ماذا بعد إخفاق المشروع الفلسطيني في مجلس الأمن؟

السلطة الفلسطينية تدرس العودة إلى مجلس الأمن

باتت القيادة الفلسطينية في مواجهة خيارات وتحديات صعبة -أكثر من أي وقت مضى- بعد إخفاق خيارها المتمثل في التوجه إلى مجلس الأمن الدولي لاستصدار قرار ينص على إنهاء الاحتلال الإسرائيلي.

وكان مشروع القرار المذكور حظي بقبول ثماني دول (بينها روسيا والصين وفرنسا) في حين أن المطلوب تسع دول، ومع ذلك فقد اعترضت الولايات المتحدة الأميركية على هذا المشروع (ومعها أستراليا) في حركة زائدة ذات دلالة سياسية معينة؛ في حين امتنعت خمس دول عن التصويت بينها بريطانيا.

بيد أن المهم في هذه الواقعة هو موافقة ثلاث دول دائمة العضوية في مجلس الأمن على مشروع القرار ضمنها فرنسا، وهذا تطور مهم بالنظر إلى انضمام فرنسا إلى جملة الدول الأوروبية التي اتخذت برلماناتها قراراً بالاعتراف بالدولة الفلسطينية.

ومعلوم أن بريطانيا -وهي الدولة الرابعة التي لها عضوية دائمة في المجلس- اكتفت بالامتناع عن التصويت، وهي خطوة متقدمة عن السابق وإن لم تأت على قدر المطلوب، علما بأن البرلمان البريطاني اتخذ خطوة مشابهة للتي اتخذها البرلمان الفرنسي بشأن الاعتراف بدولة فلسطين.

وعلى ذلك، فإن المعارضة الفعلية لمشروع القرار الفلسطيني جاءت من الولايات المتحدة الأميركية وهي الدولة الراعية لعملية "السلام"، ذلك أن المعارضة الأسترالية للمشروع نابعة من الموقف الأميركي ذاته، إذ إن هذه الدولة -مثل كندا- تكاد لا تكون لها سياسة خارجية مستقلة عن الولايات المتحدة. وربما ينطبق هذا الأمر على الدول الأخرى الممتنعة (بريطانيا، ليتوانيا، نيجيريا، كوريا الجنوبية، رواندا).

الواقع أن الموقف الأميركي لم يكن مفاجئاً البتّة، إذ إن الإدارة الأميركية صرحت على لسان مسؤوليها مرارا بمعارضتها للتوجه الفلسطيني المذكور، معتبرة إياه بمثابة إجراء أحادي يضر بالعملية التفاوضية.

الموقف الأميركي لم يكن مفاجئاً البتّة، إذ إن الإدارة الأميركية صرحت على لسان مسؤوليها مرارا بمعارضتها للتوجه الفلسطيني المذكور، معتبرة إياه بمثابة إجراء أحادي يضر بالعملية التفاوضية

ويستنتج من ذلك أن الولايات المتحدة ليست لديها سياسة حاسمة بشأن قضية فلسطين، وأن إدارة أوباما -رغم كل وعودها للفلسطينيين، ورغم كل خلافاتها مع إسرائيل- غير قادرة وربما غير راغبة أيضا في التخلي عن نهجها بمحاباة إسرائيل، وتغطية سياساتها القائمة على الاحتلال والغطرسة وقضم حقوق الفلسطينيين. وعلى العموم فإن هذه الإدارة تبدو مترددة في كل الملفات الخارجية المطروحة أمامها، من الملف الإيراني إلى الملف الاوكراني مرورا بالملف المتعلق بالمسألة السورية.

طبعاً، ليست ثمة مفاجأة في هذا الأمر، بل ربما أخطأت القيادة الفلسطينية كثيرا بمسايرتها للولايات المتحدة وبشكل مجاني، بحيث إنها لم تستفد من تجاربها السابقة.

