ومعقدة بصرف النظر عن الخسائر التي ألحقتها الغارات الجوية الروسية بالمعارضة السورية المسلحة، كتائب الجيش السوري الحر والكتائب الأخرى ذات التوجه الإسلامي، وهي خسائر تجمع عليها الأغلبية الساحقة من التقديرات -وعلى نطاق واسع- بأنها أكثر بكثير من الخسائر التي مني بها تنظيم الدولة جراء الضربات الجوية الروسية.

مع أن كلفة التدخل العسكري الروسي ما زالت محدودة وهناك تكتم كبير على النفقات والتكاليف لكن النتائج الأولى ظهرت في مشروع موازنة 2016، ويقدر العجز بـ3%، ويمكن أن تزيد النتائج السلبية في حال تورطت روسيا أكثر، خاصة مع عدم ارتفاع أسعار النفط

وفي النقطة الثانية، إن تصريح وزير الدفاع الأميركي بأن روسيا ستخسر الحرب في سوريا يفهم منه أن الولايات المتحدة ستعمل على ذلك بالتعاون مع حلفائها في الملف السوري، ورغم أن واشنطن لن تقدم على تزويد المعارضة السورية المسلحة بصواريخ أرض جو محمولة على الكتف، ليس بسبب الفيتو الروسي بل بسبب الفيتو الإسرائيلي فإن تزويد المعارضة السورية المسلحة بصواريخ مضادة للدروع وصنوف أخرى من الأسلحة سيفوت على روسيا أن تحقق ضرباتها الجوية أهدافا كبيرة خلال فترة زمنية قصيرة نسبيا، وبالتالي تقليص الهدف السياسي من دعم بقاء النظام إلى تأخير سقوطه.

نقطة أخرى من الضروري الإشارة إليها في هذا السياق، وهي أن كلفة التدخل العسكري الروسي ما زالت محدودة، وهناك تكتم كبير على النفقات والتكاليف، لكن النتائج الأولى ظهرت في مشروع موازنة 2016، ويقدر العجز بـ3%، ويمكن أن تزيد النتائج السلبية في حال تورطت روسيا أكثر، خاصة بعد فشل تعويل السياسيين والاقتصاديين الروس على ارتفاع أسعار النفط.

البحث عن مخرج
مع عودة حديث موسكو عن أولوية التسوية السياسية للحرب في سوريا أدلى رئيس الوزراء الروسي ديمتري مدفيدف بتصريح لفضائية روسيا24 قال فيه "نحن بالطبع لا نقاتل لصالح قادة محددين، وإنما ندافع عن مصالحنا القومية.. مسألة الرئاسة السورية أمر يقرره الشعب السوري". جاء ذلك عشية رفض واشنطن استقباله على رأس وفد روسي رفيع المستوى وتزايد الخشية من إغضاب أنقرة لما قد يترتب على ذلك من ارتدادات سياسية واقتصادية تبعا لمحورية الدور التركي في الأزمة السورية، وأهمية السيل التركي للغاز بعد توقف السيل الجنوبي، وعدم كفاية السيل الشمالي للغاز، وحجم التبادل التجاري بين البلدين.. إلخ.

وعلى الصعيد العملي، قبلت روسيا المشاركة في اجتماع اقترحته الولايات المتحدة، ويضم أيضا تركيا والسعودية دون مشاركة إيران، ولوحظ أيضا تغيير في اللهجة الروسية إزاء الجيش السوري الحر، وليس بعيدا عن أجواء التغيير الملحوظ والمتلاحق في المواقف ما نقلته وكالة "رويترز" عن مراجع تركية كشفت عن أن أنقرة تقبل أن يكون رحيل الرئيس بشار الأسد بعد ستة أشهر.

وجاءت تحليلات المراقبين لحيثيات ونتائج الزيارة الخاطفة والسرية التي قام بها الأسد إلى موسكو لتصب باتجاه التشديد على أن الموضوع لم يعد بقاء الأسد في السلطة أو رحيله بل متى سيرحل، والأسابيع وربما الأيام القليلة القادمة ستكشف عن ذلك وسط اعتقاد رائج بأن الأمر أصبح مبدئيا محل توافق على نطاق واسع.

تغير في الموقف
في هذا السياق، تأتي الدعوة التي وجهها وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف لأطراف النزاع في سوريا للحوار من أجل التحضير لانتخابات تشريعية ورئاسية، مع تعهد خطي بعدم ترشح الأسد فيها كما أبدى لافروف في لقاء مع قناة روسيا1 بعد الاجتماع الرباعي في فيينا استعداد روسيا لتقديم دعم جوي للمعارضة السورية بما في ذلك الجيش السوري الحر من أجل محاربة "داعش".

بالتدقيق في تصريح لافروف هناك تراجع عن مطلب ترشح الأسد في أي انتخابات رئاسية قادمة، والاستعداد لموقف مختلف تجاه الجيش السوري الحر، ويبدو أن اقتراح إجراء انتخابات تشريعية ورئاسية هو محاولة لجس النبض لا أكثر

وبالتدقيق في دعوة لافروف هناك تراجع عن مطلب ترشح الأسد في أي انتخابات رئاسية قادمة، والاستعداد لموقف مختلف تجاه الجيش السوري الحر، ويبدو أن اقتراح إجراء انتخابات تشريعية ورئاسية هو محاولة لجس النبض ليس أكثر، وبداية عملية تفاوضية لمقاربات حول فهم وترجمة بيان جنيف1.

ولعل موسكو تقدر مسبقا أن مقترح الانتخابات بالصيغة التي طرحتها لن يكون مقبولا من الأطراف الأخرى، فإذا ما وضعنا جانبا عدم إمكانية توفير ظروف إجراء انتخابات فإن صيغته المقترح تتجاوز نص بيان جنيف1 على مرحلة انتقالية تتولى الحكم فيها هيئة انتقالية باستطاعتها تأمين بيئة محايدة تتحرك في ظلها العملية الانتقالية، وإعادة النظر بالمنظومة القانونية والدستورية قبل إجراء أي انتخابات، والمساءلة عن الأفعال المرتكبة وإعداد مجموعة شاملة من أدوات العدالة الانتقالية.. إلخ.

وبالتالي لا بد من الوصول إلى نقطة وسط يتطلب الوصول إليها اقتراب روسيا من فهم باقي الأطراف لمضمون بيان جنيف1، والكيفية التي سينفذ فيها.

لكن -وفي كل الأحوال- فإن الحديث عن إيجاد مخرج لا يدور تحت سقف زمني مفتوح، وتدرك موسكو ذلك وبدأت تأخذه بعين الاعتبار، وستحاول أن تبذل كل ما بوسعها من أجل الإبقاء على الشق الثاني من خطة تدخلها العسكري في سوريا التي يقال إنها أبلغتها للأطراف الدولية الفاعلة ولم تنفذ كما يجب.

فالشق الأول ضرب داعش وإضعاف دور إيران وحزب الله، بينما يقضي الشق الثاني بانتهاء دور الأسد لمصلحة رئيس وزراء "سني" قوي بعد مدة محددة من تشكيل هيئة الحكم الانتقالي، مع المحافظة على مؤسسات الدولة، خاصة الجيش، لكن عقدة المنشار تبقى في المسؤولية عن الأجهزة الأمنية والجيش، ناهيك عن عقدة الخلاف على توقيت رحيل الأسد عن السلطة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.