الدور العسكري الروسي بسوريا.. حسابات إيرانية

In this photo taken on Saturday, Oct. 3, 2015, Russian military support crew attach a satellite guided bomb to SU-34 jet fighter at Hmeimim airbase in Syria. Russia has insisted that the airstrikes that began Wednesday are targeting the Islamic State group and al-Qaida's Syrian affiliates, but at least some of the strikes appear to have hit Western-backed rebel factions. (AP Photo/Alexander Kots, Komsomolskaya Pravda, Photo via AP)
أسوشيتد برس

قبل بضعة أشهر لم يكن التدخل العسكري الروسي في سوريا متوقعا بالشكل الذي جرى. إلا أن تغييرات الساحة السورية أنهت تذبذب الروس وأتت بهم إلى الساحل السوري محملين بالسلاح والطائرات والسفن الحربية.

وبعيدا عن الأهداف الروسية التى اختلف حولها الكتاب والباحثون، ليس ثمة شك بأن الدخول الروسي بهذا الحجم سيأتي بتغييرات جدية على الأزمة السورية.

من هذا المنظور تتابع دول الشرق الأوسط ومنها إيران وتحاول فهم مدى تأثير الواقع الجديد على سياستها تجاه سوريا وتبعاته عليها. وباعتبارها أحد الأطراف المؤثرة في القضية السورية، لم تقلق الغارات الروسية الاستراتيجي الإيراني. سنحاول في هذه الورقة تقييم تأثير التطور المذكور على سياسة إيران السورية وتبعاته عليها.

تعتبر إيران دخول روسيا عسكريا ضد داعش (تنظيم الدولة الإسلامية) والتنظيمات المسلحة الأخرى ترجيحا لكفة حليفها السوري في البُعد العسكري. وحسب العقلية الاستراتيجية الإيرانية، فإن الغارات الروسية تحمل ثلاثة أبعاد لا تخطئها العين في صالح سياسة إيران وحليفها السوري:

يمثل تخفيف الأعباء الاستراتيجية لإيران وحلفائها أحد نتائج دخول المتغير الروسي إلى الصراع السوري. وكانت إيران قد ظهرت بلبوس الداعم الرئيسي للنظام السوري. ومن الواضح أن هذا الواقع ولد ضغوطا جمة على كل الصعد

الموازنة الدولية: أولا يأتي التدخل الروسي للأزمة السورية بموازنة على المستوى الدولي، فطالما أدت الضغوط الغربية على النظام السوري إلى تشدد دول الشرق الأوسط المعادية له. بدأ ذلك مع خطاب الرئيس أوباما القائل بضرورة تنحي الأسد، والذي أدى بدوره إلى تمسك دول كتركيا والسعودية وغيرهما بخطاب متطرف لحل الصراع.

ومع دخول روسيا بشكل أكثر فاعلية في سوريا، اتضح للجميع أن هناك من يوازي الدور الغربي المعادي للأسد والداعم خطابيا لتنحيه، رغم ضآلة تدعيم ذلك الخطاب عمليا إلا بتسليح مجموعات ثبت عدم فاعليتها. بهذا المعنى، أدى دخول روسيا إلى إحداث موازنة دولية على المستويين الخطابي والعملياتي.

ومن المتوقع أن يكون لهذه الموازنة الدولية الجديدة أثر إقليمي أيضا، فالدول الإقليمية المعولة على الدور الغربي خيارا أمثل، تُدرك اليوم أن الغرب لن يجابه الروس لتحقيق هدف ما زال يتذبذب بشأنه بوضوح. ونتيجة لذلك، تعول طهران على عدول دول الشرق الأوسط الداعمة للمعارضة عن الخيارات الإقصائية كمقدمة لحل الصراع. فالموازنة اليوم لا تحتمل الشروط المسبقة للحل.

الموازنة الميدانية: إن إعادة الموازنة الميدانية للساحة السورية هو ثاني نتائج قيام روسيا بضربات جوية ضد التنظيمات المسلحة، فمنذ التغيير الذي طرأ على المعادلة السورية إثر تزويد المعارضة المسلحة بأسلحة نوعية وتوحيد صفوفها بمبادرة سعودية وقبول وتعاون تركي قطري، انحدرت إمكانية اللجوء للحلول السياسية. وأدركت روسيا في الوقت نفسه ضرورة الإمساك بأوراق ضغط فعالة إن كان سيُكتب لها النجاح في الإتيان بحلول سياسية للأزمة السورية.

وقد بحث الروس عن مراكمة رأسمالهم الاستراتيجي في الحوار مع الغرب عبر بوابة الشرق الأوسط السورية، وأتى تقدم المعارضة وإمكانية سقوط الأسد بموسكو إلى نتيجة فحواها أن الأوراق الروسية باتت تتساقط بسرعة، وإن لم يجر تدارك الموقف فستفقد آخر قاعدة لها في الشرق الأوسط وتفقد بالتالي أي إمكانية للتأثير على المعادلات الإقليمية.