ويذكر أن الولايات المتحدة لم تفعل شيئا إزاء إسرائيل التي تملصت من اتفاق أوسلو بعد انتهاء المرحلة الانتقالية (1999) في عهد الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون، ولم تفعل شيئا في عهد خلفه جورج بوش الابن ردا على تملص إسرائيل من خطة "خريطة الطريق"، رغم أن الفلسطينيين التزموا بقسطهم منها، وها هي إسرائيل لم تتجاوب مع دعوات أوباما بشأن وقف مؤقت وجزئي للاستيطان، وأطاحت بالمسعى الأميركي الخاص بالتفاوض لتسعة أشهر، بسبب رفض نتنياهو الإفراج عن الدفعة الأخيرة من الأسرى القدامى، مما أدى إلى وقف الفلسطينيين للمفاوضات.

الأنكى من كل ذلك أن الإدارات الأميركية كانت تساير -في كل مرة- صلف وتعنت إسرائيل في المفاوضات، وتملصها من الاستحقاقات المطلوبة منها، مفضلة توجيه ضغوطها إلى الفلسطينيين، وهذا ما حصل الآن إلى درجة أن الإدارة الأميركية لم تكتف بإسقاط مشروع القرار الفلسطيني -نتيجة عدم حصوله على تسعة أصوات- بالامتناع عن التصويت، وإنما تعمدت فوق ذلك التصويت بالرفض، في رسالة واضحة تؤكد فيها انحيازها المطلق للاعتبارات والسياسات الإسرائيلية، وعدم مبالاتها بحقوق الفلسطينيين والوضع الحرج الذي تضع فيه قيادتهم.

واللافت أن الإدارة الأميركية تصرفت على هذا النحو مع إدراكها أن القيادة الفلسطينية فعلت ما بوسعها كي تلقى صيغةُ مشروع القرار المقدم قبولاً منها ومن الدول الأوروبية، بحيث بات سقفه أخفض حتى مما سبق أن قررته الشرعية الدولية ومجلس الأمن بشأن قضية فلسطين طوال العقود الماضية. علما بأن المشروع المقدم لم يقطع -كما بات معلوما- الصلة مع العملية التفاوضية، وإنما حاول الوصل معها من خلال هذه التخريجة، بعد أن باتت القيادة الفلسطينية في وضع حرج أمام شعبها. وفوق ذلك، منح مشروع القرار إسرائيل فترة زمنية تقدر بثلاثة أعوام لإنهاء الاحتلال (أواخر 2017) الذي يمكن إنهاؤه في ثلاثة أيام؛ وذلك رغم مضي عقدين على توقيع اتفاق أوسلو (1993).

وقد يصح القول إن القيادة الفلسطينية ما كانت أصلا بحاجة لإدخال تعديلات على مشروع القرار العتيد، لسبب بسيط مفاده أن المعركة في مجلس الأمن الدولي هي مجرد معركة سياسية ومعنوية لإثبات الحق الفلسطيني في هذا المحفل الدولي، بمعنى أن خوضها على أساس التنازل عن هذا الحق يجعلها من دون معنى ومن دون جدوى.

ويستخلص من هذا الدرس أو هذه التجربة أن مجلس الأمن الدولي -وبالنظر للدول الكبرى صاحبة حق النقض (الفيتو)- إنما يعمل ضد مبادئ المنظمة الأممية التي تأسست لصيانة الأمن والسلم وحق الشعوب في تقرير مصيرها، ومن أجل إيجاد حلول للقضايا الخلافية بالوسائل السلمية، لأن هذه الدول تتصرف وفقا لمصالحها وليس وفقا لمبادئ المنظمة، وأيضا ليس وفق إرادة أغلبية أعضائها.

