هبة أم انتفاضة أخرى؟

An injured Palestinian demonstrator is helped during clashes at the Hawara checkpoint near of the West Bank city of Nablus, Sunday, Oct. 11, 2015. Tensions in he West Bank continued with near-daily violent demonstrations. At least 45 Palestinians were wounded by live bullets in clashes between university students and Israeli forces at the military checkpoint near Nablus on Sunday, the Palestinian Health Ministry said. (AP Photo/Nasser Shiyoukhi)
أسوشيتد برس

في جدل التوصيف
الاحتلال هو السبب
كولونيالية عنصرية
حرب مستمرة

مرة جديدة يثبت الفلسطينيون أنهم شعب حي وشجاع ويستعصي على الإخضاع، رغم إمكانياته الضعيفة، ورغم الظروف الصعبة المحيطة به، كما يثبت أن الأساليب القمعية الإسرائيلية لم تفت عضده، ولم توهن عزيمته.

هكذا، نحن اليوم إزاء حالة نهوض وطني فلسطيني، من أهم سماتها: أولا، أنها حالة نهوض شعبية وعفوية، أي من خارج الأجندة الفصائلية، بل وربما تتجاوزها. وثانيا، أنها ذات طابع شمولي، بحيث شملت معظم مدن الضفة الغربية فعدا القدس ثمة -أيضا- الخليل ورام الله ونابلس وبيت لحم وقلقيلية وجنين وطوباس وأريحا. وثالثا، أنها سريعة وساخنة ومبادرة بطريقة عملها ودينامياتها.

في جدل التوصيف
على ذلك يبدو من المبكر التكهن بطبيعة هذه الحالة، أو بطبيعة مآلاتها، فإبان بداية الحراكات أو الهبات أو الانتفاضات الشعبية ليس مفيدا، ولا مجديا، خلق جدالات من نوع: هل هذه هبة أم انتفاضة؟ لأننا في ذلك نستبق حركة الواقع، أو نصادر على المستقبل، كما أننا في ذلك نكون كمن يحجز الوقائع المتحركة في إطار تجارب جاهزة أو تخيلات معينة، في تجاوز لقوانين التراكم والتطور التي تحكم الظواهر الاجتماعية والسياسية، ما يضر الظاهرة المتعينة التي تفرض دينامياتها بذاتها.

نحن اليوم إزاء حالة نهوض فلسطيني، من أهم سماتها، أنها حالة نهوض شعبية وعفوية، وخارج الأجندة الفصائلية، وأنها ذات طابع شمولي، بحيث شملت معظم مدن الضفة الغربية، وأنها سريعة وساخنة ومبادرة بطريقة عملها ودينامياتها

وفي الواقع فإن ما يجري في الأراضي المحتلة -اليوم- ربما يكون أقرب إلى "الهبة الشعبية" على غرار هبة النفق، التي اندلعت قبل عقدين تقريبا (سبتمبر/أيلول 1996)، بسبب الانتهاكات الإسرائيلية في المسجد الأقصى، أو ربما يكون بمثابة مقدمة لانتفاضة شعبية أخرى، على نحو يشبه الانتفاضة الأولى (1987 ـ 1993)، وربما أن ما يجري قد يفتح على حالة جديدة.

بيد أن كل هذه التوصيفات ليست مهمة، إذ الأهم -الآن- أن نرى في ما يجري كمرحلة في السياق العام لكفاح الشعب الفلسطيني. لذا فكونها انتفاضة فهذا إذا يفترض تهيئة أسباب قوتها واستثمارها، وأساسا إدارتها، على نحو أفضل وأنسب، لا سيما على ضوء تجربة الانتفاضتين السابقتين، اللتين تم إجهاض تأثيراتهما، وكونها هبة فهذا لا يقلل من أهميتها في هذه الظروف الصعبة، على الصعيدين الداخلي والخارجي.