وبعيدا عن الأهداف الروسية، تظل النتيجة واحدة: إعادة الموازنة الميدانية بعد الخلل الذي أصابها نتيجة إدخال كميات كبيرة من السلاح والمال إلى سوريا بعد التغير الذي حصل مؤخرا في سدة الحكم في السعودية. وقد يختلف المتابعون للوضع السوري حول جدوى الغارات الروسية والتغييرات التي ستُحدثها ميدانيا لصالح بقاء الأسد أو هزيمة أعدائه، إلا أن إعادة الموازنة الميدانية من النتائج المتوقعة له إن لم تكن قد تحققت حتى الآن.

الحد من الأعباء الاستراتيجية: يمثل تخفيف الأعباء الاستراتيجية لإيران وحلفائها ثالث النتائج لدخول المتغير الروسي إلى الصراع السوري، فقد ظهرت إيران بلباس الداعم الرئيسي للنظام السوري. ومن الواضح أن هذا الواقع ولد ضغوطا جمة على كل الصعد. فالمجابهات السياسية الإقليمية والدولية النابعة من الأزمة السورية أدت إلى زيادة دعم السعودية وتركيا وحلفائهما للمعارضة المسلحة بغرض ضرب الند الإيراني من جهة وزادت من الدعم -الخطابي على الأقل- للدول الغربية من خيار الإسقاط بالقوة من جهة ثانية.

من الواضح أن إيران روحاني الظافرة باتفاق نووي على المستوى الدولي لا تبحث عن التصعيد على المستوى الإقليمي لسببين؛ الأول إبعاد الاتفاق النووي عن التأثر بالملفات الإقليمية، والثاني التخلص تدريجيا من أعباء السياسة الإقليمية، ويصب التدخل الروسي في صالح الهدفين

كل ذلك زاد من حجم الأعباء الاستراتيجية على كاهل الاستراتيجي الإيراني الذي كان مُثقلا بالأساس بالملف النووي. وقد قلصت انفراجه اتفاق النووي من الأعباء الدولية، إلا أن زيادة الدعم للقوى المسلحة وتأسيس جيش الفتح، قلب موازين القوى في الشمال السوري وزاد الضغط على النظام السوري وحلفائه. وأدى ذلك بالتالي إلى تصلب موقف المعارضة -بشقيها المسلح وغير المسلح- و داعميها على حد سواء.

وزاد هذا الواقع بدوره من الضغوط على داعمي النظام السوري من جهة ومن تذمر روسيا -الحاضنة لحوار الحكومة والمعارضة المعتدلة- من جهة أخرى. وأتى التدخل الروسي بالتالي ردا على تغيير ميزان القوى وأعاد شيئا من الموازنة للمعادلة. فسوريا بعد دخول الروس تختلف عما قبلها وتعلم الدول الداعمة للخيار العسكري لإسقاط الأسد أن الوضع قد تغير. بهذا المعنى انحدر العبء الاستراتيجي على إيران وازداد الضغط في الوقت نفسه على دول الحل العسكري.

وما الحديث الروسي عن إمكانية توسيع العمليات لتشمل العراق والأردن ومصر إلا إشارة واضحة حول عزم موسكو التغلغل بمقاييس أكبر في ملفات الشرق الأوسط. الروس قادمون إذن للعب دور أكبر وأوسع من الساحل السوري. وعموما وحتى الآن لا تنظر إيران للتدخل الروسي إلا برضا وامتنان لإعادته الموازنات الدولية والإقليمية والميدانية ولتخفيفه الأعباء الاستراتيجية الثقيلة للأزمة السورية.

وبعيدا عن النتائج سالفة الذكر، يمكن تأطير تنامي الدور الروسي في سوريا والمنطقة بمنظور آخر هو زيادة قوة اللاعب الدولي على حساب اللاعب الإقليمي، فقد ازداد دور السياسة الإقليمية واللاعب الإقليمي على الحسابات الدولية ولاعبيها بعد الربيع العربي. وزاد تذبذب الغربيين بعد سقوط القذافي في صناعة هذا الواقع. بذلك أصبح اللاعب الإقليمي دون غيره يتحرك بحرية تجاه الملفات الإقليمية ويدعم ويمول ويسلح ويحاول رسم الواقع الجديد.

ولطبيعة موقف الولايات المتحدة النائي بنفسه عن تطورات الربيع العربي، تحمست حليفاتها لملء الفراغ بدعمها للمعارضة السورية المسلحة، كما ازداد دور حلفاء النظام السوري بدعمهم ووقوفهم أمام خيار أعدائه القائل بضرورة تنحيه، وأدى ضعف إدارة الأزمات على المستوى الإقليمي إلى تزايد الصراعات حدة واتساعا. لذلك يُشكل التحرك العسكري الروسي مدخلا لغلبة الطابع الدولي للأزمة السورية -وغيرها من الأزمات الإقليمية في المستقبل- على طابعه الإقليمي. وينحدر بذلك دور اللاعب الإقليمي.