وبالتأكيد فإننا لا نحتاج إلى حادثة كفشل المشروع الفلسطيني لنؤكد هذه الحقيقة، فقد حدث مثل هذا الأمر في عديد من القضايا الدولية كقضية العراق مثلا، وكما هو واضح في العجز عن إيجاد حل للمسألة السورية رغم مصرع أكثر من ربع مليون من السوريين، وتشرد الملايين منهم (بسبب الفيتو الروسي والصيني)، ناهيك عن أنه حصل مع استخدام الولايات المتحدة الفيتو عشرات المرات دعما لإسرائيل.

مشكلة القيادة الفلسطينية هي أنها اعتبرت معركة نقل قضيتها إلى مجلس الأمن الدولي وكأنها كل شيء، أو كأن مصير قضية فلسطين سيتم تحديده في المجلس، علما بأنه لا يوجد في الواقع الدولي والإقليمي والعربي ما يفيد بذلك

القصد من ذلك هو القول إن الفشل في الأمم المتحدة لم يكن مفاجئاً بل كان متوقعاً تماماً، فحتى لو تم تأمين الأصوات التسعة اللازمة لعرض مشروع القرار الفلسطيني على التصويت، وحتى لو لم تستخدم الولايات المتحدة "الفيتو"، فإن أي قرار سيصدر لن يشكل تغييراً كبيرا على الأرض ولا في موازين القوى، لأن إسرائيل من الأساس لا تبالي بقرارات المنظمة الدولية بحكم تمتعها بغطاء الولايات المتحدة.

وفوق كل ذلك، فإن مشكلة القيادة الفلسطينية -في السير في هذا الخيار- هي أنها اعتبرت معركة نقل قضيتها إلى مجلس الأمن الدولي وكأنها كل شيء، أو كأن مصير قضية فلسطين سيتم تحديده في المجلس، علما بأنه لا يوجد في الواقع الدولي والإقليمي والعربي ما يفيد بذلك، وبالخصوص في هذه المرحلة نظرا للاضطراب الحاصل في العالم العربي.

وهذا يعني أن مشكلة الفلسطينيين كانت تكمن أساسا في الرهان على خيار التوجه إلى مجلس الأمن وحده دون استثمار غيره من الخيارات، فرغم أهمية المعركة على الصعيدين السياسي والدبلوماسي، فإن ثمة سذاجة في الاعتقاد بأن قرارا كهذا -حتى ولو صدر بموافقة جميع الأعضاء- يمكنه أن ينهي الاحتلال الإسرائيلي، أو يمكنه أن يقنع إسرائيل بالانسحاب من الأراضي الفلسطينية المحتلة.

وكانت التجربة أثبتت أن إسرائيل أطاحت بكل قرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي، حتى تلك التي تعلقت بأقل من إنهاء الاحتلال، مثل وقف مصادرة الأراضي ووقف الأنشطة الاستيطانية، وعدم القيام بما من شأنه تغيير معالم القدس، ووقف الإجراءات التعسفية بحق الفلسطينيين.

المشكلة تكمن أيضا في كيفية إدارة القيادة الفلسطينية لأحوال شعبها، وفي تحديدها لخياراتها السياسية وافتقاد خياراتها لرؤية إستراتيجية شاملة تؤسس عليها إدارة صراعها مع إسرائيل، وضمن ذلك ارتهانها لخيار المفاوضات وحده. ولعل ذلك مما يلفت الانتباه إلى أن هذه القيادة تشتغل في الإطار الدولي التفاوضي أكثر بكثير من اشتغالها على وضعها الداخلي، وأكثر من اهتمامها بانتشال الوضع الفلسطيني من حال الضعف الذي يعتريه، إن على صعيد المؤسسات الكيانية (المنظمة والسلطة والفصائل) التي تبدو مهمشة ومترهلة وبلا فاعلية، أو على صعيد تدني قدرتها على تأطير طاقات الشعب الفلسطيني التي تتعرض للتآكل على أكثر من صعيد.