وقد يجدر بنا التذكير هنا أن هبة النفق شهدت مواجهات حامية بين الفلسطينيين من جهة والمستوطنين والجيش الإسرائيلي من الجهة الأخرى، وقد نجم عن ذلك استشهاد 63 من الفلسطينيين (31 من غزة) وإصابة أكثر من ألفي شخص (584 منهم من غزة)، وقد شملت تلك الهبة في حينها معظم المدن الفلسطينية، وشاركت فيها قوى الأمن الفلسطينية.

الاحتلال هو السبب
في السياق ذاته -أيضا- ليس مجديا ولا مفيدا الدخول في حالة من الجدل البيزنطي في تفسير ما يحصل في الأراضي الفلسطينية المحتلة، إذ ليس مهما هنا طرح أسئلة من نوع ما هي البداية؟ أو ما هو الحدث المؤسس؟ هل هو قتل المستوطنين الثلاثة قرب الخليل (يونيو/حزيران 2014)، أم جريمة حرق الفتى الفلسطيني محمد أبو خضير، بعدها بأيام؟ جريمة حرق عائلة دوابشة في منزلها قرب نابلس، أم مصرع المستوطنين الإسرائيليين في نفس المنطقة قبل أيام؟ أعربدة المستوطنين اليهود في الضفة أم تصدي الفلسطينيين لهم؟ محاولات انتهاكهم حرمة المسجد الأقصى أم مقاومة أهالي القدس لهم؟ هل جمود العملية التفاوضية؟ أم فقدان الفلسطينيين الأمل؟

القصة أن هذا النوع من الأسئلة يفيد بالتورية والتلاعب -لا أكثر- أولا، لأنها تغطي على القضية الأساسية موضع الصراع، في تجاوزها للسبب وذهابها نحو النتيجة مباشرة. وثانيا، لأن المستوطنين (والعسكريين الإسرائيليين) في الضفة ليسوا سياحا ولا حمامات سلام. وثالثا، لأن هذه الأسئلة تفكك القضية الأساسية وتحولها إلى مجرد قضايا جزئية لا صلة ولا رابط بينها.

ورابعا، لأنها في مساواتها بين غير متساويين من حيث الحق والإمكانيات نوع من المساواة الظالمة بين الضحية والجلاد. وخامسا، لأنها تحاول أن تنزع عن الفلسطينيين تحت الاحتلال حقهم الطبيعي الإنساني والقانوني والأخلاقي في رفض الاحتلال ومقاومته.

وعن ذلك، وفي تفسيره لأسباب استمرار مقاومة الفلسطينيين رغم كل ما يواجهونه، يقول يوسي ساريد (الرئيس السابق لحركة ميريتس) "الاحتلال يقدم لهم الحافزية. المستوطنات التي تقام داخل روحهم تقدم لهم الحافزية. الأطواق والإغلاقات والجوع والفقر والإذلال تقدم الحافزية، البنادق بدون حافزية لا تطلق النار.. إذا كانت هناك حافزية، حتى المكنسة تطلق النار" ("معاريف"، 4/3/2002).

في عهد أبو مازن، أي بعد رحيل ياسر عرفات، قتلت إسرائيل حوالي 6500 من الفلسطينيين (الثلثين في حروب غزة الثلاث)، وجرحت أضعافهم. والقصد أن وجود قيادة "معتدلة" لم تشفع للفلسطينيين عند قادة إسرائيل، الذين عملوا كل شيء من أجل الحط من قيمة هذه القيادة

كولونيالية عنصرية
واضح أن إسرائيل نجحت -إلى حد كبير- في الترويج لكل تلك الأسئلة، بحيث أضحت القضية الأساسية المتعلقة باعتبارها دولة كولونيالية، من طراز خاص، بحكم طابعها الاستيطاني الإجلائي والإحلالي، القائم على إزاحة أهل الأرض الأصليين، من الزمان والمكان، وإحلال المستوطنين اليهود مكانهم، وفرض روايتها لتاريخ المنطقة، كأنها باتت من الماضي، أو كأنها لم تعد ذات صلة، بحكم الأوضاع الدولية والعربية، وبواقع انخراط الفلسطينيين في عملية تسوية غير متكافئة.