ووفق مقولة شائعة لعلماء الجغرافيا السياسية، لا بد من الإتيان بحلول دولية للأزمات التي تأخذ طابعا جيوستراتيجيا، فلكل أزمة نطاق، ونطاق حل الأزمات الجيوستراتيجية لا يمكن أن يكون وطنيا أو حتى إقليميا. بذلك يمكن رؤية بصيص أمل لتقديم حل سياسي في سوريا بعد تصاعد دور اللاعبين الدوليين. يأتي ذلك نتيجة ضعف التعاون الإقليمي وتقديم الحلول الصفرية التي أتت في نهاية المطاف على دور اللاعبين الإقليميين.

إضافة لذلك وتبعا لتصاعد الدور الروسي والدولي بشكل عام على حساب الأدوار الإقليمية، من المتوقع حدوث صفقات حول القضية السورية. ولتراجع الدول الإقليمية عن لعب دور محوري، لن يملك اللاعب الإقليمي أدوات الضغط اللازمة لمقاومة المفروض دوليا. ويصدق هذا على منافسي إيران أكثر من طهران نفسها، إذ من المتوقع أن تهتم موسكو بأولويات طهران أكثر من اهتمامها أو اهتمام الأطراف الغربية بأولويات الرياض أو أنقرة مثلا.

وبعيدا عن هذا الواقع العام، يبقى السؤال قائما حول مدى قبول إيران بالسيناريوهات المطروحة بعد التدخل العسكري الروسي. تُدرك طهران أن الوضع السوري قد تغير على مر سنوات الأزمة وتطورت أولويات اللاعبين فيه توازيا مع هذه التغييرات. ومن الواضح أن إيران روحاني الظافرة باتفاق نووي على المستوى الدولي لا تبحث عن التصعيد على المستوى الإقليمي لسببين؛ الأول إبعاد الاتفاق النووي عن التأثر بالملفات الإقليمية، والثاني التخلص تدريجيا من أعباء السياسة الإقليمية. ويصب التدخل الروسي في صالح الهدفين.

لم تعد قضية بقاء أو تغيير الأسد القضية المحورية اليوم، فالمهم لطهران كان إفشال مخطط إسقاط سوريا الأسد على يد أعدائها واستبدالها بنظام يعاديها وحلفاءها، ومع الموازنة التي أضفتها روسيا على المعادلة، ستعتبر طهران أي حل سياسي حتى لو حد من قوة حلفائها مكسبا استراتيجيا

لذلك ورغم ما يُثار في الإعلام، لم تعد قضية بقاء أو تغيير الأسد القضية المحورية اليوم، فالمهم لطهران كان إفشال مخطط إسقاط سوريا الأسد على يد أعدائها واستبدالها بنظام يعاديها وحلفاءها، أما الآن ومع الموازنة التي أضفتها روسيا على المعادلة، فستعد طهران أي حل سياسي عبر التفاوض، حتى لو حد من قوة حلفائها، مكسبا استراتيجيا يبني لدور إيراني أكثر نشاطا وأكثر تفاعلا مع الدول العربية.

بعبارة أخرى، يمكن تحديد هدف إيران المحوري اليوم بإيقاف الحرب السورية دون تسليم سوريا لأعدائها. وما الخطاب الإيراني الداعي لتقرير السوريين مصيرهم بأنفسهم إلا تعبير عن هذه الرؤية. بشكل عام يمكن تلخيص أهداف إيران في مرحلة ما بعد الدخول العسكري الروسي سوريا كالتالي:

– البناء على الموازنة الميدانية للدفع إلى واقعية أكبر في تعاطي المعارضة المسلحة مع النظام السوري للتوصل إلى حل سياسي.

– البناء على الموازنة الدولية للحد من التطرف الإقليمي تجاه إيران وحلفائها والأهداف المركزة ضدها بغية ضرب نفوذها.

– التركيز على ضرورة إيجاد فرص للحل السياسي الذي ستعده حكومة روحاني مكسبا استراتيجيا لها يدعم الاتفاق النووي.

– محاولة عدم الوقوف أمام الحلول الدولية القادمة على ألا تفرض على إيران وحلفائها.
بشكل عام، يتميز موقف طهران عن نظرائها ومنافسيها الإقليميين بالمرونة تجاه الروس، أصدقاء إيران المعتمدين، والدول الغربية، الشريكة لإيران في الاتفاق النووي. على هذا الواقع تعول طهران لإيصال أهدافها السورية إلى الحل النهائي.

وإن كان من المتوقع أن تحظى طهران كغيرها بجزء من المفروض دوليا على الإقليم في الملف السوري بعد أن بدأ إضعاف دور اللاعبين الإقليميين لصالح اللاعبين الدوليين، إلا أن الأبواب تبدو أكثر انفتاحا أمامها للاستمرار بالتأثير على الحل النهائي. هكذا يبدوا الوضع حاليا على الأقل رغم صعوبة توقع المستقبل.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.