وعلى أية حال وكما قدمنا، فقد باتت القيادة الفلسطينية الآن أمام لحظة الحقيقة بعد كل ما حصل، مما يفترض فيها أن تقف بشكل مسؤول وحاسم لمراجعة سياساتها وإدارتها في العمل وأن تعد لخيارات بديلة، هذا إن كانت ما زالت تملك الوقت والأهلية النضالية والشرعية لذلك، لا سيما أنها هي بالذات مسؤولة عن رفع الغطاء الدولي عن قضية فلسطين بذهابها إلى عقد اتفاق أوسلو وإلى مفاوضات لمدة عقدين، من دون التسلح بمرجعية القرارات الدولية كإطار قانوني للعملية التفاوضية ولكل ما يمكن أن يتم التوافق عليه.

فضلا عن ذلك، فإن هذه القيادة تتحمل المسؤولية لكونها -في غضون ذهابها نحو هذا الخيار- لم تهيئ شعبها ولا حتى الكيانات السياسية القائمة (المنظمة والسلطة والفصائل) على الأقل لمتطلبات مثل هذه النقلة، أو تحصنها في مواجهة التداعيات التي قد تنجم عنها.

مع أهمية المنظمات الدولية لتأكيد عدالة ومشروعية الكفاح الفلسطيني، وجلب التعاطف الدولي مع حقوق الفلسطينيين للتعويض عن الاختلال في موازين القوى، فإن إسرائيل لا تبالي البتة بأية قرارات دولية

وواضح أن القيادة الفلسطينية مطالبة الآن بتحويل وعودها بانتهاج خيارات بديلة من حيز الخطابات الإنشائية -أو الاستهلاكية- إلى حيز الخطوات العملية، ولعل أول خطوة في هذا الاتجاه تتمثل في التوجه نحو التوقيع على عضوية فلسطين في كافة المنظمات الدولية بما فيها المحكمة الجنائية الدولية؛ وهو ما حصل أخيرا بالتوقيع على اتفاقية روما.

بيد أن هذا التوجه لا يحل المشكلة، فمع أهمية المنظمات الدولية لتأكيد عدالة ومشروعية الكفاح الفلسطيني، وجلب التعاطف الدولي مع حقوق الفلسطينيين للتعويض عن الاختلال في موازين القوى، فإن إسرائيل لا تبالي البتة بأية قرارات دولية نظرا للحصانة التي تتلقاها من الولايات المتحدة الأميركية.

والقصد من ذلك أن على الفلسطينيين حسم أمورهم بالذهاب نحو تغيير المعادلات السياسية التي اشتغلوا عليها منذ توقيع اتفاق أوسلو، ويأتي في مقدمة ذلك وقف التنسيق الأمني لأنه ليس من مهمات السلطة حماية أمن إسرائيل والمستوطنين، وإنما من واجبها بث روح الصمود عند الفلسطينيين وبلورة أشكال المقاومة الشعبية المناسبة والممكنة ضد الاحتلال. كما تأتي في هذا الإطار الإجراءات المتعلقة بتعزيز مسارات مقاطعة إسرائيل ونزع الشرعية عنها، وهي مسارات ظلت القيادة الفلسطينية بعيدة عنها لإثبات أهليتها للتسوية مع إسرائيل، من دون جدوى أو من دون أي ثمن مقابل.

ويبقى أن الأساس في كل هذه العملية هو توجه الفلسطينيين نحو إعادة بناء البيت الفلسطيني، أي إعادة بناء كياناتهم السياسية الجمعية (المنظمة والسلطة والفصائل والاتحادات الشعبية) -التي باتت مهمشة ومستهلكة ومتدنية الفاعلية- على قواعد وطنية وتمثيلية وديمقراطية ومؤسسية. وبالتأكيد فإن إعادة البناء هذه لا يمكن أن تتم إلا على أساس رؤية سياسية إستراتيجية تتضمن استعادة الحركة الوطنية الفلسطينية لطابعها بوصفها حركة تحرر وطني.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.