وإذا تجاوزنا كل ذلك، من زاوية افتراضية، وذهبنا إلى الحدث المؤسس الآخر، أو المكمل، والمتمثل في الاحتلال الذي بدأ في 1967، فسنجد أن القصة الأساسية تتمثل في سيطرة إسرائيل على حياة الفلسطينيين، وعلى أراضيهم ومواردهم ومستقبلهم وعلى كل أوجه النشاط عندهم.

حتى عملية التسوية المجحفة -التي تمثلت باتفاق أوسلو 1993- لم تسلم من الانتهاكات الإسرائيلية، إذ إن أول تقويض لها تم في العام 1999، أي بعد انتهاء المرحلة الانتقالية المفترضة، كما تم تقويضها مرة ثانية في مفاوضات كامب ديفد2 (2000) التي كان الغرض الأساسي منها تشريع التملص من اتفاق أوسلو، والتهرب من استحقاقات المرحلة الانتقالية، وتحويل العملية التفاوضية إلى مجرد دوامة لا نهاية لها، علما أن كل ذلك حصل قبل الانتفاضة الثانية (2000).

في خضم هذا النوع من الجدل يفيد أن نعرف أن الفلسطينيين في الضفة الغربية في وضع صعب جدا، ولا يقل صعوبة عن الوضع في غزة، فقد باتوا إزاء ثلاث سلطات، وثلاث أنظمة قانونية، مع ثلاث تقسيمات للأراضي.

هكذا سلطة إسرائيل -وهي العليا- ثم المستوطنون الذين باتوا بمثابة سلطة إلى حد ما، إن في ضغوطهم على الحكومة الإسرائيلية أو في صراعهم مع الفلسطينيين، ومنازعتهم إياهم أرضهم ومياههم ومجالهم الحيوي واعتداءهم على مقدساتهم، كما هناك السلطة الفلسطينية وهي الأضعف.

أيضا ثمة ثلاثة أنظمة قانونية يخضع لها الفلسطينيون: الأول، يتمثل بالنظام الاستعماري الإسرائيلي. والثاني، يتمثل بنظام الفصل العنصري، حيث ثمة نظام قانوني للمستوطنين اليهود في الضفة، ونظام قانوني يسري على الفلسطينيين. والثالث، هو النظام القانوني الخاص بالحكم الذاتي. أما الأراضي فقد باتت منذ اتفاق أوسلو مقسمة إلى المناطق: (أ) هي مناطق السلطة الفلسطينية، و(ب) وهي مناطق تخضع للسلطتين الفلسطينية (اسميا) والإسرائيلية فعليا، و(ج) وهي تخضع للسلطة الإسرائيلية، وهي الجزء الأكبر من الضفة.

وفي الحديث عن الفصل أو التمييز القانوني بين المستوطنين والفلسطينيين، تقول الكاتبة عميرة هس: "الأمر الذي يستفز أكثر.. معرفة أن الشرطة الإسرائيلية تهمل إلقاء القبض على اليهود الذين يلحقون الضرر بالفلسطينيين ولا تردع الآخرين.

المستوطنون الذين يهدفون إلى إخافة وطرد الناس من أراضيهم يُكملون عمل الإدارة المدنية التي تسلب المزيد والمزيد من الأراضي الفلسطينية وتعلن عنها أراضي دولة، وهي بذلك تخضع لأوامر المسؤولين عنها. («هآرتس»، 1/10) ومفهوم أن الحديث هنا عن سكوت إسرائيل عن تصرفات المستوطنين، وضمنه -مثلا- السكوت عن جرائم مثل حرق الفتى محمد أبو خضير أو حرق عائلة دوابشة قرب الخليل.

حرب مستمرة
إضافة إلى كل ما تقدم من المفيد التذكير بأن الفلسطينيين يواجهون حربا دائمة تشنها عليهم إسرائيل، بمستوطنيها وقواتها الأمنية وأنظمتها القانونية، وهذا يتمثل: أولا، باستشراء النشاط الاستيطاني، الذي بات يستحوذ على 40% من أراضي الضفة. وثانيا، ببناء الجدار الفاصل الذي يقضم أراضي الفلسطينيين ويقطع التواصل بين تجمعاتهم ويضيق على حركتهم.

الروائي الإسرائيلي إب يهوشع يقول عن الفلسطينيين "حتى لو كانوا نرويجيين باردي المزاج أو برازيليين محبين للحياة، لخرجوا أيضا عن طورهم"

وثالثا، بانتهاج سياسة الاعتقال الإداري التي يذهب ضحيتها ألوف الفلسطينيين كل عام (بين 3 ـ4 آلاف سنويا). ورابعا، بمنع دخول أهالي الضفة إلى القدس والانتهاكات المستمرة لحرمة المسجد الأقصى من قبل المستوطنين والمجندين. وخامسا، بالاعتداءات المستمرة من قبل المستوطنين على ممتلكات الفلسطينيين والتضييق عليهم، وضمنه اقتحام الجيش الإسرائيلي للمدن الفلسطينية.

وسادسا، باعتماد إسرائيل سياسة هدم منازل الفلسطينيين، إن كإجراء عقابي او كإجراء إداري بدعوى عدم الترخيص. وسابعا، بتعمد إسرائيل إقامة عشرات الحواجز الأمنية بين مدن وقرى الضفة الغربية، هذا إضافة إلى تحكمها بالمعابر مع الأردن، وقطعها التواصل بين الضفة وغزة. وثامنا، بتنامي شعور الفلسطينيين بفقدان الأمل، لا سيما مع تجميد العملية التفاوضية وانسداد أفق التسوية السياسية، وتبخر ما يسمى حل الدولتين.

وعند ناحوم برنياع فإن "الانتفاضة الثالثة تتجسد ليس بسبب غياب الأمل السياسي، بل بسبب غياب كل أمل. لا أمل للوصول إلى دولة، وفي واقع الأمر لم تعد ثمة رغبة في الوصول إلى دولة: تبدد الإيمان في السلطة الفلسطينية وبمنافستها "حماس". لا أمل اقتصاديا: الضفة وغزة لا تنتجان شيئا تقريبا.. لا أمل من العالم العربي، الذي ينشغل في هذه اللحظة بسوريا، وبالعراق وباليمن، ولا أمل من القوى العظمى الغربية". ("يديعوت احرونوت"، 5/10).

وباختصار ففي عهد أبو مازن (2005ـ 2015)، أي بعد رحيل ياسر عرفات، قتلت إسرائيل حوالي 6500 من الفلسطينيين (الثلثين في حروب غزة الثلاث)، وجرحت أضعافهم. والقصد أن وجود قيادة "معتدلة" لم تشفع للفلسطينيين عند قادة إسرائيل، الذين عملوا كل شيء من أجل الحط من قيمة هذه القيادة، بدءا من وضع شروط على التسوية، مثل "الأمن أولا"، واعتبار منطقة الغور حدودا أمنية، إلى طلب الاعتراف بـ"يهودية الدولة" الإسرائيلية، مرورا بالإصرار على تعزيز الأنشطة الاستيطانية.

هكذا يتبين أن الفترة من 2005 ـ 2015 هي من أكثر الفترات هدوءا وأمنا بالنسبة للإسرائيليين، بسبب طبيعة القيادة الفلسطينية، وانتهاجها التنسيق الأمني، وارتهانها لخيار المفاوضات، لكن هذه ليست حال الفلسطينيين.

المشكلة أن إسرائيل لا تبالي بهذه المعطيات، بانتهاجها سياسة الإملاء والغطرسة والقوة، ما يضع الفلسطينيين في مواجهة البحث عن خيارات أخرى. هذا يأخذنا إلى كلام الروائي الإسرائيلي إب يهوشع الذي يقول عن الفلسطينيين: "حتى لو كانوا نرويجيين باردي المزاج أو برازيليين محبين للحياة، لخرجوا أيضا عن طورهم، لو أن غرباء هبطوا عليهم من سبعين بلدا، (…) وقالوا لهم: إن أرضكم هي بالتحديد أرضنا". ("هآرتس"، 25/2/‏2002‏).

هكذا، لا يهم إن كانت هذه هبة أم انتفاضة.. تحية لروح الحرية في قلوب الشباب الفلسطينيين.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.